الظلم وصوره

د. منصور الصقعوب

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ عظم شأن الظلم وتحذير القرآن منه 2/ بعض صور الظلم المتعلقة بالأسرة 3/ بعض صور الظلم المتعلقة بالمجتمع

اقتباس

إن مما يقرره العلماء: أن الله ذكر الظلم في القرآن لا مرة ولا مرتين, بل ذكره مائتي مرة, في آياتٍ متكاثرة, في التحذير منه، وفي ذكر صوره، وفي عقوبة أهله، وشناعة فعلته, وهو جدير أن يحذر منه كل هذا التحذير, فكم ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الأمر حين يذكره الله في القرآن، فإن هذا دليل على الاعتناء به لأهميته, وإذا كان في الأمر يذكره مرة واحدة فما الشأن حين يذكر مرات.

 

وإذا كان الحديث في الجمعة الماضية هو عن الظلم, فإن مما يقرره العلماء: أن الله ذكر الظلم في القرآن لا مرة ولا مرتين, بل ذكر مائتي مرة, في آياتٍ متكاثرة, في التحذير منه، وفي ذكر صوره، وفي عقوبة أهله، وشناعة فعلته, وهو جدير أن يحذر منه كل هذا التحذير, فكم يردع النفس قول الحق: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص:59]؟

 

وكم يمنع من الظلم قول المولى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111]؟

 

وكم يزعُ النفوسَ عنه قول الله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:227]؟

 

وإذا كان قد سبق معنا ذكر عظيم شأن الظلم، فإن ثمة صورًا في مجتمعنا هي من الظلم, قد يقع البعض فيها وهو يشعر أو ربما لم يشعر بذلك, ومن المهم أن ينبه عليها، وأن يسعى لردها, من باب نصرة الظالم والمظلوم.

 

وحين تذكر مثل هذه الصور فليس بالضرورة أن تكون صوراً شائعة، بل الأصل في المجتمع المسلم العدل والفضل, ووجود صورٍ من الظلم فيه تجعلنا نتعاون على رفعها ودفعها, ليبقى المجتمع بإذن الله مجتمع عدل، فيكونَ أهلاً للخير من الرب العدل, والله عدل يحب العدل وأهله, ولا يرضى الظلم، ويبغض أهله, بل إنه كما قرر ابن تيمية قد ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة, ويخذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.

 

والحديث عن صور الظلم يجعلنا ندخل البيوت, وفي البيوت من ذلك أنين وشكوى, وظلم يقع أحياناً من ذوي القربى, وهو أِشد وقعاً, وبين يديك أعرض صورًا منها.

 

فالزوجة ربما ظلمت حين يدخل الزوج عليها وقد أخذت عليه شروطًا، وما إن يحصل الزواج إلا وينقض عهوده ولا يوفي بما أخذ عليه, فيضع الزوجة أمام الواقع, مستغلًا ضعفها, وليس لها إلا أن ترضخ وتتنازل عما اشترطت.

 

وربما ظُلمت حين يجور الزوج في حقها, فيتزوج عليها بأخرى, ولم يفعل الزوج جريمة حين يعدد بل فعل أمرًا من سنن المرسلين, واقتدى بالنبي الكريم -عليه الصلاة والتسليم- لكن الإشكال جاء حين حطّ الظلم رحاله في البيت, فالزوج ربما حرمها من بعض حقوقها, أو فضّل الأخرى عليها, بهبة أو سفرٍ أو مبيت أو غيره, وربما كانت إحداهما في قصر مَهيب والأخرى في بيت كئيب, وهو ذو جِدة ومقدرة, وربما شكت بعض الزوجات الهجران فالزوج لا يلقي لها بالًا, ولا تراه إلا لمامًا, وغيرها من الزوجات لا يفارق سواده سوادَهم, ولا يفقدونه في صباحهم ومسائهم,  إلى غير ذلك من صور الظلم التي تقع من بعض الأزواج حين جاروا في حق زوجاتهم, وربما ظلت بعض الزوجات لا مطلقة فترتاح ولا متزوجة فتعيش كالزوجات, وبمثل هؤلاء الأزواج ساءت صورة التعدد, ويظل الخلل يلحق حتى الأبناء, فتحصل القطيعة بين الإخوة لأجل ظلم والدهم وجورهم مع واحدة دون أخرى, ونفسه ضرّ وما علم.

 

وصورة من الظلم أخرى تعيشها بعض الزوجات حين يسطو الزوج على مالها, أو يأخذ من راتبها أو إرثها, إما بدون علمها, أو بعلمها ورغمًا عنها, أو يأخذه برضاها ويظهر العزم  على الوفاء, وباطنه منطوٍ على مطلها، وعدم وفاء حقها.

 

وكم أنّت بعض الزوجات من ظلم زوجها حين أخذ ما جمعته سنين, فجحد مالها وإن اعترف به لم يوف لها, وهو متكئ على ضعفها، وينسى أن الله  قوي، وقد تكفل بنصرة المظلوم, ليست هذه دعوةٌ لإغلاق باب التعاون بين الزوجين في المال, لكنها دعوة للوفاء بالعهود, والمال ملك لصاحبه ولا يحل مال مسلم إلا بطيب نفسٍ منه, وفي القرآن: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) [النساء: 4].

 

وسوء العشرة، وقسوة المعاملة، وربما الضربُ والإهانة، صور من صور الظلم، ربما صدرت من البعض في حق من هي تحت يده, وليست هذه أفعال الكرام, وهي أبعد ما تكون عن أخلاق الإسلام.

 

وإهمال البيت، وعدم المكث فيه بين الأولاد والزوج سمة تصدر من بعض الأزواج, فهو لبيته هاجر، ولمجلس أصحابه عامر, لا يعرف بيته إلا في أوقات الراحة, إن جاء فبوجه عبوس, ولسان بذيء, ويدٍ مغلولة عن الإنفاق، مبسوطةٍ في البطش والضرب, وتلك صورة من صور الظلم تشكو منها بعض البيوت, فقدت معها طعم السعادة والحياة الزوجية.

 

عباد الله: وإلى صورة أخرى من الظلم في البيوت, وهي: عضل البنت عن الزواج, وردّ الخطاب لأتفه الأسباب, ولربما تقدمت السن بالبنت,  وقلّ الطارق, وأحجم الراغب, إما لغلاء المهر, أو للشروط المنفرة, أو للردّ الصريح, وتظل الفتاة تئن من ظلم وليها, وفي أقوال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه".

 

وصورة أخرى من الظلم -أيها الكرام- تقع حينما يموت المورث فيستحوذ الذكور على الإرث, ويحرموا الإناث منه أو من بعضه, أو ربما كان الحرمان بتأخير القسم, فيظل إرثُ المرأة -من زوجة أو بنت للمتوفى- سنواتٍ لا ترى منه شيئًا, وربما كانت في أمس الحاجة إليه, أو ربما جُعل من نصيبها ما يُرغب عنه, وللذكور ما يُرغب فيه, فتسكت على مضض, إما لأجل إخوتها, أو لقلّة حيلتها, وتلك صورة من الظلم قد تقع عند البعض حين يتولون قسمة ميراث  بين إخوة وأخوات.

 

معشر الكرام: والظلم يقع من بعض الآباء حين يفضل البناتِ على الأبناء أو بالعكس, يفضل في أعطية وهبة, أو غير ذلك, وربما كان لهذا الأثر الذي يغرس في النفوس فرقةً بين الإخوة, بذرتُه رعاها الأب بتفريقه بينهم, وقد نقل الترمذي في سننه أن السلف كانوا يستحبون أن يسوي الأب بين أولاده حتى في التقبيل, فكيف بما هو أرفع من هذا, فهل نعي -معشر الآباء- هذا الأمر, ونغلقُ باباً لطالما أثر في نفوس الأولاد, وربما لم يُرِعه الأب بالًا, لكن الشيطان يستغل الفرصة فيوغر صدر الولد من ذكر أو أنثى على الأب، وعلى من فُضِّل من الأولاد, وبالعدل قامت السماوات والأرض, وفي مقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

عباد الله: وصور الظلم تتجاوز البيوت لتطال عددًا من أفراد المجتمع, فالمعلم ربما ظلم بعض طلابه حين يبخس حقه، ولم يعطه ما يستحقه من الدرجة, وحين يشدد على بعض ويتسمح مع بعض, وظلمه لهم أيضًا حين لا يقوم بعمله على وجهه، فيظلم طلابه إذ لم يعطهم العلم على وجهه، ويظلم المجتمع بأكمله، حين يخرج لهم جيلًا لم ينل العلم الذي يؤهله للقيام به.

 

وصاحب العمال والأجراء ربما ظلم وجار حين يؤخر عن عماله حقوقهم, أو ينقص منها دون مسوغ لذلك, أو يشق عليهم ويكلفهم ما يغلبهم, وفي الحديث: " قال الله -تعالى- ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: ومنهم رجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" [رواه البخاري].

 

فماذا يقول الذي حرم عماله من أجورهم شهوراً وسنين, وهل هذا إلا من الظلم الذي به تمحق البركات وتحلّ الهلكات؟!

 

والمرء قد يظلم جاره حين يؤذيه بضجيج ونحوه، أو تعدي أولاده على حرمة بيته, وللجار الحق الكبير: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".

 

والمرء قد يظلم نفسه بوقوعه في ما حرم الله, وولوغه في معصية الله, فعرض نفسه للعذاب, وللمقت من رب الأرباب, وأشنع الظلم شركه بالله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].

 

عباد الله: وظلم من ولي أي أمرٍ من أمور المسلمين, حين يقصر في عمله فلا يقوم به, أو يتخوض في أموال المسلمين بغير حق, ويأخذ منها حين يغيب عنه الرقيب, وليعلم مثل هذا أن خصماءَه يوم القيامة هم كل الأمة.

 

أيها الإخوة: ويُظلم المجتمع حين يُساق إلى ما لا يريده الله ولا عباد الله, وحين يسعى ربائب الغرب من بني جلدتنا إلى التطاول على حدود الدين, حين يكون الشغل الشاغل لبعضهم إخراجَ المرأة من بيتها, وتطبيقَ المشروع التغريبي في بلاد الإسلام عبر الأبواب الثلاثة: العمل والتعليم والإعلام, وهذه صورة من الظلم للمجتمع بأسره لا على فرد من أفراده.

 

أيها المبارك: وحين تُولي أيها المدير أو المسؤول غير الكفء في العمل، فإن هذا من صور الظلم التي يرتكبها من ولاه, وكم أنّ المجتمع من لظى الظلم حين تولى بعض الأمور من ليس عنده الأمانة ولا الديانة, ومن لا يعرف إلا طريقة تنمية ثرواته على حساب مصالح المسلمين,  وليعلم هؤلاء أن لهم يومًا في الدنيا سيؤخذ منهم لمن ظلموهم, وإن سلموا في الدنيا فلن يسلموا يوم القيامة ممن يقول: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].

 

وبعد -عباد الله-: فتلك جولة في صورٍ من الظلم نراها, قمنٌ بنا أن ننأى عنها, وجدير بنا أن نساهم لرفعها, ولئن لم تكن ظالمًا، فإن رؤيتك للظالم، وتركَه له يسومُ من ظلمه، ثم لا تساهم في رد ظِلامته، فإن ذاك منك مساهمةٌ في إحلال الظلم, وفي الحديث عند الطبراني: "أن رجلًا عذب في قبره, وقيل له: إنك مَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ".

 

 

 

المرفقات

وصوره

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات