عناصر الخطبة
1/السخط مفتاح للشرور 2/غياب القناعة ظاهرة منتشرة بين الناس 3/حقيقة القناعة وأهميتها 4/ثمرات القناعة وفوائدها 5/كيف نغرس القناعة في قلوبنا؟اقتباس
القناعة هي الرضا بما قسَم الله، ولو كان قليلا، والبعد عن التسخّط والشكوى، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، استغناءً بالموجود، وتركًا للتشوف إلى المفقود، وأن يكتفي المرء بما يملك، ولا يطمع فيما لا يملك، وهي من النِّعَم العظيمة التي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنونَ: إن الناظر إلى حال الناس اليوم يرى عجبا من شدة تنافسهم على حطام الدنيا الزائل، والأمر لا يتوقف في واقعِ كثيرينَ عند الحلال مما يباح للإنسان أخذُه؛ بل تعدَّاه إلى أكل الحرام، ومدّ اليد إلى حقوق الآخرينَ؛ فكثرت المظالمُ بين الناس، وَمَنْ لا يستطع التعديَ على حقّ غيره امتلأ قلبُه حسدًا لِمَا عند فلان ممن بُسطت له الدنيا؛ فكل ذلك سببه غياب القناعة والرضا بما قسَم الله، الذي يفتح أبوابا كثيرة من أبواب الشر، وأقلها أن يموت القلب بالحسرة حسدًا وغمًّا؛ فما كل ما يَطمع فيه الإنسانُ يناله، ويزداد التسخط في الناس وعدم الرضا بما رُزقوا إذا قلَّت فيهم القناعة، وحينئذ لا يُرضيهم ما رزقهم الله حيث يريدون الزيادةَ ولو من حرام، ولن يُشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى مَنْ هم فوقهم فيزدرون نعمةَ اللهِ عليهم، ومهما أُوتوا ما طلبوا فإنهم يطلبون المزيد، وَمَنْ كان هذا حاله فلن يحصِّل السعادةَ أبدا، وأنى له ذلك؟! يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"؛ فكم من تَعِبٍ يلهث في جمع المال وما يزداد إلا فقرًا، وغيره ينسكب المال عليه وهو جالس مرتاح البال؛ فتلك أرزاق الله يقسِّمها كيف يشاء؛ فلحكمة جَعَلَ ذلك غَنِيًّا، ولحكمةٍ جَعَلَ ذاك فقيرًا.
عبادَ اللهِ: إن القناعة كنزٌ نفتقده في حياتنا المعاصرة اليوم؛ فهناك صور متضادة في الحياة نشاهدها ونعايشها، اختلف أصحابها في المعاناة واتفقوا في الشكوى بعدم الرضا عن حالهم وعدم القناعة بما هم عليه من نِعَم؛ فهذا فقير يشتكي فقره، والعَجَب مِنْ غَنِيٍّ تَعِبَ من كثرة ماله فهو يشتكي أيضا ويئنّ، ربما أكثر من شكوى الفقير، تأتي إليه وكلامُه كله تضجُّر وتبرُّم وشكوى من كساد الأسواق وقلة الربح!!، وذاك موظف ملَّ من وظيفته فهو شاكٍ في كل وقت، متثاقل الخطوات وهو ذاهب لعمله، وبالمقابل هناك عاطل ودَّ لو حصَّل عملًا، وطالِبٌ يتهرب من دراسته يشكو منها، وجاهل يتحسر على تركه للدراسة.
صغيرٌ ودَّ لو كَبِرَ *** كبيرٌّ ودَّ لو صَغُرَا
وخالٍ يشتهي عملًا *** وذو عملٍ ترى ضَجِرَا
وَرَبُّ المالِ في تعبٍ *** وفي تعبٍ مَنِ افْتَقَرَا
أيها الإخوة: والقناعة تعني الرضا بقسمة الله وعدم الاعتراض والتسخط؛ فالله قسم الأرزاق بين خلقه لحكمة يعلمها -سبحانه وتعالى-؛ (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)[الزخرف: 32].
عبادَ اللهِ: إن القناعة عمل قلبيّ عظيم، يجني صاحبه ثمرات عظيمة في إيمانه وسلوه؛ فمن تلك الثمرات:
زيادة الإيمان وشعور القلب بالرضا والسعادة: فرَوِّضْ نفسَكَ على القناعة؛ ليطمأن قلبُكَ، وينشرح صدرك، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله، وَأَجْمِلُوا في الطلب".
ومن فوائد القناعة: ظفر صاحبها بالحياة السعيدة؛ كما قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97]، قال علي وابن عباس -رضي الله عنهما-: "الحياة الطيبة القناعة".
ومن فوائدها: القيام بشكر المتفضل سبحانه بالنعم والعطايا؛ فقد جاء في الحديث: "كُنْ ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قانعًا تكن أشكر الناس"(صححه الألباني).
ومن فوائد القناعة: تحقق الفلاح لصاحبها؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "طوبى لمن هُدِيَ إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع"، وعند مسلم قال -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه".
ومن فوائد القناعة: أنها تحمي صاحبها من الوقوع في أمراض القلوب؛ كالحسد والغيبة والنميمة؛ فالقنوع سخي النفس راضٍ لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، قد صفَّى قلبَه من الحسد والطمع والحقد على الآخرين.
ومن فوائدها: حصول الغنى، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس"(متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر! أترى كثرة المال هو الغنى؟"؛ فقلتُ: نَعَمْ يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟"، فقلت: نَعَمْ يا رسول الله، قال: "إن الغنى غنى القلب وإن الفقر فقر القلب"(رواه ابن حبان).
هي القناعة لا ترضى بها بَدَلًا*** فيها النعيم وفيها راحة البدنِ
انظر لِمَنْ مَلَكَ الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير القُطْنِ والكفنِ
عبادَ اللهِ: فليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسَّع اللهُ عليه في المال لا يقنع بما أُوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو مَنِ استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألَحَّ في الطلب؛ فكأنه غني، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"(الترمذي وأحمد).
إذا ما كنتَ ذا قلب قنوعٍ *** فأنتَ ومالك الدنيا سواءُ
ومن فوائدها: العز والكرامة؛ كما في الحديث: "شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس"(رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني).
قال حكيم بن حزام سألت النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ فأعطاني، ثم سألته؛ فأعطاني، ثم سألته؛ فأعطاني، ثم قال: "يَا حَكِيمُ، إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى"(متفق عليه).
لقد نهى الله -تعالى- نبيه أن يتطلع الى ما عند الناس من زينة الحياة الدنيا: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه:131-132].
أقول ما سمعتُم وأستغفر الله -تعالى- فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، وآله وصحبه، ومَنْ تبعه، وبعد:
عبادَ اللهِ: فإذا أراد المرء منا أن يعالِج نفسَه من الطمع فعليه بالقناعة وليتأمل نِعَمَ اللهِ عليه؛ فكلُّ نعمة هو فيها ليس لها ثمنٌ، ولينظر إلى مَنْ هو أسفل منه في الرزق والمعاش، والنفسُ بحاجة إلى مِرَانٍ وتدريب وعدم إطالة النظر فيما عند الناس.
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
واعلم أن الله -سبحانه- حينما قسَّم الأرزاق وقدَّر المقادير، إنما ذلك بحكمته -جلا وعلا-؛ فلا تدري لعل ما كتب الله لك من فقر خير لك من مال يطغيك:
النفس تجزع أن تكون فقيرة *** والفقر خيرٌ من غِنًى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت*** فجميع ما في الأرض لا يكفيها
عبدَ اللهِ: اعلم أن ما أنتَ فيه من نِعَم كثيرة من صحة وعافية وَأَمْنٍ لا يقدَّر بثمن، أما ترى كثيرًا من أصحاب الأموال لو قَدَرُوا على شراء العافية بذهاب أموالهم كلها لَمَا تأخروا، قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا"(الترمذي وابن ماجه)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -عليه الصلاة والسلام-: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ"(متفق عليه).
فإذا كنتَ فقيرا فغيرُك مهموم بالدين، إذا كنتَ لا تمتلك سيارة فغيرك مبتور القدمين؛ فارضَ بما قسَم اللهُ لكَ من نعم؛ فلنعمة واحدة تعدل بما عند غيرك من أموال وتجارة وعمارات، غيرُكَ راقدٌ على سرير المرض منذ سنوات لا يستطيع أن يحرك رِجْلًا ولا يدًا واحدةً؛ فالحمد لله على نعمه التي لا تُعَدّ ولا تُحصى.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصَّلاة والسَّلام عليه بقوله: (إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النَّبيِّ، يا أيُّها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً)[الأحزاب 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم