العفاف

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/شرف العفاف والأمر به 2/أروع صور العفاف 3/أحوال الناس مع العفاف وأعلى مقامات العفاف 4/الحاجة إلى التذكير بالعفاف

اقتباس

أيها المؤمنون: "العفاف" كلمةٌ عظيمة، ومطلبٌ جليل؛ يطمع في نيله الشرفاء والفضلاء، والكرماء والنزهاء، ولا يرضى أحدٌ لنفسه ولا لذويه أن يُنسب إلى ضدِّه ونقيضه من فسقٍ أو فجورٍ أو خنًا، أو غير ذلك. والعفاف زينة الشرفاء، وحِلية الفضلاء، وجمال الكرماء؛ كرماءِ النفوس، وكرماءِ الأخلاق، ممن يعنيهم جدا حفظُ كرامتهم، وشرفهم، وصيانةُ نزاهتهم وأدبهم، فيتجمَّلون إذا تجمل الناس بأنواع الحلية يتجمَّلون بالأخلاق والفضل، وتحقيق الكرامة. وعندما نتحدث عن العفاف نجِد العفاف بأروع صوره وأبهى حُلله في...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلِّغُ الناسِ شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإنَّ في تقوى الله -جلَّ وعلا- خَلَفاً من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف.

 

أيها المؤمنون: "العفاف" كلمةٌ عظيمة، ومطلبٌ جليل؛ يطمع في نيله الشرفاء والفضلاء، والكرماء والنزهاء، ولا يرضى أحدٌ لنفسه ولا لذويه أن يُنسب إلى ضدِّه ونقيضه من فسقٍ أو فجورٍ أو خنًا، أو غير ذلك.

 

عباد الله: والله -عز وجل- أمر عباده بالعفاف، وأمر به نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ويترتب على العفاف من الآثار والخيرات الغِزار في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله -تعالى-، قال الله -عز وجل-: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 33]، واللام في قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ) لام الأمر، والسين للطلب؛ أي ليعمل كلُّ مسلم وليسْعَ لتحقيق العفاف، والبعد عن نواقضه ونواقصه وخوارمه، وليجاهد نفسه على ذلك، والله معه مُعِيناً ومسدِّداً وحافظاً ومغْنيا.

وفي جامع الترمذي بإسنادٍ جيد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ".

 

أيها المؤمنون: والعفاف زينة الشرفاء، وحِلية الفضلاء، وجمال الكرماء؛ كرماءِ النفوس، وكرماءِ الأخلاق، ممن يعنيهم جدا حفظُ كرامتهم، وشرفهم، وصيانةُ نزاهتهم وأدبهم، فيتجمَّلون إذا تجمل الناس بأنواع الحلية يتجمَّلون بالأخلاق والفضل، وتحقيق الكرامة.

 

عباد الله: وعندما نتحدث عن العفاف نجِد العفاف بأروع صوره وأبهى حُلله في عظماء الناس، وكرماء العباد، وتأملوا في هذا المقام قصة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف -عليه السلام-، فقد ضرب في العفاف أروع مثل.

وذلكم -عباد الله- عندما دعته امرأة العزيز في قصةٍ جاءت في سورة يوسف في آيات عظيمة تُتلى من كلام الله -تبارك وتعالى-، وقد تنوَّعت الدواعي والدوافع؛ فكان عليه السلام شاباً، والشباب مركب الشهوة. وكان عزَباً ليس عنده ما يعوِّضه. وكان غريباً، والغربة مظِنَّة التهاون. وكان جميلاً أعطي شطر الحُسن، ومن كان كذلك يُرغب فيه ما لا يُرغب في غيره. وكانت المرأة - امرأة العزيز- الداعية له: ذاتَ منصبٍ وجمال. وكانت في بيتها وسلطانها. وغلَّقت الأبواب. وتزيَّنت وتجملت وتعطَّرت. وأتته بالرغبة والرهبة.

 

ومع هذه الدوافع كلها إلا أنه عليه السلام عفَّ لله ولم يُطعها، وقال: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف: 23]، ولما تمالأت هي ونسوة المدينة على هذا الأمر وجاهَدْنه عليه، قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)[يوسف: 33-35]، وفعلاً سُجِن عليه السلام ولبث في السجن بضع سنين؛ قيل: سبع سنوات، وقيل : ثنتا عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة؛ مكثها عليه السلام في السجن لعفَّته ونزاهته، وكم هم أولئك من الخلق الذين دخلوا السجون لهتْك الأعراض، وانتهاك الحُرَم.

 

أيها المؤمنون: العفافُ يتفاوت أهله والمتصفون به في بواعثه وأسبابه؛ وأعظم ذلك وأجلُّه أن يعَفَّ العبد حياءً من الله وخوفاً من سبحانه وتعظيماً لجنابه، وهذا أعلى المقامات وأرفعها.

ومن الناس من يعِفّ خوفاً من فوات نصيبه وأجره من الحور العِين يوم القيامة؛ فإن من صرَف متعته في هذه الدنيا في الحرام حُرم من المتعة بحور العين في دار القرار. ومن الناس من يحمله على العفاف خوفُ العقوبة وخوف النار. ومنهم من يحمله على العفاف أمرٌ دون ذلك وهو خوف الفضيحة وخوف العار أو خوف الإصابة بالأسقام والأمراض، فيكون نظره إلى أمر دنيوي ولا يكون نظره إلى أمرٍ أخروي، فيتجنَّب الفاحشة والرذيلة خوفَ أسقامها وأمراضها وأضرارها، إلى غير ذلكم من البواعث والدوافع مما يتفاوت فيه أهل العفاف.

 

وآخرون -عباد الله- من الهمَل لم يبالوا بذلك كله ولم يلتفتوا إلى شيء منه فوَلَغوا في الفاحشة وانغمسوا في الرذيلة غير آبهين ولا مبالين.

وهؤلاء -عباد الله- وإن كان الواحد منهم يظفر بلذة إلا أنها لذةٌ فانية يعقُبها في الدنيا نكدٌ وغصص، وفي الآخرة عقوبةٌ وحسرات.

وأما العفة فإنها لذةٌ لا تُقارن إطلاقا بلذة قضاء الوطر من الحرام. ما أجمل حياة أهل العفاف! وما أجمل موقفهم، وما أهنأهم بعفتهم!

 

انظروا إلى صورةٍ مشرقة ما أروعها وما أبهاها وما أجملها! عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة عالِمُ المدينة -رحمه الله تعالى- بُترت قدمه اليسرى بسبب آكلةٍ أصابتها، وقالوا له عندما أرادوا بترها: أنأتي لك بمُرْقِد -أي مسكِّن- فامتنع من ذلك، وبتروا له قدمه، نشروها بالمنشار دون أن يتحرك منه عضو أو أن يُسمَع منه تألم، ثم نظر إلى قدمه في أيديهم وأخذها منهم وأمسكها بيده ونظر إليها وقال: "الحمد لله، والذي حملني عليك إنه ليعلم أنني ما مشيتُ بكِ إلى حرام قط"؛ انظروا هذه الحلاوة وهذا الحمد العظيم على نعمة العفاف! ولهذا نظائر وصور كثيرة يطول المقام بذكرها.

 

أيها المؤمنون: ومن الدعوات العظيمة الجليلة في هذا المقام ما ثبت عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى".

 

نسأل الله -عز وجل- لنا ذلك، وأن يجعلنا جميعاً وذرياتنا من أهل العفاف، وأن يجنِّبنا أجمعين الرذيلة ومواطن الانحراف إنه جلَّ وعلا سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أَما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا اللَّه -تعالى- وراقبوه، راقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أَن ربَّه يسمعُه ويراه.

 

أيها المؤمنون: ما أحوجنا بل وما أمسَّ حاجتِنا أن نذكِّر أنفسنا بالعفاف وفضلِه، ولا سيما في مثل هذا الزمن الذي انفتحت على الناس فيه أبوابٌ وشرورٌ متنوعات؛ تسلب العقول، وتأسِر الأذهان، وتُفسد القلوب، وتجلب الشرور، ولا عاصم من ذلك إلا الله، وفي خضمِّ هذه الفتن المهلكات والدواهي المردِيات يجب على العبد أن يربأ بنفسه، وأن يركب سفينة العفاف لينجوَ من الفتن المتلاطمات والأمواج المهلكات ملتجأً إلى رب الأرض والسموات يطلبه جلَّ في علاه أن يكتب له النجاة، وأن يحقِّق له العفاف؛ وليكن مع نفسه متذكراً وقوفه بين يدي الله، وأنَّ ربَّ العالمين سائله، وأنَّ في يوم القيامة جزاءً وحسابا وجنةً ونارا، وأنَّ ما يقوم به في هذه الحياة من عمل سيلقاه حاضراً يوم القيامة (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)[النجم: 31].

 

والكيس -أيها المؤمنون- من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

 

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.

 

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وأعِنه على طاعتك يا حي يا قيوم.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

 

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أنت الغني ونحن الفقراء أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا، هنيئاً مريئا، سحًّا طبقا، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا عذابٍ ولا غرق.

 

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].

 

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].

المرفقات

العفاف

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات