السيرة النبوية والنصر المبين

الشيخ د عبدالرحمن السديس

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أهمية السيرة النبوية 2/ وجوب قراءة السيرة النبوية قراءةً مقاصديَّة 3/ أخلاقِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحروبِ والقتالِ مع أعداءِ الإسلام 4/ واجب العُلماء وشباب المُسلمين تجاه هذه الحملات الشعواء على الإسلام ومُسلَّماته ومُحكَماته.

اقتباس

إن فِئامًا من الناسِ في أعقابِ الزمَن استبدَلُوا بنُور الوحيَين سِواهُما، واكتَفَوا من السيرةِ النبويَّة بالقصصِ والحِكايات، وغَفَلُوا عن المقاصِدِ والغاياتِ، آثَرُوا الشكليَّات والمظاهِر عن الحقائِقِ والجواهِر، والمآلاتِ البواهِر. ألا فلنُعلِنها مُدوِّيَةً خفَّاقةً، وشجًى في اللَّهَوات المُغرِضةِ الأفَّاكة: أن السيرةَ النبويَّةَ، والمناقِب المُحمديَّة - على صاحبِها أزكَى السلام - والتحيَّة هي مناطُ العزِّ والنصرِ؛ تحقيقًا وتنقيحًا وتخريجًا، وأجلَى لُغات العصر التي تعرُجُ بالأمةِ إلى مداراتِ السُّؤدَد والتمكِين.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، أحمدُه - سبحانه - حمدًا طيبًا مُبارَكًا لا حدَّ لمُنتهَاه، زهَت القلوبُ بنُور حِكمتِه، وتعطَّرَت بذِكره الأفوَاه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصَّنا ببِعثةِ خيرِ الأنام، وجلَّ في مُسمَّاه ومعنَاه، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا وإمامَنا مُحمدًا عبدُ الله ورسولُه قلبُه بذِكرِ الله أوَّاه، صلَّى الله عليه عددَ قَطر الأموَاه، وعلى آله وصحبِه ومن سارَ على هُداه، والتابعين لهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم لِقَاه.

 

أما بعد: فإن خيرَ ما يُوصَى به ويُستزَاد، وأعظمَ ما يُورَى به زِناد: التأسِّي بخيرِ العباد، وتقوَى الله في الغيبِ والإشهَاد، ألا فاتَّقُوا الله - عباد الله -، وتزوَّدُوا التقوَى فإنها خيرُ الزاد، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

 

معاشِر المسلمين: من توسَّم بحُسن زكَنِه معانِي التأريخ، وأمضَى إلى وِفاضِه رِكابَ الطلبِ، ترأْرَأَ له منهَلٌ أعظمُ من ماءِ البارِق، وأصفَى من جنَى النَّحل الوادِق، وما هذا المنهَلُ يا رعاكُم الله إلا الصفحاتُ المُشرِقاتُ المُضِيئاتُ من سِيرة حسَن الشمائِل والصفات، عاطِرِ النَّفَحات خيرِ البريَّات، صلَّى الله عليه وسلَّم، فهي موئِلٌ لزكِيِّ الطِّباع، ومنهَلٌ للبِرِّ المُشاع.

أبَى الله إلا رِفعَه وعلُوَّه *** وليس لما يُعلِيه ذُو العرشِ واضِعُ

 

معاشِر المُؤمنين: لقد كان التأريخُ قبل بِعثةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً غُدافِيَّ الإهاب، حتى جاء بالهُدى المُتلألِئِ الوضَّاء، وصرَّح الحقُّ عن محضِه بالآياتِ البيِّنات القوِيمَة، والسُّنَّةِ المُطهَّرة الكريمَة، والسيرَة العَطِرَة الكريمَة؛ فهي أعذَبِ منبَعٍ للوارِدِين، وأعظمُ مورِدٍ للمُقتَدين المُقتَفِين الذين يرُومُون السعادةَ والفلاحَ، والبناءَ والإصلاحَ.

 

ولقد استقَرَّ ذلك لدَى العُمُوم والخُصوص، وأيَّدَته الأدلَّةُ والنصوصُ، إنها النورُ المُتلألِئُ المُشرِقُ لكلِّ قضايَانا العقديَّة والتعبُّديَّة، والمِعَلُ الوضَّاء للسمُوِّ بالجوانِبِ السلُوكيَّة والتربويَّة والأخلاقيَّة، وهي أيضًا الشمسُ الساطِعةُ للعلاقاتِ الإنسانيَّة والدوليَّة؛ لأنها حوَت المقاصِدَ الشرعيَّة، والآدابَ المرعِيَّةَ.

 

ولئِن اختلَفَت نظراتُ المُكلَّفين لسيرَة سيِّد المُرسَلين، ما بَين سَردٍ للحوادِث، ووصفٍ للوقائِع؛ فإن هنا جانِبًا مُهمًّا في تلك النظَرَات جديرًا بالعنايةِ والاهتِمام، ألا وهو: "الجانبُ المقاصِديُّ".

 

إخوة الإسلام: لقد زخَرَت السيرةُ النبويَّةُ بصُورٍ وضِيئاتٍ تجسَّدَت فيها مقاصِدُ الشريعة، بل وازدانَت هذه المقاصِدُ الأثِيلةُ إشراقًا بعد أن تحلَّت بالسيرَةِ العطِرَة، فالمقصِدُ العامُّ من الرسالة المُحمدية: الرحمةُ بالإنسانيَّة، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

 

وما ذاك إلا بالدعوةِ إلى توحيدِ ربِّ العالمين، وإتمام مكارِم الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق»؛ رواه الإمامُ أحمد في "مسنَده".

 

وروَى أيضًا من حديث أبي أُمامَة - رضي الله عنه -، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثتُ بالحنيفِيَّةِ السَّمحَة».

 

وأين لنا بحفظِ الضروريَّات كما حفِظَتها لنا سِيرةُ خير البريَّات - صلى الله عليه وسلم -؟! فليس أبهَى ولا أجملَ في جانِبِ حفظِ الدين وُجودًا وعدَمًا من نُصحِ وتوجيهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُموم المُسلمين، وإبرازِ جوانِب العقيدة ومعالِم الدين، ثم دعوتُه لغير المُسلمين؛ فلقد كانت دعوتُه - صلى الله عليه وسلم - تُعلِنُ عما في شريعةِ الإسلام من العظمَة، والشُّمُول، والكمالِ، والرحمةِ.

 

وكانت رسائِلُه للمُلُوكِ والأُمرَاء تحمِلُ في حنايَاها النُّصحَ والحِوار، والإصلاحَ والوِئام، وتدعُو إلى التآلُفِ والتآزُرِ والسلام، والاجتِماع والاعتِصام؛ فمن أسلَمَ سلِمَ وسلَّم، وإن اقتضَى الأمرُ القتال ظهرَ جانِبُ الرِّفق والسَّماحَة، وعدم إراقَة الدماء، وكان الجَمعُ بين المقصِدَين الأعظمَين: حِفظِ الدين، وحِفظِ النفسِ.

 

ففي "مسند الإمام أحمد"، من حديث ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، أنه قال: "ما قاتَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا قطُّ إلا دعَاهم".

 

وفي "الصحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعليِّ بن أبي طالبٍ يوم خيبَر: «على رِسلِك حتى تنزِلَ بساحَتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام؛ فواللهِ لأَن يهدِيَ الله بك رجُلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النَّعَم».

الله أكبر!

خُتِمَت به الأخلاقُ فهو تمامُها ***  ولقد يفُوقُ بدايةً إنهاءُ

جاء الأُلَى قبلاً بألفِ فضيلةٍ *** فأتَى بهيمَنةٍ على ما جاؤُوا

 

أمةَ الإيمان:

ومن معالِي المقاصِد في السيرة النبويَّة العطِرَة: النهيُ عن قتلِ النساء، والشيُوخ، والجرحَى، والزَّمنَى، والمرضَى، والرُّهبَان، كلُّ ذلك حِفظًا للنفسِ عن الهلاكِ. وجاء أيضًا: النهيُ عن قتلِ الأطفالِ والصِّبيَان، حِفظًا للنفسِ وللنَّسلِ.

 

فعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ جُيوشَه قال: «اخرُجُوا باسمِ الله، تُقاتِلُون في سبيلِ الله، لا تغدِرُوا، ولا تغُلُّوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقتُلُوا الوِلدانَ ولا أصحابَ الصوامِع» (أخرجه أحمد في "مسنده").

 

وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتُلُوا شيخًا فانِيًا، ولا طفلاً، ولا صغيرًا، ولا امرأةً، وأصلِحُوا وأحسِنُوا إن الله يُحبُّ المُحسِنين»؛ رواه أبو داود في "سننه".

 

وبهذه الألفاظِ من دُرَر الخلُود، وهذه الحبَّات من أنجُم السُّعُود فاضَت السيرةُ المُحمديَّةُ العطِرَة بمجامِعِ الرحمة، وزخَرَت بمعاطِفِ الرأفَة، وتلأْلاَت بمبادِئ الإسلام ومقاصِده العِظام.

 

وكما تألَّقَت برأفَتها المتلُوَّة، ومقاصِدِها المرجُوَّة بالنفسِ البشريَّة وحفظِها عن الإبادَة والتقتِيل، تألَّقَت أيضًا بحفظِ العقلِ، فجاءَ النهيُ النبويُّ الكريمُ عن المُسكِرات والمُخدِّرات، وكلِّ ما من شأنِه تغييبُ الفِكرِ والوعيِ.

روَى الإمامُ أحمدُ وأبو داود من حديث أم سلَمَة - رضي الله عنها -، أنها قالت: "نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مُسكِرِ ومُفتِّرٍ".

 

فالعقلُ أعظمُ الحواسِّ، وعُمدةُ التكليفِ.

يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "العقلُ هو أكبرُ المعاني، وأعظمُ الحواسِّ نفعًا، وبه يُدخَلُ في التَّكليفِ، وهو شرطٌ في صحَّة التصرُّفات، وأداء العبادات".

 

وقال الإمام الشاطبيُّ - رحمه الله -: "وقد جاءَت الشريعةُ بحفظِ العقلِ من جهتَي الوجود والعدَم".

وقد قال ربُّ العالمين في مُحكَم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90].

 

وأفضلُ قَسمِ اللهِ للمرءِ عقلُه *** فليس من الخيراتِ شيءٌ يُقارِبُه

إذا أكمَلَ الرحمنُ للمرءِ عقلَه ***   فقد كمَلَت أخلاقُه ومآرِبُه

 

ولما للعقلِ من أهميةٍ خاصَّةٍ كان اهتِمامُ النبي - صلى الله عليه وسلم - اهتِمامًا شديدًا، فكما نهَى عن المُسكِرات والمُخدِّرات، نهَى أيضًا أن يكون المُسلمُ ضعيفَ الرأيِ إمَّعَة.

 

ففي حديثِ حُذيفة - رضي الله عنه -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تكونُوا إمَّعة، تقولون: إن أحسنَ الناسُ أحسنَّا، وإن ظلَموا ظلَمنا، ولكن وطِّنُوا أنفسَكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤُوا فلا تظلِموا» (أخرجه الترمذي بإسنادٍ حسنٍ).

 

كما تصدَّى - صلى الله عليه وسلم - للأفكارِ الجانِحَة عن الوسطيَّة والاعتِدال؛ كالغُلُوِّ والتطرُّفِ.

ففي "الصحيحين" من حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -، أنه قال: "ردَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عُثمان بن مظعُون التبتُّلَ".

 

وكذا فعلَ - صلى الله عليه وسلم - كما في "الصحيحين" - مع الثلاثَةِ نفَر الذين جاؤُوا يسألُونَ عن عبادتِه وكأنَّهم تقالُّوها.

 

بل إنه أعلَنَها صريحةً مُدوِّيَّةً، لما بعَثَ مُعاذًا وأبا مُوسَى إلى اليمَن قال: «يسِّرَا ولا تُعسِّرَا، وبشِّرَا ولا تُنفِّرَا، وتطاوَعَا ولا تختَلِفَا» (متفق عليه).

 

فأين من ألسِنَتُهم لاغِيَة .. وقلوبُهم لاهِية .. رانَ عليها كسبُها .. وضلَّ في الحياةِ الدنيا سعيُها .. وانهمَكُوا في غوايتَهم، وتغوَّلُوا في عَمايَتِهم، من هذا النُّور المُشرِق الذي يحُثُّ على إعمالِ العقلِ وفهمِ الأمور، والتيسير على الخلقِ، ورفعِ الحرَجِ عنهم.

معالٍ جازَت الجوزَا جوازًا *** وحُسنٌ قد حوَى الحُسنَى وجَازَا

أمة الإسلام: ودُرَّةٌ أُخرى تُستخرَجُ من جنَبَات السيرَةِ العطِرَة، وهي من ضرُورات الحياة، ألا وهي: حِفظُ المال، حتى ولو كانت أموالَ العدُوِّ، وفي وقتِ الحربِ والقتالِ فجاء النهيُ عن تحريقِ الأشجارِ، والزُّرُوع، والدوابِّ، وهدمِ البُنيَان والديار، وتخريبِ العَمَار؛ حِفاظًا على البيئَةِ من الدمار.

 

وجاء أيضًا: النهيُ عن الإسلالِ والإغلالِ، وأخذِ النُّهبَة؛ لأن قصدَ ذلك لذاتِهِ من شِرعَة الفسادِ في الأرض، والله لا يُحبُّ المُفسِدين.

 

روَى البيهقيُّ في "سننه": من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قال: كان نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ جيشًا من المُسلمين قال: «انطلِقُوا باسمِ الله، ولا تُغوِّرُنَّ عينًا، ولا تعقِرُنَّ شجرةً، إلا شجرًا يمنَعُكم قتالاً، ولا تغدِرُوا، ولا تغُلُّوا».

 

أمة الإسلام: وقد شَمَلَت السيرةُ الزكيَّةُ النقيَّةُ الرائِقةُ - مع المقاصِد الضروريَّة - المقاصِدَ الحاجيَّة، فوسَّعَت على الخليقَةِ في أمورِهم الدينيَّة، ورفَعَت عنهم الضِّيقَ والحرَجَ المُؤدِّي إلى المشقَّة، اللاحِقةِ بفواتِ المطلُوب.

 

قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلَبَه، فسدِّدُوا وقارِبُوا وأبشِرُوا» (أخرجه البخاري).

 

وجمعَ - صلى الله عليه وسلم - في سيرتِه بين التيسير وتعظيمِ الحُرُمات، فكان الجمعُ النَّظيمُ بين تحقيقِ المقاصِدِ واعتِبارِ المآلاتِ.

 

ففي العام السادسِ للهِجرةِ النبويَّةِ عقَدَ - صلى الله عليه وسلم - صُلحَ الحُديبية، وقال: «والذي نفسِي بيدِه؛ لا يسألُوني خُطَّةً يُعظِّمُون فيها حُرُمات الله إلا أعطَيتُهم إياها» (أخرجه البخاري).

 

وقد نزلَ بالصحابَةِ - رضي الله عنهم - في هذا اليوم من الشدَّةِ والعَنَتِ والحرَجِ، ما لا تتحمَّلُه الجبالُ الراسِيَات، وظنُّوا أنهم أعطَوا الدنِيَّةَ في دينِهم. لكن حقيقةَ الأمر: أن هذا الصُّلحَ كان فَتحًا مُبينًا.

 

فقد أخرج البخاريُّ من حديث البراءِ بن عازِبٍ - رضي الله عنه - أنه قال: "تعُدُّون أنتم الفتحَ فتحَ مكَّة، ونحن نعُدُّ الفتحَ بيعَةَ الرِّضوَان يوم الحُديبِية".

 

لقد أسفَرَ صُلحُ الحُديبِيَة عن معانٍ عظيمةٍ، وقِيَمٍ جليلةٍ، أسنَاها وأجلاهَا: ذلكمُ المقصِدُ الإسلاميُّ العظيمُ "تفويتُ المصالِحِ الصُّغرَى في سبيلِ تحقيقِ المصالِحِ الكُبرَى"، وأن الإسلام دينُ التعايُشِ والتصالُحِ، والسلام والتسامُحِ.

 

لم يأتِ بالحربِ ولم يأمُر بها إلا في أضيَقِ الحُدُود، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتمنَّوا لِقاءَ العدُوِّ، واسأَلُوا اللهَ العافِيةَ، فإذا لقِيتُمُوهم فاصبِرُوا». وكذا في أنمُوذَجِ مُعاهَدة المدينةِ النبويَّة.

 

وهكذا كان المنهجُ النبويُّ الأخلاقيُّ، حتى إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – مدَحَ حِلفَ الفُضُولِ الذي كان في الجاهليَّة، وقال: «لقد شهِدتُّ حِلفًا في دار عبد الله بن جُدعَان، ما أحبُّ أن لي به حُمر النَّعَم، ولو دُعِيتُ إليه اليوم في الإسلام لأجَبتُ» (أخرجه البخاري في "صحيحه").

 

وكان مُحالَفتُهم على الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المُنكَر، وألا يدَعُوا لأحدٍ عند أحدٍ فضلاً إلا أخذُوه، ونحو ذلك من القواسِمِ المُشتَرَكة لمصالِحِ الناس؛ كرفعِ الظُّلم، وإحقاقِ الحقِّ والعدلِ والخيرِ، والأمنِ والسلامِ. وهكذا تتجلَّى المقاصِدُ الشرعيَّةُ في كل وقائِعِ وأحداثِ السيرةِ النبويَّة.

 

وبعدُ .. يا أتباعَ سيِّد الأنام - عليه الصلاة والسلام -: إن لسيرَةِ المُختار - صلى الله عليه وسلم - هديرَها ورِواءَها في سُويدَاء النفوس التي أحبَّتْه وأجلَّتْه، والأفئِدةِ المُولَّهةِ العَمِيدَة بخِصالِه وشمائِلِه. كيف لا، وهو رسولُ الملِكِ العلاَّم، وحامِلُ ألوِيَةِ العدلِ والسلام، ومُخرِجُ البشريَّةِ - بإذن ربِّه - من دياجِيرِ الانحِطاط والوثنِيَّة، ووِهادِ الأرجاسِ والآثام، فهي للأجيال خيرُ مُربٍّ ومُؤدِّب، وللأمةِ أفضلُ مُعلِّمٍ ومُهذِّب؟!

 

لاسيَّما في هذه الأزمِنةِ المُعاصِرة؛ حيث الغلُوُّ والإرهابُ، والتفجيراتُ والطائفيَّة، وكثرةُ البِدَع والأهواء، والتطاوُل على مُحكَمات الدين ومُسلَّمات الشريعَة. والله المُستعان.

 

أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164].

 

بارَكَ الله لي ولكم في الوحيَين، ونفعَني وإياكم بسيرَةِ سيِّد الثَّقَلَين، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّة المُسلمين والمسلمات من جميعِ الذنوبِ والخطيئَاتِ؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه كان للأوبِين غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله الذي جعَلَنا خيرَ أمةٍ أُخرِجَت للناسِ، أحمدُه - سبحانه - خصَّنا بشريعةٍ لا يعرُوها التِباس، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ من قادَ وساسَ، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزِيدًا.

 

أما بعد: فاتَّقُوا الله - عباد الله -، واعلَمُوا أن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأُمور مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.

 

معاشِر المُسلمين: ولئِن كان العالَمُ مُفزَّعًا بالحروبِ والخُطُوب، فإن على أمة الإسلام جميعًا أن تنثَنِيَ إلى السيرةِ النبويَّةِ في عُمقٍ وشُمولٍ، وأن تكون أشدَّ تعلُّقًا بنبيِّها وسيرتِه - عليه الصلاة والسلام - على الدوامِ، تأسِّيًا واستِبصارًا، وفهمًا وسُلُوكًا واعتِبارًا؛ لتنتشِلَ نفسَها من كلاكِلِ العَجزِ والتمزُّقِ والفِتَن والانحِدار التي مُنِيَت بها في هذه الآوِنة العَصيبَة القَلِقَة.

 

وإن فِئامًا من الناسِ في أعقابِ الزمَن استبدَلُوا بنُور الوحيَين سِواهُما، واكتَفَوا من السيرةِ النبويَّة بالقصصِ والحِكايات، وغَفَلُوا عن المقاصِدِ والغاياتِ، آثَرُوا الشكليَّات والمظاهِر عن الحقائِقِ والجواهِر، والمآلاتِ البواهِر.

 

ألا فلنُعلِنها مُدوِّيَةً خفَّاقةً، وشجًى في اللَّهَوات المُغرِضةِ الأفَّاكة: أن السيرةَ النبويَّةَ، والمناقِب المُحمديَّة - على صاحبِها أزكَى السلام - والتحيَّة هي مناطُ العزِّ والنصرِ؛ تحقيقًا وتنقيحًا وتخريجًا، وأجلَى لُغات العصر التي تعرُجُ بالأمةِ إلى مداراتِ السُّؤدَد والتمكِين.

 

وإن على عُلماءِ الأمة أن يُبيِّنُوا للعالَم أجمَع - وبكل فخرٍ واعتِزازٍ - مقاصِدَ السيرة السنِيَّة، وما اكتنَزَت من رحمةٍ وعدلٍ وسلامٍ، وأخلاقٍ وشمائِلَ وأمنٍ ووِئام.

 

فلم تكُن حاجةُ الأمة في عصرٍ من العُصور إلى الاقتِباسِ من مِشكاةِ النبُوَّة، ومعرِفَة السيرةِ العطِرَة معرفَةَ اهتِداءٍ واقتِداءٍ على الدوامِ، أشدَّ إليها من هذا العصر؛ حيث فاءَت الأمةُ إلى يَبَابِ التبعِيَّة والذَّيلِيَّة والوهَن، وصارَت والتنافُرَ والتناثُرَ في قَرَن، وشطَّ بها المزارُ عن هديِ سيِّدنا النبيِّ المُختار - صلى الله عليه وسلم -، وصارَت مُقدَّساتُ المُسلمين يعيثُ فيها أعداءُ المُسلمين فسادًا.

 

وها هُم يُصعِّدُون عُدوانَهم وإرهابَهم في مسرَى سيِّد الثَّقَلَين، وثالثِ المسجِدَين الشريفَين، أقرَّ الله أعيُنَ المُؤمنين بفكِّ أسْرِه من الصهايِنَةِ الغاصِبِين، وجعلَه شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.

 

وعلى شبابِ الأمةِ العِنايةُ بتحصينِ أفكارِهم، وأن يُسقِطُوا الرايات المشبُوهة، ويدحَضُوا الشِّعارات الزائِفَة، ويستظِلُّوا بظِلال السيرَةِ الوارِفَة؛ فهي الرصيدُ التأريخيُّ، والمنهجُ الحضاريُّ، والمنهجُ العمليُّ والعلميُّ والأخلاقيُّ والقِيَميُّ الذي تستمِدُّ منه الأجيالُ المُتلاحِقةُ من ورثَةِ ميراثِ النبُوَّة، وحمَلَة مشاعِل الهداية زادَ مسيرِها، وأُصول امتِدادِها، وعناصِر بقائِها.

 

ألا فلنُجلِّي للعالَمين محاسِنَ هذا الدي بمَزيدِ التمسُّكِ بهَديِ وسيرةِ سيِّد المُرسَلين، واستِثمارِ وسائلِ العصر وتِقاناتِه في نشرِ السنَّة والسيرة النبويَّة.

 

وما أحوَجَنا إلى قراءةِ السيرةِ النبويَّة قراءةً مقاصِديَّة؛ لنستشرِفَ مآلاتِ الأفعال وسطَ عالَمٍ تغمُرُه أمواجُ الفتن، ويُعانِي إخوانُنا في بِقاعٍ شتَّى صُنوفًا من الصِّراعات والقتلِ والتشريدِ.

 

وما حالُ إخوانِنا في حلَب وأهل الشام عنَّا ببعيدٍ، وكذلك إخوانُنا في العراقِ، واليمَن، وبُورما وأراكان.

فصبرًا صبرًا إخوانَنا في حلَب وفي بلاد الشام، فالنصرُ آتٍ لا محالة. فتدرَّعُوا بالإيمان والصبر، والأمل والتفاؤُل والاستِبشار.

 

ويا ربَّ العالمين، يا ربَّ العالمين، يا ربَّ العالمين! اشفِ صُدورَ قومٍ مُؤمنين بنصرٍ مُبين تُعِزُّ فيه الإسلامَ وأهلَه، وتُذِلُّ أهلَ الشرك الظالِمين، والطُّغاةِ الغاشِمين.

 

ألا فاتَّقُوا الله - عباد الله -، ثم الهَجُوا بالصلاةِ تَترَى والسلام على أزكَى نبيٍّ وأعظَم إمام، كما أمرَكم بذلك المولَى الملِكُ العلاَّم، فقال تعالى قولاً كريمًا يُتلَى على الدوامِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

تسمُو الحروفُ ويُزهِرُ التغريدُ *** في عِطرِ روضِك أُنسُنا المنشُودُ

فعليكَ صلَّى الله يا خيرَ الورَى *** ما أشرَقَت شمسٌ وأورقَ عُودُ

 

اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل مُحمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على مُحمدٍ وعلى آل مُحمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.

 

وارضَ اللهم عن الأربعة الخُلفاء الأئمة الحُنَفاء، ذوِي القدر الجلِيِّ والشرَف العلِيِّ: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ الصحابَة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمَتِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الكفرَة والكافِرين والظالمين الغاشِمين يا رب العالمين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح واحفَظ أئمَّتنا ووُلاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلادِ والعبادِ يا رب العالمين.

 

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقَراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.

 

اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيث العَميم.

 

حسبُنا الله ونِعم الوكيل، حسبُنا الله ونِعم الوكيل، لا إله إلا الله الوليُّ الحميد، ا إله إلا الله يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يُريد، لا إله إلا الله الله العظيمُ الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرش الكريم.

 

إلَهَنا! عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك، منك الفرَج وإليك المُشتكَى.

 

إلَهَنا ومولانا! عظُم الخَطبُ، واشتدَّ الكربُ على إخوانِنا المُسلمين في حلَب وفي بلاد الشام، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا عاجِلاً غيرَ آجِلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم،  وفُكَّ حِصارَهم، واحفَظ أموالَهم وأعراضَهم يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم كُن للاجِئين النازِحين الذين مسَّهم الشتاءُ بزَمهرِيرِه القارِس، اللهم كُن لهم يا ألطَفَ الأكرَمين، وأكرمَ الأكرَمين، وأرحَم الراحِمين، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم، وفُكَّ حِصارَهم يا حيُّ يا قيوم، وفي سائرِ بلاد المُسلمين.

 

اللهم عليك بطاغِية الشام، اللهم عليك بطاغِية الشام، ومن حالفَه على المُسلمين المُستضعَفين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونُك، اللهم أنزِل عليهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرِمين.

 

اللهم انصُر جنودَنا، اللهم انصُر جنودَنا على حُدودِنا وثُغورِنا، اللهم انصُرهم على الظالمين الباغِين يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

 

ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ولجميع المُسلمين والمُسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

 

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

 

المرفقات

النبوية والنصر المبين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات