الشريعة والعقل

الشيخ د صالح بن مقبل العصيمي

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ دور العقل في فهم الشرع 2/ وجوب الاستسلام والانقياد لأحكام الشريعة 3/ ضرورة تعظيم السنة النبوية 4/ لا تعارض بين العقل الصريح والنص الصحيح 5/ الأدب في تلقي الأحكام الشرعية 6/ دور السنة النبوية في بيان الشريعة.

اقتباس

لَيْسَ دَوْرُ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عَلَى الدِّينِ وَأَحْـكَامِهِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَالْقَبُولِ أَوِ الرَّفْضِ؛ وَمَتَى ثَبَتَ النَّصُّ كَانَ هُوَ الْـحَكَمُ، وَكَانَ عَلَى الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُطِيعَهُ وَيُنَفِّذَهُ سَوَاءً أَكَانَ مَدْلُولُهُ مَأْلُوفًا لَهُ أَمْ غَرِيبًا عَلَيْهِ. وَيَجِبُ التَّسْلِيمُ الْمُطْلقُ لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ؛ وَصحَّ عَنْ رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. وَأَوَامِرُ اللّهِ فِيهَا حِكْمٌ عَظِيمَةٌ، سَواءَ أَدْرَكْنَاهَا أَمْ لَمْ نُدْرَكْهَا، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-...

 

 

 

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إنَّ الْـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتِغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا، وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ.

 

وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّى اللهُ عليه، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ... فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعِةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ.

 

عِبَادَ اللهِ، لَا أَحَدَ أَضَلُّ سَعْيًا، وَلاَ أَبْخَسُ حَظًّا، وَلاَ أَشَدُّ خُذْلَانًا، وَلاَ أَعْظَمُ شَرًّا؛ مِمَّنْ نَشَأَ فِي الإِسْلاَمِ، وَتَرَبَّى عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلُقِّنَ سِيرَةَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وَعَلِمَ قِيمَةَ سُنَّتِهِ؛ فَلَمَّا اِشْتَدَّ عُوُدُهُ، وَتَضَخَّمَتْ عِنْدَهُ نَفْسُهُ؛ نَاكَفَ الْمُصْطَفَى -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي بَعْضِ قَوْلِهِ، وَأَصْبَحَ يَحْكُمُ عَلَى حَدِيثِهِ بِعَقْلِهِ؛ فَيَقْبَلُ هَذَا وَيَرُدُّ ذَاكَ، وَيَسْخَرُ بِبَعْضِهَا، وَيَجِدُ مَنْ يَؤَيِّدُهُ عَلى بَاطِلهِ، وَيُنَافِحُ عَنْهُ، وَكَمَا قَالَ اللهُ –تَعَالَى-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129].

 

وَمَا سَلَكُوا هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُمْ، أَلِفُوا الغِوَايَةَ وَالعِمَالَةَ، وَنَاصَبُوا قَوْمَهُمْ وَدِينَهُمُ العَدَاوَةَ، فَخُذِلُوا عَنِ الحَقِّ، وَعَمُوا عَنِ الهـَدَى، وَارْتَكَسُوا فِي الضَّلاَلَةِ، وَأَوْغَلُوا فِي العَمَايَةِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد: 3]، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف: 5].

 

وَسُنَّةُ الْمُصْطَفَى -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- أَجَلُّ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَطْعَنَ فِيهَا طَاعِنٌ، أَوْ يَسْخَرَ مِنْهَا سَاخِرٌ، أَوْ يَرُدَّهَا زِنْدِيقٌ مَارِقٌ، وَمَا زَالَ المُسْتَشْرِقُونَ وَالمُسْتَغْرِبُونَ، وَالزَّنَادِقَةُ وَالمُنَافِقُونَ والملحدون يُشَكِّكُونَ فِي الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَيُخْرِجُونَ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْهَا، وَقَدْ رَمَوْهَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ لِإِبْطَالِهَا، فَعَادَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ، وَتَكَسَّرَتْ نِصَالُهُمْ، وَأَبْطَلَ اللهُ –تَعَالَى- كَيْدَهُمْ، وَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ؛ كَـمَا قَالَ اللهُ –تَعَالَى-: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].

 

عِبَادَ اللهِ: لَيْسَ دَوْرُ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عَلَى الدِّينِ وَأَحْـكَامِهِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَالْقَبُولِ أَوِ الرَّفْضِ؛ وَمَتَى ثَبَتَ النَّصُّ كَانَ هُوَ الْـحَكَمُ، وَكَانَ عَلَى الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُطِيعَهُ وَيُنَفِّذَهُ سَوَاءً أَكَانَ مَدْلُولُهُ مَأْلُوفًا لَهُ أَمْ غَرِيبًا عَلَيْهِ. وَيَجِبُ التَّسْلِيمُ الْمُطْلقُ لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ؛ وَصحَّ عَنْ رَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-. وَأَوَامِرُ اللّهِ فِيهَا حِكْمٌ عَظِيمَةٌ، سَواءَ أَدْرَكْنَاهَا أَمْ لَمْ نُدْرَكْهَا، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.

 

قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 35]، وَمَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَقَدْ أَمَرَ بِهِ اللهُ –تَعَالَى-؛ حَيْثُ قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ عَلِيمًا-: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4].

 

 وَلِذَلِكَ يَجِبُ اِحْتِرَامُ وَتَعْظِيمُ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَيَحْرُمُ الْخَوْضُ فِيهَا بِغَيْرِ عَلْمٍ وَتَقْوَى. فَتَوْقِيـرُهَا مِنْ تَوْقِيـرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13].

 

فمَنْ يَرُدُّ الْأَحَادِيثَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَدِرَايَةٍ بِمَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا؛ لَمْ يَعْرِفْ بَعْدُ لِلنَّبِيِّ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا لـحَدِيثِهِ قَدْرَهُـمَا، وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ وَاللهِ مِنْ مُسْلِمٍ يَرْفُضُ أَحَادِيثَ ثَابِتَةً عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلْمَ، بَلْ وَزادَ فِي جُرْأَتِهِ أَنَّهُ وَصَفَهَا بِـمُنَافاةِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ؛ سَائِرًا عَلَى مَنْهَجِ مُشْركُي قُرَيْشٍ، الَّذِينَ حَارَتْ عُقُولُهُمْ السَّقِيمَةُ؛ عَنْ مَعْرِفَةِ عِظَمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

 

لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَوْعِبُوا النُّبـــُوَّةَ، وَالْبَعْثَ، وَالْمَعَادَ، وَالْجِنَّةَ، وَالنَّارَ؛ لِأَنَّ عُقُولَـهُمْ قَاصِرَةٌ عَنِ الْاِسْتِيعَابِ، كَعَرْضِهِمْ حَادِثَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ عَلَى عُقُولِـهِمْ وَقُدُرَاتِهِمْ، فَمَا قَبِلَتْهَا، وَاِسْتَنْكَرُوا وَصْفَ اللهِ للنَّارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر: 30]؛ فَرَفَضَتْ عُقُولُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ، قَدْ أُوكِلَ بِجَهَنَّمَ. فَقَاسُوا أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ، وَقَاسُوا الْبَشَرَ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ؛ فَكَانَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ، وَسُكْنَاهُمْ فِي نَارِ الْجَحِيمِ جَزَاءً وِفَاقًا.

 

وعِنْدَمَا سَـمِعُوا قَوْلَهُ –تَعَالَى-: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 62- 64]، اِسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: أَفِي النَّارِ شَجَرٌ؟! كَيْفَ، وَالنَّارُ تَأَكُلُ الشَّجَرَ؟ فَرَجَعُوا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى قِيَاسِ الدُّنْيا عَلَى الآخِرَةِ بِعُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ، وَصَارَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ.

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، لَا تُخَالِفُ الْعَقْلَ السَّلِيمَ، وَإِنَّمَا تُعَارِضُ الْعَقْلِ الْمُنْحَرِفِ السَّقِيمِ، وَهَكَذَا يَضِلُّ كُلُّ مَنْ عَرَضَ الْأُمُورَ الْغَيْبْيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ عَلَى عَقْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ يَظَلُّ قَاصِرًا، مَعَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ النَّقْلَ الصَّحِيحَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، فَأَمَّا مُـحَاوَلَةُ إِدْرَاكِ مَا وَرَاءِ الْوَاقِعِ بِالْعَقْلِ الْمَحْدُودِ الطَّاقَةِ، فَهَذِهِ مُـحَاوَلَةٌ فَاشِلَةٌ؛ لأَنَّـهَا تَسْتَخْدِمُ أَدَاةً لَـمْ تُـخْلَقْ لِرَصْدِ هَذَا الْمَجَالِ.

 

وَمُـحَاوَلَةٌ عَابِثَةٌ لِأَنَّـهَا تُبَدِّدُ طَاقَةَ الْعَقْلِ الَّتِـي لَـمْ تُـخْلَقْ لِمِثْلِ هَذَا الَمَجَالِ، وَمَتَـى سَلَّمَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ بِأَنَّ إِدْرَاكَهُ لِتَفَاصِيلِ الأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ مُسْتَحِيلٌ، وَأَنَّ عَدَمَ إِدْرَاكَهُ لِلْمَجْهُولِ لَا يَنْفِي وُجُودَهُ فِي الْغَيْبِ الْمَكْنُونِ؛ وَكَلَ الْغَيْبَ إِلَى الْعَلِيمِ الْـخَبِيـرِ، الَّذِي يُـحِيطُ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَهَذَا الإِيـمَانُ هُوَ الَّذِي يَتَحَلَّى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِيـنَ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْعَمَلَ بِشَرِيعَةِ اللهِ يَـجِبُ أَنْ يَقُومَ اِبْتِدَاءً عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ، فِيمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَوْ نَـهَى عَنْهُ -سَوَاءً بُيِّنَـتْ لَنَا الْـحِكْمَةُ أَمْ لَـمْ تُبَيَّـنْ، وَسَوَاءً أَدْركَهَا الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ أَمْ لَـمْ يُدْرِكْهَا- فَالْـحُكْمُ فِي اِسْتِحْسَانِ شَرِيعَةِ اللهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ أَوْ عَدَمَ ذَلِكَ لَيْسَ لِلِإنْسَانِ! إِنَّـمَا الْـحُكْمُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَرَدُّ الأَمْرِ كُلِّهِ إِلَيْهِ. وَهَذَا مُقْتَضَى أُلُوهِيَّتِهِ- سُبْحَانَهُ- وَاِسْتِحْسَانُ الإِنْسَانِ أَوِ اِسْتِقْبَاحُهُ للشيء لَا يُغَيِّـرُ مِنَ الْـحُكْمِ شَيْئًا، وَمَا يَرَاهُ عِلَّةً قَدْ لَا يَكُونُ هُوَ الْعِلَّةُ.

 

وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ يَقْتَضِي تَلَقِّي أَحْكَامَهُ وَأَحْكَامِ رَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، بِالْقَبُولِ وَالتَّنْفِيذِ، سَوَاءً عَرَفْتَ حِكْمَتَهَا وَعِلَّتَهَا، أَمْ ظَلَّتَ عَنْكَ خَافِيَةً. فَلَيْسَتْ عُقُولُنَا قَادِرَةً عَلَى فَهْمِ جَـمِيعِ الْعِلَلِ وَالأَحْكَامِ، وَعُقُولُنَا هِيَ الْمُتَّهَمَةُ بِالنَّقْصِ عِنَدَ عَدَمِ الْفَهْمِ، لَا أَقْوَالُهُ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

 

وَهَذَا لَا يَعْنِي إِهْمَالَ الْعُقُولِ؛ فَالْعُقُولُ قَدْ تَعْرِفُ حُسْنَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَالْعُقُولُ تَعْرِفُ قُبْحَ النَّجَاسَاتِ، وَقُبْحَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ هُوَ الشَّرْعُ، مَعَ عَدَمِ إِهْمَالِ دَوْرِ الْعَقْلِ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ الشَّرْعَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 

عِبَادَ اللهِ، لَيْسَ لَنَا مُصْدَرٌ وَمُرْشِدٌ غَيْرَ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-وَمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ؟ فَمِنْ أَيْنَ عَرَفْنَا حِلَّ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ؛ فَاِسْتَطْيَبْنَاهَا وَتَلَذَّذْنَا بِهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْنَا أَنَّ أَكْلَ الضَّبِّ وَالْجَرَادِ، وَمَيْتَةِ الْبَحْرِ، وكَرْشَ، ومُصْرَانَ، وَنُخَاعَ كُلِّ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ حَلَالٌ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْنَا بِحُرْمَةِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْكَلَبِ، وَالْهِرِّ، وَالْوُحُوشِ؛ فَاِسْتَقْبَحْنَاهَا وَتَـجَنَّبْنَاهَا؟

 

أَلَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؟ فَمَعْرِفَةُ حُسْنِ الشَّيءِ وَقُبْحِهِ، الْأَصْلُ فِيهِ الشَّرْعُ، فَلَو كَانَتِ الأَحْكَامُ لِلْعُقُولِ لَاخْتَلَفَ فِيهَا النَّاسُ اِخْتِلَافًا كَبِيـرًا؛ فَهَذَا يُـحَرِّمُ الْكَبِدَ، وَذَاكَ يُـحَرِّمُ النُّخَاعَ إِلَى آخِرَهُ. فَلَمْ يَكِلْنَا اللهُ إِلَى عُقُولِنَا، وَلَا إِلَى عُقُولِ غَيْـرِنَا. فَمَعْرِفَةُ الْـحُسْنِ وَالْقُبْحِ مُوكَلَةٌ بِالشَّرْعِ.

 

لِذَا تَاهَتْ عُقُولُ أَكْثَرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ؛ فَأَكَلُوا الْخَنَازِيرَ، والْقِرَدَةَ، والْكِلَابَ، وَرُبَّمَا لا يَعْلَمُ الْبَعْضُ أَنَّ نِصْفَ أَهْلِ الْكُرَةِ الأَرْضِيِّةَ يَأكُلُونَ الْقِرَدَةَ، وَأَنَّ ثُلُثَيْهَا يَأَكُلُونَ الْخِنازير، فَقَدْ أَرْشَدَتْهُمْ عُقُولُهُمْ إِلَى قِيَاسِهَا عَلَى بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ فَأَضَلَّتْهُمْ؛ وَلا حَوْلَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

 

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُـحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى وَجْهِكَ. الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيينَ غَيْـرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْـمُسْلِمِينَ مِنَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، اللَّهُمَّ اِحْفَظْ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا وَاِسْتِقْرَارَهَا.

 

 الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاِجْعَلْهُ هَادِيًا مَـهْدِيًّــا، وَأَصْلِحْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ الْـمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا.

 

وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرُوا مَعَنَا، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

 

 

المرفقات

والعقل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات