السفر، ما له وما عليه

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ أنواع السفر من حيث القصد والنية 2/ السفر مظنة المشاقّ والأخطار رغم ما طرأ عليه من يسر 3/ السفر مفتاح لكثير من المؤثرات على الشخصية 4/ حكم السفر يعتمد على القصد منه والمؤثرات فيه 5/ من أحكام وآداب السفر

اقتباس

من جَبَرك على الذهاب إلى تلك البلاد؟ أهو سفر علاج؟ أو لطلب علم نادر تحتاج إليه الأمة؟ أم أنه سفر نزهة وسياحة واستمتاع؟ تُلقي نفسك في الحفرة ثم تقول أخرجني؟!. أين نذهب إذن؟ أين نأكل؟ لماذا نقصد بلاداً يوجد هذا النوع من المنكرات المعلنة؟ أقول: إن كان السفر يفتح العين على تلك المنكرات فلا أهلا ولا سهلا ولا مرحبا به!

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر المسلمين: ما أكثر ما يسافر الناس لشؤون حياتهم مادية أو معنوية! ولقد سافر رسول الله -صلى الله عيه وسلم- مرات ومرات أثناء شبابه قبل البعثة، وفي كِبَره بعد النبوة، ما بين حج وعمرة وجهاد وتجارة، والسفر غالباً يُظهر طبيعة الإنسان، وحقيقة سلوكه وأخلاقه؛ ولذا قيل: ما سُمِّي السفر سفراً إلا لأنه يُسفِر عن أخلاق الرجال.

ولا شك أن السياحة في الأرض والتأمل في عجائب المخلوقات مما يزيد العبد المؤمن معرفة بربه، ويقيناً بأن لهذا الكون خالقاً عليماً، ومدبراً حكيماً، لا رب غيره، ولا معبود بحقٍّ سواه، المسافر إذا أراد زيادة إيمانه ينبغي له إذا رأى عجيب صنع الله وعظيم قدرته أن يتأمل، ثم يتدبر، ثم يخبت ويخشى ويقول: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88]. وقد ذم القرآن من فقد هذا الإحساس المرهف بقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105].

أيها الأخوة: السفر نوعان: سفر محمود، وسفر مذموم؛ فالسفر من أجل الخروج من الملل والسآمة، أو للتأمل في خلق الله، أو لطلب علم نافع، أو تجارة مباحة، أو صلة قريب أو أخ في الله، هو سمة السفر المحمود؛ أما إن كان السفر لأجل فساد، أو تجارة محرمة، فهو مذموم، هذا من حيث القصد والنية.

والسفر -عموماً- هو محل للمشاق والمتاعب على تفاوت؛ لأن القلب يكون مشوشاً، والفكر مشغولا؛ من أجل فراق الأهل والأحبة، ولذا قال النبي-صلى الله عيه وسلم-: "السفَرُ قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نُهْمَتَهُ فليعجِّلْ إلى أهله" رواه البخاري ومسلم؛ والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة لما يحصل في الركوب والسير من ترك المألوف.

لكن السفر في زماننا يختلف عن السفر في قرون مضت، فقد مُهدت الطرق وجرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها تسير بالناس، أو تقلهم الطائرات السابحة في الهواء، إن رغبوا في ذلك، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إذا أرادوا.

كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشِقِّ الأنفس يتم في أيام قصيرة، بل ساعات قليلة، وبجهود محدودة أيضا، بل ربما عطش رجل في المشرق فشمَّتَه آخَر في المغرب! وهذا مصداق حديث النبي-صلى الله عيه وسلم- من أن تقارب الزمان من علامات الساعة، كما في صحيح البخاري.

وبالرغم من هذه الراحة الميسرة فإن الأخطار هنا وهناك لم تنعدم، ففي الجو يركب المرء طائرة فيظل فيها معلقاً بين السماء والأرض، ليس موته فقط، بل مصيره معلق بأمر الله، فكيف لا يلوذ به ويحتمي بجانبه بلزوم آداب السفر ودعائه، والعزم عن البعد عن معاصيه في هوائه، بين سمائه وأرضه؟! أليس ثمـَّة منكرات في الطائرة؟ ألا يغض البصر فيها عما ما يحرم الله؟.

لقد كان المشركون يلجئون لله في الضراء عندما يكونون أقرب للهلاك وهم بين أمواج البحر، (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:55]، وبعض عصاة زماننا سرَّاؤهم وضراؤهم على حد سواء، لا فرق، في الأرض يعصون وفي السماء يعصون! أيكون مشركو زمان النبي-صلى الله عيه وسلم- أعلم بـ "لا إله إلا الله" منهم؟!.

أيها الأخوة: إن السفر يُبْعِد الإنسان عن المألوف والمعتاد، هكذا هو طبع السفر، السفر يعرضه بعد المألوف للجديد، ولأن الجديد يكسر رتابته فإنه بالتالي يرسخ في الذهن وتبقى ذكراه؛ والمسافر بما يصادف من مواقفَ ومناظرَ، وممكنٍ وغيرِ ممكنٍ، ومُحرِجٍ وغيرِ محرِجٍ، ومباح ومحرَّم، ومؤدَّب ومخِلٍّ بالأدب والحياء، هذه المناظر والمعطيات التي يقدِّمها السفر مفتاح لكثير من المؤثرات على شخصية الإنسان، لاسيما الصغار والشباب والفتيات.

السفر يؤثر في الأفكار والأطباع والأخلاق، فإن كان هذا التأثير في الشخصية مقرِّباً للإيمان، محبِّباً لسنة النبي الكريم-صلى الله عيه وسلم-، فأهلا وسهلا ومرحبا؛ أما إن كان مُقَسِّياً للقلب، مُنَسِّياً للدين، مُسْكِتَاً عن إنكار المنكر، مُجْبِرَاً على رؤية العُرْي بجميع درجاته، ليس على شاطئ البحر فحسب، بل حتى في الأسواق، ومُجبراً على مجالسة الخمور بشكل مباشر أو غير مباشر، والاضطرار إلى مقولة: ماذا نأكل إذن ؟كل المطاعم حولنا تجد فيها من يشرب الخمر!.

من جَبَرك على الذهاب إلى تلك البلاد؟ أهو سفر علاج؟ أو لطلب علم نادر تحتاج إليه الأمة؟ أم أنه سفر نزهة وسياحة واستمتاع؟ تُلقي نفسك في الحفرة ثم تقول أخرجني؟!. أين نذهب إذن؟ أين نأكل؟ لماذا نقصد بلاداً يوجد هذا النوع من المنكرات المعلنة؟ أقول: إن كان السفر يفتح العين على تلك المنكرات فلا أهلا ولا سهلا ولا مرحبا به!.

أيها الإخوة: تقدَّم أن السفر يأتي بالجديد، وبالتالي يرسَخ في الذهن وتبقى ذكراه يرددها الإنسان من عام إلى عام، ولذلك فإن السفر بجميع معطياته مفتاح لكثير من المؤثرات على شخصية الإنسان كما تقدم، على أخلاقه، على دينه، على طباعه.

ونحن نرى نماذج مِن أطفال مَن استهان بآثار السفر على أهله، فاعتاد سنويا على صحبة أطفاله إلى بلاد الخلاعة والغفلة وانعدام الصلاة، نرى كيف هو أثر ذلك السفر على سَمْتِهِم ومظهرهم ومنطقهم! حتى لو أنكر آباؤهم ذلك التغيير... يبقى للسفر أكبر تأثير.

ونرى كم هم بعيدون عن بيوت الله، وعن مراكز التوعية، وحِلَق القرآن! بل نرى كم هم بعيدون عن عادات المجتمع الطيبة، ومظاهر المروءة فيه، في ملابسهم ومظهرهم، فالسفر مفتاح للآداب والأخلاق، حسنها وسيئها.

ولقد جاء في الآبيات المشهورة أثر السفر على أدب الإنسان، أي على خُلقه:
تَغَرَّبْ عَن الأوطانِ في طَلَبِ العُلَا *** وسَافِرْ ففِي الأسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ *** وَعِلْمٌ وآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدِ
إذن، فالآداب والأخلاق مكتسبة في السفر لا محالة، إما الحسن منها وإما الرديء، فأيها نختار؟.

معاشر الإخوة: إن السفر أصبح سهلا ميسراً، وإن الإنسان أمام ما يستجد من صناعات ومنتجات وأحوال وعادات وما يتاح له من إمكانات هو أمام طريقين: الأول: أن يعب من كل شيء جديد عباً أعمى لا يراعي في ذلك مفسدة شرعية ولا أخلاقية، ولا حلالا ولا حراما، كالملهوف الغافل، أتيح أمامه السفر فسافر حيث سافر الناس من غير تأمل في تأثير ذلك السفر على دينه أو دين أهله أو أخلاقهم سلباً أو إيجاباً، تمكن من شراء سلعة ما، جوَّال أو حاسوب أو بلاي استيشن ذهب ليشتريها! وهكذا، هذا طريق من يأخذ فقط دون أن يتأمل.

أما الطريق الثاني: فهو طريق التؤدة، وفيه يتوخى الإنسان الخطر، ولا يستعجل، ويتأمل في المصالح والمفاسد على نفسه وعلى من يعول فلا يقلد الناس في كل شأن، بل يراقب الله تعالى قبل أي شيء حتى لا يقدم على ما يضر دينه أو دين أهله، وبالتالي فإن السفر في منظوره ليس مقصوداً لذاته يجمع من أجله المال ويقترض، يقترض فقط لكي يسافر، يقول يأتي الصيف ويسافر معظم الناس وأنا جالس ماذا يصير؟! لابد أن يسافر.

السفر في منظوره غاية ووسيلة لتحقيق مصلحة ما، فإن كان لأمر ضروري كدراسة علم نادر، أو لإنجاز عمل، أو لطلب علاج، كان للمسافر عذر في قصد البلاد الذي ينجز فيها ما سافر من أجله، حتى لو أُعلنت فيها المنكرات وظهرت في كل مكان؛ لأنه لا خيار له في غالب الأمر.

أما إن كان سفره من أجل الاستجمام والسياحة... والتجول هنا وهناك فإن له مطلق الخيار في اختيار البلد، وبالتالي يحذر من أن يستجم في بلاد لا تعترف لا بالحلال ولا بالحرام، وبالتالي يكون سفرُه مَدعاةً إلى غشيان المنكرات، ومن ثم احتمالية إفساد دين أهله وأولاده بما سيعلق في أذهانهم من ذكريات.

أسأل الله أن يُصلح الحال، وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
 

أما بعد: فقد عني الإسلام بالسفر عناية فائقة، فجعل له أحكاماً تخصه من سنن وآداب وواجبات، ومحرمات ومكروهات، ينبغي أن لا يغفل عنها كل مسافر.

فعدا الجمع والقصر وأحكام الصيام في السفر يؤكد الإسلام على آداب وأذكار عند السفر وأثناءه، من ذكر الودائع، لقوله: "إذا ودع المسافر: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك"، أي: أسأل الله أن يحفظ عليك دينك، أول شيء الدين إذا سافر، أسأل الله أن يحفظ عليك دينك وأمانتك، كل الأمانات، وأولها الصلاة، وخواتيم أعمالك، يقولها للمسافر، ويرد المسافر وهو مغادر للسفر: "أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه".

وكذا دعاء الركوب على الدابة أين كانت، والتكبير على كل شرف، أي: على كل مرتفع من الأرض، والتسبيح إذا هبط واديا، والذكر حين إقبال الليل أثناء السفر بأن يقول: "يا أرض! ربُّك وربي الله، أعوذ بالله من شَرِّك وشر ما فيكِ، وشر ما خلق فيكِ، وشر ما دب عليكِ، أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب، ومن ساكن البلد، ومن شر والد وما ولد" أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح.

وأن يقول إذا نزل منزلا، وإن كان فندقا: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذاك. بل قال القرطبي: هذا خبر صحيح علمنا صدقه بدليل التجربة، منذ سمعته عملت به فلم يضرني شيء، إلى أن تركته فلدغتني عقرب تلك الليلة فتذكرت فإذا بي نسيته.

كما يستحب للمسافر إذا بدا له الفجر وهو في السفر أن يقول ما ثبت عن النبي-صلى الله عيه وسلم- أنه قال حينما بدا له الفجر وهو مسافر: "سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا فأفضل علينا ستراً بالله من النار" رواه مسلم.

وغير ذلك من السنن كثير يطول المقام بذكره، ولا شك -أيها الإخوة- أن عناية الإسلام بالسفر وإلحاق هذا الكم من الأدعية والأذكار دليل على أهمية استحضار عظمة الله تعالى في الحل والسفر، والتقرب منه بذكره وتمجيده والثناء عليه.

ومن أثار ذلك كله أن يستحيي العبد الذاكر من ربه أثناء السفر، فلا يفعل المحرم، ولا يقرب المنكر، ويؤمن أن الله تعالى يراقبه في كل مكان، وأن الله سبحانه يحفظه وأهله بحفظه، ويعيذه من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل.

اللهم احفظنا والمسلمين بحفظك.

 

 

 

 

 

المرفقات

ما له وما عليه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات