الصلاة هدية السماء

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أعظم النعم وأكثرها أثرًا 2/من مزايا الصلاة وصفاتها   3/الطهور شطر الإيمان 4/ثمرات الصلاة وفوائدها 5/قوة الذكر والدعاء 6/قوة أداء الفرائض والنوافل 7/روحُ الصلاةِ ولبُّهَا.

اقتباس

الصلاة عماد الدين، وأعظم فروض الإسلام بعد الشهادتين، ورأس الطاعات، وهي العبادة التي فرضها الله في أعظم رحلة في التاريخ، وقد أوصى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على فراش الموت، وهي قرة عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والعبادة التي جمعت في حركاتها وسكناتها كل عبادات الملائكة لربها في السماء...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله وصفّيه، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واتقوا الدنيا فإنها دار غرور، وعن قريب تخرب ويموت أهلها، وشمّروا إلى دار لا يخرب بنيانها، ولا يموت سكانها، ولا يهرم شبابها، يتقلب أهلها في رحمة الله الجليل.

 

عباد الله: كثيرًا ما يحرص الناس على الفوز بأكبر قدر من النعم والمزايا، ويتفاوت الناس في الحصول على هذه النعم سواء الظاهرة؛ كالأموال، والأولاد، والجاه، والثناء, وقد يغيب عن بعض الناس الأعظم من ذلك النعم الخفية؛ كسلامة القلب، والزهد في الدنيا، وقوة العبادة.

 

وإذا كان الله قد امتن على عباده بكثرة النعم، كما قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [ إبراهيم: 34]، فلنعلم أن من أعظم النعم وأكثرها أثراً في توفيق الله لعبده هي "قوة العبادة". نعم والله، إننا في زمن قد نرى فيه كثير العلم وواسع المعرفة، ومدمن القراءة، وقد نسمع عن فلان يحفظ القرآن ولا يخطئ فيه حرفًا، ونشاهد بعض الدعاة الذين لهم قدم عليا في التضحيات، ولكننا قد لا نرى من يوصف بـ"قوة العبادة" وعلو الهمة في الصلاة والصوم، والذكر والخشوع والبكاء.

 

عباد الله: الصلاة عماد الدين، وأعظم فروض الإسلام بعد الشهادتين، ورأس الطاعات، وهي العبادة التي فرضها الله في أعظم رحلة في التاريخ، وقد أوصى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على فراش الموت، وهي قرة عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والعبادة التي جمعت في حركاتها وسكناتها كل عبادات الملائكة لربها في السماء.

 

والصلاة من أجلّ الأذكار وأفضل الطاعات، وهي تعبّر عن منتهى الخضوع والعبودية، فيتمثل فيها عظمة الخالق وذلّ المخلوق، وقد جمعت الصلاة فنوناً من العبادة، ورموز التعبد؛ فهي تشتمل على التكبير والقراءة والقيام، والركوع والسجود، والذكر والقنوت والدعاء، فلذلك كانت أعظم أركان الإسلام بعد الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وهي تلك العبادة العظيمة التي يقف فيها المسلم بين يدي ربه خاشعًا متضرعًا، مقبلاً فيها على الله، تاركًا الدنيا وراء ظهره، ملبيا نداء الله (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]، فلا تنشغل نفسه بطيباتها وملذاتها، فلذة الوقوف بين يدي الخالق أعظم من أية لذة، إنها لحظات يأنس فيها العبد بربه، ويحظى فيها بإقبال الله عليه.

 

إنها لحظات يتحقق فيها إسلام المرء كله، فهو يقف بين يدي الله شاهدًا له بالربوبية والوحدانية، معظّمًا لصفاته وشاهدًا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة ومحققا له الاتباع، كما أنها لحظات يحج فيها الإنسان بقلبه ووجدانه إلى رحاب ربه, حيث يولي الإنسان وجهه نحو بيت الله الحرام، فكأن قلبه في هذه اللحظات يطوف حول الكعبة ملبيًا نداء الله، كما أنها لحظات يمتنع فيها الإنسان عن كل شيء في هذه الدنيا سوى الإقبال على الله.

 

عباد الله: لقد جعل الإسلام ترك الصلاة سببًا كافيًا لورود جهنم والعذاب فيها، ناهيك لو أنه اجتمع إليها أمور أخرى, قال الله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 42، 43]، يقول سيد قطب -رحمه الله-: ".. تشير إلى أهمية الصلاة في كيان هذه العقيدة، وتجعلها رمز الإيمان ودليله، يدل إنكارها على الكفر، ويعزل صاحبها عن صف المؤمنين".

 

عباد الله: لقد كانت الصلاة من أكبر ما يمنح العبد قوة وعظمة، ويعينه الله بأدائها على كثير من الخير، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]، وحتى ما هو من لوازم صحتها؛ الطهارة ففيها قوة تورث محبة الله -سبحانه-, قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]، أي: من ذنوبهم على الدوام، ويحب المتنزهين عن الآثام، وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث، وفيه مشروعية الطهارة مطلقًا؛ لأن الله يحب المتصف بها، وقد جعل الإسلام الطهارة شطر الإيمان، كما في حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ" [مسلم (223)].

 

ومن ذلك أن الصلاة تعين العبد على الوضوء والذي من قوته أنه مع طهارة ظاهر العضو من الأوساخ يتطهر باطنه من الآثام, فعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أظْفَارِهِ" [مسلم(245)].

 

كما تفتح الجنة أبوابها فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ (أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ" [مسلم(234)].

 

والصلاة تساعد العبد على الطهارة، وتحمله على الاغتسال؛ ليظفر بأجر قربان قدمه لربه عند بكوره إليها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "منِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" [البخاري (881) ومسلم(850)].

 

ولم ينته الفضل عند هذا بل خطواته إلى الصلاة مكتوبة, فكل خطوة كأجر عمل سنة صيامها وقيامها، عن أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "منْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الإْمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ, أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا" [أبو داود (345) وصححه الألباني].

 

والصلاة بعد الوضوء قوة وأجر، فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه-, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأ فَيُّحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" [مسلم(234)].

 

عباد الله: الصلاة تعطي العبد قوة في الدعاء عند سماع الأذان، وهل هناك أعظم جزاء في يوم تبلغ فيه القلوب إلى الحناجر من أن يشفع للعباد للخروج من كربه وأهواله, عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [البخاري (614)].

 

ومع الذكر الذي يلي الأذان يغفر ذنبه، فعن سعد بن أبي وقاص قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِالله رَبّاً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا وَبِالإِسْلامِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُه" [مسلم(386)].

 

وورد في فضل ذلك وقوته أنه يشهد له كل من سمع أذانه من كل شيء, ففي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلا إنْسٌ وَلا شَيْءٌ، إلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [البخاري (609)]. كما يورثهم ربهم أعناقا طوالا يسلمهم بها من عرق يوم القيامة, فعن معاوية بن سفيان -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤَذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [مسلم(387)].

 

وأجر وفضل في المشي إليها ارتقاء في الدرجات، وحط للسيئات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً" [مسلم(666)].

 

وما أعظم ما يكسبه العبد من دعاء المعصومين المكرمين من ملائكة الرحمن تعالى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "... فَإنَّ أحَدَكُمْ إذَا تَوَضَّأ فَأحْسَنَ، وَأتَى الْمَسْجِدَ، لا يُرِيدُ إلَّا الصَّلاةَ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُّحْدِثْ فِيهِ" [البخاري(477) ومسلم(649)].

 

وللتردد على المساجد قوة وأجر لأداء صلاة أو غيرها؛ تعليم أو تعلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا غَدَا أوْ رَاحَ" [البخاري(662)]. ولصلاة الجماعة قوة وأجر، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" [البخاري (645) ومسلم (650)].

 

ولصلاتي الصبح والعصر قوة ومزية، تظهر مزيتها في عظيم الثواب وحسن المآب، فعن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" [البخاري(574) ومسلم (635)]، والبردان: الفجر والعصر.

 

وتتجلى قوة صلاتي العشاء والصبح في جماعة من مضاعفة أجرها، واعتبار قيام ليلتها، فعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ" [مسلم(656)].

 

وكل الصلوات ذات وسيلة فاعلة، وحماية واقية من مزاولة الفحشاء، ومقارفة المنكر قال الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].

 

ألا فاغتنموا -إخواني في الله- هذه الأجور العظيمة، وثقوا أن من توكل على الله أعانه، ومن أطاعه أكرمه، نسأل الله أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي نفوسنا، ويجعلنا من عُمار المساجد، ومن المحافظين على صلاة الجماعة.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.

 

عباد الله: اتقوا الله وراقبوه، وحافظوا على صلاتكم، والخشوع فيها، وحسن القيام بها.

 

أيها الإخوة: إنما شُرعت العبادات لشكر المنعم على ما أنعم، وأداء حق الطاعة والعبودية، وإظهار التواضع والذلة, ولقد كانت الصلاة بالمداومة عليها كفيلة بطهارة العبد ظاهرًا وباطنًا من درنه وزلاته بما دون الكبائر، وليس هذا ضربا من القول, فقد ثبت من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْراً بِبَابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟". قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قال: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا" [مسلم (667)].

 

وفي المحافظة عليها الأجر والمغفرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِر" [مسلم(233)].

 

وأما عن المرابطة في المساجد لانتظار الصلاة, فذلك مقام يرفع الله لأصحابه الدرجات، ويمحو به السيئات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟". قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ الله قال: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" [مسلم(251)].

 

عباد الله: تواترت الأدلة على أن الصلاة عمومًا هي عبادة النقاء وموطن الطهر، ومجمع الخير، ومورد النفع، بما في ذلك صلاة الجمعة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9]. وفي  حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى، وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ" [مسلم(857)].

 

ولا ننسى أن في الجمعة ساعة يجاب فيها الدعاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ِإِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ يَسْألُ اللهَ فِيهَا خَيْراً، إِلا أعْطَاهُ إِيَّاهُ" [مسلم(852)].

 

أيها الإخوة: وصلاة السنن الراتبة تمنح العبد قوة وفضلاً، وما يدخره الله -سبحانه- لعبده كل ما صلاها، فكم بيوتات تبنى وتشيد؟ وكم مساكن تعمر وتعد في جنة الله الواسعة؟، ورد من حديث أم حبيبة زوج النبي -عليه الصلاة والسلام- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعاً، غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، أَوْ إِلا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ُ" [مسلم(728)].

 

وأما صلاة التهجد فقد أخفى تعالى الجزاء لفيض العطاء، قال الله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16، 17]. وجاء في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللهَ خَيْراً مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِلا أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ" [مسلم(757)].

 

عباد الله: الصلاة كلها عظيمة وأركانها متينة، وأعظم ما فيها السجود فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله أن يدلني بعمل يدخلني الجنة؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً" [مسلم(488)].

 

ومن قوة الصلاة: الذكر بعد الفريضة، ففيه التحدي الواضح للذنوب قليلها وكثيرها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" [مسلم(597)]. لا يحول بين قائلها وبين سمناه في جنة ربه إلا أن يموت عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ" [النسائي الكبرى (9848) وصححه الألباني].

 

وتتضح قوة النوافل من خلال محبة الله لمؤديها، وتوفيقه له، والوقوف عند سؤال واستعاذة المحافظين عليها, عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" [البخاري (6502)].

 

وفي صلاة الضحى عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى" [مسلم (720)]. وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاةُ الأوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ" أخرجه [مسلم(748)].

 

وحتى الصلاة على الجنازة لا تقل أهميتها، وقوة آثارها عن غيرها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإنَّه يَرْجِعُ مِنَ الأجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أنْ تُدْفَنَ، فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ" [البخاري(47)].

 

وحضور هذه الصلاة لا يقتصر نفعها على المصلين بل الميت هو الآخر تكون له شفاعة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجُلا، لا يُشْرِكُونَ بِالله شَيْئاً إِلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ" [مسلم(948)].

 

والصلاة في مسجدي مكة والمدينة فيها قوة وأجر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " البخاري (1190) ومسلم (1394)]، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ" [ابن ماجة (1406) وصححه الألباني].

 

وللصلاة في بيت المقدس أجره وثوابه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَوْ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى" [صحيح الترغيب والترهيب (1179)].

 

وعن قوة الصلاة في أول مسجد أسس على التقوى: عن سهل بن حنيف قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ" [ابن ماجه(1412)وصححه الألباني].

 

عباد الله: الصلاة لا بد لها من روحها وهو الخشوع، فالخشوع في الصلاة هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرًا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبًا بين يدي ربه، مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يُكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإنْ كانت مجزئة مُثابًا عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.

 

نسأل الله من فضله، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يجنبنا طريق المغضوب عليه والضالين، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

 

 

المرفقات

هدية السماء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات