الشجاعة

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/ تكالب الأعداء على أمة الإسلام 2/ أهمية الشجاعة 3/ شجاعة النبي -صلى لله عليه وسلم- 4/ المقصود بالشجاعة وشموليتها 5/ قصص رائعة في الشجاعة 6/ ضوابط الشجاعة 7/ استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجبن والخور 8/ أسباب الشجاعة وبواعثها

اقتباس

إن ينبوع العزة هي الشجاعة, إن ينبوع الكرامة هي الشجاعة, إن سلم الصعود إلى القيادة هي الشجاعة. لا ينبغي لأحد أن يتحلى بالشجاعة إلا أن يكون قائدًا أو ظهيرًا، إن الذي يكون جبانًا أو خوارًا أو ذليلًا، لا يمكن أن يقود أمة، ولا أن يرفع شأنها, ولا أن يرفع راية من رايات الإسلام، أو حتى من غير راية الإسلام.

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, جل عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين, فهدى الله به من الضلالة, وبصر به من الجهالة، وقوى به من الضعف والقلة، وأغنى به بعد العيلة والذلة, وجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين بنظر, ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

 

يا أمة الاسلام: إن المتتبع لأحوال العالم االإسلامي، فيما حولنا من دول الإسلام، لا يكاد يجد دولة من دول الإسلام تخلو من طعنة من أعدائها، ففي كل يوم لنا جرح يزداد انبعاثًا في الدم, وفي كل ساعة ترى مقتولًا من المسلمين، أو ترى طفلًا جريحًا، أو يتيمًا أو مشردًا, حتى بتنا عند كثير من الأمم قد نزعت الهيبة من قلوبهم منا، وكما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت" [صححه الألباني].

 

أيها الإخوة الكرام: إن من أعظم الأخلاق التي بعث الله جميع الأنبياء لتحقيقها وغرسها في شعوبهم، إن من أعظم الأخلاق التي كان صلى الله عليه وسلم يعمل على غرسها في أصحابه, ويذم من لا يتصف بها، إن من أعظم الأخلاق التي هي طريق إلى العزة، وطريق إلى القيادة، وطريق إلى الريادة, وطريق إلى الظهور والعز، إن من أعظم الأخلاق التي هي طريق إلى استعادة الأمة إلى مجدها التي تتغنى به في كل يوم، حتى صرنا كما قال الأول:

 

ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرمةٍ

 

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم.

 

إن من أعظم الأخلاق التي أنزلها الله -تعالى- في كتابه، ومدح أصحابها، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يغرسها في أصحابه، بل الناس جميعًا يقرون ويجمعون أنه خلق رفيع؛ إنه الشجاعة؛ إنه الإقدام، إنه الجرأة, إنه جعل الجبن والخور تحت قدمك، عندما تريد أن تتخذ قرارًا.

 

إن ينبوع العزة هي الشجاعة, إن ينبوع الكرامة هي الشجاعة, إن سلم الصعود إلى القيادة هي الشجاعة.

 

لا ينبغي لأحد أن يتحلى بالشجاعة إلا أن يكون قائدًا أو ظهيرًا، إن الذي يكون جبانًا أو خوارًا أو ذليلًا، لا يمكن أن يقود أمة، ولا أن يرفع شأنها, ولا أن يرفع راية من رايات الإسلام، أو حتى من غير راية الإسلام.

 

لا يمكن أن تسير في طريق النجاح إلا إذا كنت شجاعًا.

 

قال القرطوشي -رحمه الله تعالى-: "اعلم أن كل كريمة تكسب إنما تكسب بطريق الشجاعة والقوة, وأن الجبان لا يمكن أن يحصل على كريم أبداً".

 

ولذلك -أيها المسلمون-: كان النبي -صلى لله عليه وسلم- يحث أصحابه دائمًا على الشجاعة, وهو عليه الصلاة والسلام الذي يتولها، ويقوم بها، يقول أنس -رضي الله عنه- : ما رأيت أجود من رسول الله -عليه الصلاة والسلام-, ولا رأيت أحدًا أشجع ولا أحسن من رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، كما في الصحيحين.

 

وكما في الدار قطني عن علي -رضي الله عنه-: "كنا إذا اشتد البرد اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-" قال: والله ولقد رأيتنا يوم بدر يوم قدم إلينا المشركون، نلوذ خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا إلى عدونا".

 

وقال أنس -رضي الله تعالى عنه-: "كان النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أحسنَ الناسِ، وأشجعَ الناسِ، ولقد فزعَ أهلُ المدينةِ ليلةً، فخرجوا نحوَ الصوتِ، فاستقبلهمُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد استبرأَ الخبرَ، وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرْيٍ، وفي عنقِهِ السيفُ، وهو يقولُ: "لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا" ثم قال: "وجدناهُ بحرًا" أو قال: "إنَّهُ لبحرٌ" [رواه البخاري: 2908].

 

"عري" أي فرس من غير سرج، قال: "على فرس لأبي طلحة عري" وهو صلى الله عليه وسلم يشير لنا، يقول: "لم تراعو، لم تراعو" ركب عليه الصلاة والسلام على أقرب فرس لقيه, ولم ينتظر عليه الصلاة والسلام أن يشد السرج عليه، وإنما كان شجاعًا مقدامًا جريئًا، امتطى عليه الصلاة والسلام صهوة الفرس ليمضي إلى ذلك العدو، أو ذلك الذي يفزع الناس.

 

وكان عليه الصلاة والسلام يمدح أصحابه الشجعان، ويقويهم ويؤيدهم, ويعلم النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يمدحهم: أن الشجاعة لا تعتمد على قوة بدن، ولا على طول في الجسد، ولا على صلابة في العظام، وإنما الشجاعة هاهنا.

 

الشجاعة أن يكون القلب شجاعًا، أن يكون القلب مقدامًا, وكم من أقوام ترى أحدهم في جسم البغال، وأحلام العصافير, ولا يكاد ربما يقوى على قتل حشرة تؤذيه، أو تؤذي أهله, ولذالك كان السلف -رحمهم الله تعالى- يعلمون أن الشجاعة لا تعتمد على قوة جسد, أو تعتمد على طول أو عرض, إنما تعتمد على إقبال داخلي, البراء بن مالك -رضي الله تعالى عنه- يراه الناس نحيلًا قصيرًا ربما حركته الريح!

 

ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور

 

فلما حاصروا حديقة الموت التي تحصن فيها مسيلمة الكذاب, مع أصحابه، وصار مسيلمة مع أصحابه يرقون على الأسوار، ويرمون صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-, وأولئك الكفار مسيلمة وأصحابه قد تحصنوا في هذه الأسوار، ولايستطيع الصحابة أن يوصلوا إليهم سهامهم، فإنهم وراء أسوار، وورى صخور، فأقبل البراء بن مالك -رضي الله عنه-، وكان غير بدين، وغير ضخم، لكنه كان بطلًا، قال للصحابة: "ضعوني في ترس", والترس، هو الذي يحمله المقاتل ليتقي به ضربات السيوف، قال: "ضعوني في ترس واحملوني على رؤوس الرماح" لو كان بدينًا عظيمًا ما استطاعوا أن يحملوه, قال: "ضعوني في ترس" أقعد فيه، معي سيفي، وضعوا هذا الترس على رؤوس الرماح، واحملوني على رؤوس الرماح، وقربوني من الجدار؛ حتى أقفز إلى داخل هذه الحديقة، وأفتحها الله لكم، ففعلو ذلك، وأقبل رضي الله تعالى عنه وحملوه، وهو قاعد في هذا الترس، حتى قفز في داخل الحديقة وحده، وجعل يقاتل حتى فتح الباب للمسلمين.

 

الشجاعة ليس شرطًا أن يكون جسدك عظيمًا, عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه- الأعمى الذي كان لا يرى ببصره، لكنه يرى بقلبه لما كان في معركة القادسية، قال للصحابة: إني خارج معكم، قالوا: قد عذرك الله, قال: أخرج معكم؟ فخرج معهم وهو كفيف البصر، فلما وصلوا إلى موضع القتال, قال لهم: اعطوني الراية، وهو لا يرى, قال: اعطوني الراية، فسلموه الراية، فقالواك لم؟ قال: إني رجل لا أرى، فإذا فر الناس لم أعلم كيف أفر، فأثبت, إذا فر الناس، فلا أفر فاثبت فلا أدري كيف أفر يمينًا أو يسارًا، فإني أفضل أن أثبت حتى أقتل, والراية ينبغي أن يكون حاملها ثابتًا في موضع حتى يجتمع الناس إليه, فسلموا إليه الراية، فأقبل إلى الأرض يحفرها بيديه، وهو أعمى حتى غرس قدميه في التراب، ثم حمل الراية السوداء، ولم يزل حاملًا لها حتى فتح الله -تعالى- على المسلمين.

 

الشجاعة إذا كانت في القلب انطلقت بعد ذلك إلى النجاح.

 

أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ *** وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ

وأشْجَعُ مني كلَّ يوْمٍ سَلامَتي  *** وما ثَبَتَتْ إلاّ وفي نَفْسِها أمْرُ

تَمَرّسْتُ بالآفاتِ حتى ترَكْتُهَا  *** تَقولُ أماتَ المَوْتُ أم ذُعِرَ الذُّعْرُ

وأقْدَمْتُ إقْدامَ الأتيّ كأنّ لي  *** سوَى مُهجَتي أو كان لي عندها وِتْرُ

 

لما أقبل النابغة الجعدي إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-, كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محبًا للشجاعة, محبًا لمن يفاخر بها, لا محبا بمن يفاخر بنسبه وحسبه، وإنما يفاخر بشجاعته وإقدامه، فوقف بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان ينشد فكان مما قال:

 

تَذَكَّرتُ وَالذّكرَى تُهيِّجُ للفَتَى  *** وَمِن عادة المَحزُونِ أَن يَتَذَكَّرا

فَلَمّا قَرَعت النّبعَ بِالنّبعِ لم  *** تكن في عِيدَانُهُ أَن تُكسَرا

سقيناهموا كأسًا سقونا بمثلها *** ولكننا كنا على الموت أصبرا

 

سقيناهموا كأساً سقونا بمثلها: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 104].

 

سقيناهموا كأساً سقونا بمثلها *** ولكننا كنا على الموت أصبرا

 

الشجاعة -أيها المسلمون-: ليست خاصة بالنزال والقتال, الشجاعة في كل شيء, الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، لا بد أن يكون شجاعًا, المربي لأولاده، لا بد أن يكون شجاعًا, الناصح للناس، المنبه لهم على أخطائهم، لا بد أن تكون شجاعًا، الذي يخطب على المنابر لا بد أن يكون شجاعًا, الذي يتقدم ليصلي بالناس لا بد أن يكون شجاعًا, الذي يبدي رأيه في مسألة لا بد أن يكون شجاعًا, الذي يطالب بحقه، لا بد أن يكون شجاعًا, ولذالك مدح الله أنبياءه ورسله في كتابه، مدحهم الله -تعالى- بالجرأة والإقدام، والنضال والشجاعة، ومدح ربنا -جل في علاه- في النزال, والقتال بالسنان فقط، وإنما مدحهم في كل أحوالهم، ولذلك ذكر ربنا -جل وعلا- يوسف -عليه السلام- وتغريه امرأة العزيز، وتقول له: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، فيكون شجاعًا جريئًا، ويصرح بعفته, لم يقل: أنا أخجل، أنا أخاف أن تقتلني, أخاف أن يتهموني, لم يدع الأوهام ووسوسة الشيطان تسيطر عليه, وإنما ضرب بها عرض الحائط, قال: "إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ"، وقال: (مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23]، وجعل يفر من بين يديها، حتى لا يقع في الفاحشة, ثم صار شجاعًا لما قالت هي لزوجها: (مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا) [يوسف: 25] لم يسكت يوسف، ويخفض رأسه، ويقول: هذا ابتلاء وسأصبر! كلا، وإنما تكلم: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) [يوسف: 26] شجاع جريء، يدافع عن نفسه، لم يكن خوارًا.

 

نوح -عليه السلام- يصنع السفينة، وكلما مر به ملأ من قومه سخروا منه, لم يضع عينه على مسماره ومطرقته، ويقول: "حسبي الله ونعم الوكيل، هذا بلاء وسأسكت، ولا أرد عليهم" كلا، إنما كان شجاعًا يلتفت إليهم، ويقول: (إِن تسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) أنتم تسخرون مني أن ابني سفينة في الصحراء, أنا أسخر منكم أنكم تعبدون أحجارًا وأصنامًا، لا تضر ولا تنفع، تنحرون عندها ذبائحكم، وتنفقون لها أموالكم، وتشكون إليها ضعفكم وكربتكم وحاجتكم: (إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) [هود: 38 - 39].

 

شعيب -عليه السلام- كان شجاعًا يمشي بين قومه يقول: (وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ) [هود: 84] يعظ قومه بكل شجاعة وجرأة, ما قال في نفسه: كيف أمنعهم من الربح في أموالهم لا أستطيع أن أتكلم معهم؟ كلا، إنما كان شجاعًا.

 

صالح -عليه السلام- يقول لقومه: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي) بكل صراحة وجرأة.

 

ولما لم يقبلوا منه, قال الذي علي عملته: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79].

 

هود -عليه السلام- يقف أمام قومه بكل جرأة وشجاعة، ويشير إلى أصنامهم، ويقول: (إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) [هود: 54- 55] اعملوا ما تريدون أن تفعلوا.

 

والسحرة الذين آمنوا بموسى -عليه السلام- لما هددهم فرعون بالقتلة البشعة، إنما من خبثه يصف لهم طريقة القتل، ليدخل إلى قلوبهم الوجل والفزع, فيقول: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) [الشعراء: 49] أنت ستقتلنا؟ قل: ستقتلهم, لا، أراد أن يدخل على قلوبهم الوجل والخوف, إني سأقطع يدك, وسأقطع رجلك، وأعلقك في نخلة, وأدعك تنزف حتى تموت, وإذا بالأبطال الشجعان، يقولون له: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 36 - 73].

 

وموسى -عليه السلام-: (فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) [الإسراء: 101]، فإذا بالجريء البطل الشجاع، يدافع عن العقيدة والتوحيد: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا) [الإسراء: 102].

 

الشجاعة -أيها المسلمون- في القلب والإقدام الذي يدفع الإنسان إلى أن يقول الحق، ويثبت عليه، وسيدنا ومولانا -عليه الصلاة والسلام- يقول فيما رواه الإمام أحمد: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

 

وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- يقول لخالد بن الوليد: "احرص على الموت توهب لك الحياة".

 

أيها المسلمون: وعندما نقول الشجاعة، لا يعني ذلك عدم التروي، وعدم التعقل، كلا، بل الشجاعة تكون مقرونة بالعقل والحكمة, لا يعني أن الإنسان عندما يستثار يغضب على من أمامه ويضربه ويقتله، ويقول: أنا شجاع، كلا، هذا تهور, ولذلك كان سيدنا وقدوتنا -عليه الصلاة والسلام- يخرج إلى معركة بدر, فيلبس الدرع الحديد، ثم يلبس فوقها درعًا أخرى حديد أيضًا, هل هذا يعني أنه ليس شجاعًا، وهو الذي يتقي به أصحابه، ويلوذون به، وراءه عند القتال، وإنما كان عليه الصلاة والسلام شجاعًا، لكن مع الشجاعة حكمة وعقل.

 

ولما كان صلوات ربي وسلامه عليه مهاجرًا من مكة إلى المدينة، لم يقف عليه الصلاة والسلام أمام هذه الجموع، ويقول: إني مهاجر، وها أنا بين أيديكم، كلا, وإنما هو شجاع وبطل، ومع هذا خطط لهذا عليه الصلاة والسلام, ليس متهورًا، خطط لهذا ومضى إلى طريق جنوبي، وهم يبحثون في الشمال، ثم جلس عليه الصلاة والسلام مع صاحبه في الغار ثلاثة أيام، وهذا كله شجاعة، لكنها مقرونة بالحكمة, وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد غزوة ورى بغيرها, إذا أراد أن يغزو في الشمال جعل يسأل الناس عن طريق الجنوب, وعن الماء الذي في الجنوب، وعن الآبار، ليظن الناس أنه سيذهب للجنوب، ثم يمضي بهم شمالًا، إذا أراد غزوة ورى بغيرها, لا يعني أنه جبان، بل يعني أنه شجاع، مع حكمة وتعقل، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من كظم غيظًا، وهو قادر على أن ينفذه" إنسان غضب غضبًا شديدًا واغتاظ، وكان قادرًا على أن ينفذ غيظه، من ضرب أو قتل، قال: "من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء".

 

وعمر -رضي الله تعالى عنه- عندما كان في الحج، وأقبل إليه رجل، وقال: يا عمر، وكان هو الخليفة في ذلك الحين، هو أمير المؤمنين -رضي الله عنه-, أقبل إليه رجل، فقال: يا عمر إن فلانًا يقول لو قد مات عمر لوليت فلانًا، فقد كانت ولاية أبي بكر فلتة، فأراد أن يصعد عمر على مرتفع على منبره في الحج، ويمنع مثل هذا الكلام، فأقبل إليه بعض الصحابة، فقال له: يا عمر إن مقامك في الحج يسمعه العربي والأعجمي، والأفاقي والقريب، وينقلون الكلام عنك، وربما نقلوه على غير ما تريد.

 

ناس بسطاء حضروا معنا، ربما يفهمون قصدك على غير الصحيح، فانتظر حتى ترجع إلى المدينة، فاذا رجعت إلى المدينة كان الذين عندك أهل الحكمة والعلم، فتكلمت بما تريد، فقال له عمر: صدقت ونصحت, وسكت، لم يقل عمر: أنا ما يهمني أحد الذي ما يعجبه الكلام سأقطع رأسه! لا، إنما شجاعة؛ لكن معها عقل وحكمة.

 

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ *** هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ *** بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ

وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ *** بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ

 

إذا اجتمع للإنسان عقل استطاع أن يحصل به شجاعة وجرأة.

 

أسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن يتحلون بالشجاعة والإقدام، مع حكمة وعقل.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلَّانِه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره، واستن بسنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة الكرام: إن من أعظم الأخلاق السيئة التي كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ بالله -تعالى- منها: الجبن والخور, ففي الصحيح: "دخل رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار، يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟" قال: هموم لزمتني وديون يا رسول اللهِ، قال: "أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همك، وقضى عنك دينك؟" قال: قلت بلى يا رسول اللهِ، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله -عز وجل- همي، وقضى عني ديني" [رواه أبو داود: 155، وسكت عنه الألباني، وقد قال في رسالته لأهل مكة: "كل ما سكت عنه فهو صالح"].

 

وكان عليه الصلاة والسلام يحفظ ذلك أصحابه، ولذلك كانت العرب منذ القديم إذا رأوا رجلاً جبانًا ذموه أكثر ممن يذمونه بغيره.

 

ومن تأمل في كلام العلماء وجدوا أنهم ذكروا طرقًا يستطيع الإنسان أن يحصل بها الشجاعة، أول ذلك: أن تعرف أن الضر والنفع بيد الله -جل في علاه-، يقول صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا".

 

وربنا -جل وعلا- يقول: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51].

 

ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء قد كتبه الله عليك.

 

إذا رسخت عقيده الإيمان بالقضاء والقدر صرت شجاعًا, رسخ في قلبك أن الذي يقضي الأقدار، ويوزع الأرزاق هو ربنا -جل في علاه-, وأن الموت لا يكون معه إقدام أو خور, إنما الموت كما قدره الله -تعالى- يقع.

 

أيَّ يوميَّ من الموت أفرُّ *** يوم لا يُقْدَرُ أم يوم قُدِرْ

يوم لا يقدر لا أحذره *** ومن المقدور لا ينجو الحذر

 

إذا قدر الله على أحد شيئًا وقع عليه: (وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: 78].

 

ومما يبعث في الإنسان الشجاعة: القراءة في قصص الشجعان والمقبلين والأبطال، ليس فقط الشجعان في القتال والنزال، اقرأ -يا أخي- في الذين نجحوا في حياتهم، وصار عندهم شجاعة لينجح في تجارته, عنده شجاعة ليخترع. عنده شجاعة ليطلب العلم، عنده إقدام، عنده جرأة.

 

ومما يبعث على الشجاعة: البعد عن الأوهام.

 

كثير من الأوهام التي نتوهمها، فتدعونا إلى الخور والجبن هي غير حقيقية، ولذلك تجد الإنسان لو أراد أن يتخذ قرارًا في تجارة, يبدأ يقول في نفسه: قد يكون هذا الموقع غير مناسب! وقد لا يأتي إلي الزبائن! وقد يحتال علي التجار! وقد لا يدفعون إلي الأموال! ويبدأ يفترض سلبيات من سوء ظنه بالله.

 

احسن ظنك بالله -سبحانه وتعالى-, في تربيتك لأولادك، كن شجاعًا، والأوهام والظنون السيئة اطرحها عنك، كما قال الله -جل وعلا-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].

 

لما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه للقتال، وجعل الشيطان يوقع في قلوب المنافقين: أن عددكم قليل، وأن عدتكم ضعيفة, وأن أعداءكم أقوى منكم، وأنكم لم تستعدوا للقتال، وجعل يلقي ذلك في قلوبهم, أوهامًا غير حقيقية، قال الله -جل وعلا-: (إنما ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِإِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 175].

 

لذلك -أيها المسلمون-: الجبن والخور والهلع من صفات المنافقين، قال الله عن المنافقين: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) [المنافقون: 4] كل حدث يقع يقول: هذا فيه موتي، فيه فقري، هذا فيه كذا: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ).

 

أما المؤمنون فيعلمون أن الأمر كله لله.

 

اسأل الله -جل في علاه- أن يرزقنا وإياكم حسن الأخلاق، اسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق, والأعمال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا هو, اللهم واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا رب العالمين.

 

اللهم إنا نسألك أن توحد أمتنا على قائد شجاع, اللهم إنا نسالك أن توحد أمتنا على قائد شجاع يسمع كلام الله ويسمعك, وينقاد إلى الله ويقودها يا رب العالمين.

 

اللهم اجمع كلمة أمة الإسلام في كل مكان، اللهم املأ قلوبهم شجاعة وإقدامًا, واجعل لنا القيادة والريادة على الأمم يا حي يا قيوم يا رب العالمين.

 

يا رب وحد أمتنا, اللهم واجمع شملنا, اللهم وادحر عنا عدونا, ومن أرادنا بسوء فرد كيده في نحره، يا قوي يا عزيز يا رب العالمين, يا رب العالمين, اللهم وإنا نسألك لإخواننا في كل مكان أن توحد صفهم، وأن ترفع عنهم كربهم, وأن تكشف عنهم مصابهم, اللهم اجمع كلمة إخواننا في مصر, اللهم اجمع كلمة إخواننا في مصر, اللهم اجمع كلمة إخواننا في مصر, اللهم من أرادهم بسوء بتفرقة فاكشف سره, وافضح أمره، ورد كيده في نحره, اللهم احقن دماءهم, واجمع كلمتهم، اللهم اجعلهم على الخير يا قوي يا عزيز، اللهم إن تنصرهم فلن يخذلهم أحد, اللهم كن معهم، ووحد صفهم، يا حي يا قيوم، يارب العالمين، اللهم وكن لإخواننا المجاهدين في سوريا، اللهم وحد صفهم, واجمع كلمتهم, وسدد رميهم، اللهم يسر وصول المال والسلاح إليهم يا حي يا قيوم, اللهم رحماك بهم, اللهم أرنا عجائب قدرتك، في عدوهم, اللهم من دعم بشارًا بسلاح أو بمال أو برأي أو بمؤتمر أو بملتقى، فأرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم اضرب الظالمين بالظالمين, وأخرج إخواننا المستضعفين من بينهم سالمين، يا رب العالمين، ياحي يا قيوم, اللهم وإنا نسألك لأهلنا في كل مكان، أن تكون معهم، يا قوي يا عزيز، يا رب العالمين.

 

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات