الـوَاحِـدُ الأَحــَدُ –جل جلاله-

د عبدالله بن مشبب القحطاني

2020-12-08 - 1442/04/23 2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/وجوب توحيد الواحد الأحد سبحانه 2/معنى اسم الله الواحد وحقيقة وحدانيته 3/لوازم الإيمان بالله الواحد الأحد ومقتضاه 4/استحقاق الواحد الأحد للعبادة 5/فضل توحيد الواحد الأحد عز وجل.

اقتباس

فَهُوَ وَحْدَهُ فِي ذَاتِهِ؛ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ؛ لَا مَثِيلَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ؛ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ؛ وَوَاحِدٌ فِي أُلُوهِيَّتِهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ نِدٌّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي عَظُمَتْ صِفَاتُهُ؛ حَتَّى تَفَرَّدَ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُحِيطُوا بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ يُدْرِكُوا شَيْئًا مِنْ نُعُوتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَمَّا بَعْدُ: جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تَعْصِنِي! فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ؛ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمَ: يَا رَبِّ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: إِنِي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ! مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ".

 

إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَا يَقْبَلُ شَفَاعَةَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُشْرِكًا، وَاللَّهُ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ كَافِرٍ مُشْرِكٍ، وَلِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ لَا يُخْزِيَهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّهُ يَمْسَخُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَبَاهُ ضَبْعًا، فَيُلْقَى بِهِ فِي النَّارِ، فَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ أَنَّهُ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ، فَلَا يُخْزَى بِهِ؛ فَشَفَاعَةُ خَلِيلِ اللَّهِ لَمْ تُقْبَلْ فِي مُشْرِكٍ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟! قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 48].

 

وَلِذَا؛ فَإِنَّ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْعَبْدِ: تَوْحِيدَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَفْسَهُ بِـ "الْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ"؛ فَقَالَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الْإِخْلَاصِ: 1]، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[التَّوْبَةِ: 31].

 

وَنَقِفُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ مَعَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ نَتَفَيَّأُ فِي ظِلَالِهِمَا؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا تَحْقِيقَ تَوْحِيدِهِ، وَحُسْنَ الْإِيمَانِ بِتَفَرُّدِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ: رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ- الْمُتَفَرِّدُ بِصِفَاتِ الْمَجْدِ وَالْجَلَالِ، الْمُتَوَحِّدُ بِنُعُوتِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَمَالِ؛ فَهُوَ وَحْدَهُ فِي ذَاتِهِ؛ لَا شَبِيهَ لَهُ.

 

وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ؛ لَا مَثِيلَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ؛ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ؛ وَوَاحِدٌ فِي أُلُوهِيَّتِهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ نِدٌّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ.

 

وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي عَظُمَتْ صِفَاتُهُ؛ حَتَّى تَفَرَّدَ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُحِيطُوا بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ يُدْرِكُوا شَيْئًا مِنْ نُعُوتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنَهَا.

 

وَالْوَحْدَانِيَّةُ؛ هِيَ خُلَاصَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَقِوَامُ رِسَالَاتِهِمْ؛ (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 108].

 

وَالْوَحْدَانِيَّةُ؛ هِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَمِيثَاقُهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَدَعْوَةُ رُسُلِهِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا، وَمَنْطُوقُ كُتُبِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا.

 

وَمِنْ أَجْلِهَا قَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَسُوقُ النَّارِ، وَبِسَبَبِهَا مُدَّ الصِّرَاطُ، وَتَطَايَرَتِ الصُّحُفُ، وَوُضِعَ الْمِيزَانُ، وَسُلَّ سَيْفُ الْمِلَّةِ، وَرُفِعَ عَلَمُ الْجِهَادِ، وَطَارَتْ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ، وَلَذَّ طَعْمُ الْمَوْتِ، وَأَمْهَرَتِ الْمَنَايَا نُفُوسَ الْمُقَاتِلِينَ؛ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)[فُصِّلَتْ: 6].

 

وَفِي تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَوُجُوبِ إِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 163].

 

وَأَوْجَبَ الْجَبَّارُ الْخُضُوعَ لِوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)[الْحَجِّ: 34].

 

وَقَدْ أَبْطَلَ عَقَائِدَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)[النَّحْلِ: 51]، (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[يُوسُفَ: 39].

 

وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[النِّسَاءِ: 171].

 

وَنَفَى الْمِثْلَ وَالنِّدَّ وَالْكُفْءَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ-: الْأَحَدُ الَّذِي لَا مَثِيلَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ؛ (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مَرْيَمَ: 65].

 

وَنَهَانَا أَنْ نُشَبِّهَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَخُلُوقَاتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَخْبَرَنَا عَنْ نَفْسِهِ؛ وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ.

 

وَكُلُّ مَا خَطَرَ فِي بَالِ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ؛ فَاللَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلَا نَظِيرٌ وَلَا شَبِيهٌ وَلَا مَثِيلٌ؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشُّورَى: 11]؛ فَلَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلْيَا، وَلَهُ الْكَمَالُ وَالْجَمَالُ وَالْجَلَالُ وَالْعَظَمَةُ وَالْمَجْدُ وَالْكِبْرِيَاءُ.

 

قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ صِفْ لَنَا رَبَّكَ! أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ نُحَاسٍ أَمْ صُفْرٍ؟ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ! وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: نَحْنُ نَعْبُدُ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، وَكَانَتِ الْمَجُوسُ تَقُولُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ؛ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِجَوَابٍ مُفْحِمٍ بِقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الْإِخْلَاصِ: 1].

 

تَجَرَّؤُوا عَلَى اللَّهِ، وَجَاؤُوا بِجَرِيمَةٍ نَكْرَاءَ، كَادَتِ السَّمَاوَاتُ لِعَظَمَتِهَا تَنْفَطِرُ، وَالْأَرْضُ تَنْشَقُّ، وَالْجِبَالُ تَخِرُّ هَدًّا!! أَنْ نَسَبُوا لِلَّهِ الْوَلَدَ -تَعَالَى- اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ!.

 

فَالْكُلُّ تَحْتَ مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مَرْيَمَ: 89 - 95].

 

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي! وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي! وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ؛ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ مَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ؛ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ؛ الَّذِي لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ".

 

فَاللَّهُ -تَعَالَى- إِلَهٌ وَاحِدٌ؛ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ فِي ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَكُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ إِبْدَاعٍ وَنِظَامٍ وَتَوَافُقٍ وَانْسِجَامٍ؛ يَدُلُّ عَلَى: أَنَّ مُبْدِعَهُ وَمُدَبِّرَهُ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ وَرَاءَ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِنْ مُدَبِّرٍ وَأَكْثَرُ مِنْ مُنَظِّمٍ؛ لَاخْتَلَّ نِظَامُهُ، وَاضْطَرَبَتْ سُنَّنُهُ؛ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 22].

 

تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ *** إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ

عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ *** بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ

عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ *** بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ

 

فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ الْعِبَادَةَ؛ فَلَا يَتَوَجَّهُ الْعَبْدُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَصْرِفُ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَاتِ: صَلَاةً كَانَتْ أَوْ دُعَاءً أَوْ ذَبْحًا أَوْ نَذْرًا أَوْ تَوَكُّلًا أَوْ رَجَاءً أَوْ خَوْفًا أَوْ خُشُوعًا أَوْ خُضُوعًا؛ (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الْأَنْعَامِ: 62- 63].

 

فَالْقَضِيَّةُ الْعُظْمَى هِيَ: إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادِةِ؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56]، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[التَّوْبَةِ: 31].

 

فَالتَّوْحِيدُ أَلْطَفُ شَيْءٍ وَأَنْزَهُهُ وَأَصْفَاهُ، فَأَدْنَى شَيْءٍ يَخْدِشُهُ وَيُدَنِّسُهُ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، صَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)، وَصَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلُهُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا؛ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدَ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ"(حَدِيثٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ).

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: جَاءَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَحُثُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَتُبَيِّنُ فَضْلَهُ، مِنْهَا:

 

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ؛ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيَدَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ! قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ؛ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ).

 

وَدَخَلَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ وَسَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو: اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ: أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ؛ فَقَالَ اللَّهُ: "قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ" ثَلَاثَ مِرَارٍ"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ).

 

وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا كَانَ يَدْعُو بِإِصْبَعَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ: "أَحَدٌ أَحَدٌ!"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، وَفِيهِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُشِيرَ فِي الدُّعَاءِ؛ فَلَا يُشِيرُ إِلَّا بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ يَا وَاحِدُ.. يَا أَحَدُ.. يَا صَمَدُ! أَنْ تَجْعَلَنَا مِمَّنْ دَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، وَمِمَّنْ تَضَرَّعَ إِلَيْكَ فَرَحِمْتَهُ، وَمِمَّنِ اسْتَجَارَكَ فَأَجَرْتَهُ مِنَ النَّارِ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.

 

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات

الـوَاحِـدُ الأَحــَدُ –جل جلاله-.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات