الربا

يحيى بن موسى الزهراني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/جريمة \"الربا\" وخطر تعدي حدود الله 2/بعض أضرار التعامل بالربا 3/التحذير من تعاطي الربا والتعامل بذلك 4/بعض الآثار السيئة للتعامل بالربا 5/خطر استحلال الربا وتعاطيه وبعض مفاسد ذلك 6/الحث على التوبة من التعامل بالربا 7/التحذير من الفوائد الربوية 8/تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة 9/بعض صور التعامل بالربا وعقوبات ذلك

اقتباس

الناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود، والعجز عن تسديد الديون، وشلل في الاقتصاد، وارتفاع مستوى البطالة، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس، فأصبح...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كثير الخيرات، وعظيم البركات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدى والرحمات، عليه من ربه أفضل الصلوات، وأزكى التسليمات، وعلى آله وأصحابه أهل التقى والكرامات، ومن تبعه بإحسان إلى يوم العرصات.

 

أما بعد:

 

لقد بعث الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق، فأبطل الله به مسالك الجاهلية، وقضى به على معالم الوثنية، فاستأصل شأفتها، واجتث جرثومتها، وفي طليعة ذلك الكبيرة العظيمة، والجريمة الشنيعة، والمعصية المتوعد عليها بالحرب من الله ورسوله، ألا وهي: جريمة "الربا".

 

فهيهات أن تُعمر الحياة، وتشاد الحضارات، وأناس يتعاطون الربا، ولا يرعون للإنسان كرامة، ولا للعقول حصانة، ولا للدين صيانة.

 

فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد الخالصة لله، وأشرقت أنوارها في جميع أصقاع المعمورة، حررت القلوب من رق العبودية لغير الله، ورفعت النفوس إلى قمم العز والشموخ، وسمت بالعقول عن بؤر المال وحبه، وعلت بالقلوب عن مستنقعات المال الحرام.

 

كيف لا وعقيدة المسلم أعز شيء عنده، وأغلى شيء لديه، بها يواجه أعتى التحديات، وبها يصبر على الابتلاءات، وبها يترك الإغراءات، ويقاوم موجات القلق والأرق، والاكتئاب النفسي والاضطرابات، وبها يقيم سداً منيعاً، ودرعاً متيناً، أمام زحف المال الحرام، والغزو الفكري والعقدي، ويحذر من بضاعة اليهود الحاقدين، أكلة الربا المغرضين.

 

من هنا كانت أنبل معارك العقيدة، تحرير العقول الإنسانية من كل ما يصادم الفطر، ويصادر الفكر، ويغتال المبادئ والقيم.

 

لقد حد الله -سبحانه وتعالى- لعباده حدوداً من تعداها، وتخطاها إلى غيرها، وقع في الحرام، وأدى بنفسه للهلاك والدمار، وعرض نفسه للعذاب والعقاب، ففي تعدي حدود الله ظلم للنفس البشرية، ومعصية لرب البرية، وهذا من أشد أنواع الظلم، ظلم الإنسان لنفسه، إذ كيف بإنسان وهبه الله عقلاً وحكمة وعلماً، وخط له خطوطاً، وأرسل له رسلاً، وأنزل له كتباً، فتبين له الحق من الباطل، ثم يصر على المعصية، وفعل الذنب، واقتراف الصغيرة والكبيرة، فمن تعدى حدود الله، وانتهك محارمه غير مراع لأمر ولا نهي، فقد أعد الله له من العقوبة جزاءً وفاقاً و (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس: 44].

 

ولقد جاء الكتاب العزيز، مرغباً في الخير، ومرهباً من الشر، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، فيه وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، فيه الأوامر والنواهي، فنأى بأتباعه عن أوهام الجاهلية، وطهر نفوسهم من رجز الوثنية، وابتعد بهم عن براثن الإسفاف، وبؤر الاستخفاف في كل صوره وأنماطه، ويأتي في طليعة ذلك "جريمة الربا" لما يمثله من طعنة نافذة في صميم العقيدة، وشرخ خطير في صرح التوحيد، وتمزق مزر يضعف القوة، ويذهب العزة، ويجلب الانتكاسة، وسوء الخاتمة، ويلحق الهزائم، ويقضي على العزائم، فتقع الاضطرابات في المجتمع، وتحصل الفوضى في الأمة، فتغرق سفينتها في مهاوي العدم والردى، ولذا فقد نهى الشارع الكريم عن "الربا" في محكم التنزيل، وحذر من عاقبته السيئة، ونهايته المؤلمة، فقال الله -تعالى-: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275].

 

فالربا حرام كله، كثيره وقليله، بجميع أشكاله وأنواعه، وصوره ومسمياته، ولم يأذن الله في كتابه العزيز بحرب أحد إلا أهل الربا.

 

فالناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود، والعجز عن تسديد الديون، وشلل في الاقتصاد، وارتفاع مستوى البطالة، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس، فأصبح ناتج الكدح اليومي يصب في خانة تسديد الربا، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا، فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : 278 - 279].

 

إنها بضاعة مزجاة، وتجارة كاسدة، وحرب خاسرة مع الله -تعالى-، حرب لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات، فهي مع خالق الأرض والسموات، الذي يقول للشيء: كن فيكون.

 

فكيف يخوض عبد ضعيف لا حول له ولا قوة حرباً ضروساً مع من له جنود السموات والأرض، وله جنود لا يعلمها إلا هو؟

 

إنها حرب غير متكافئة من أقدم عليها من البشر، فقد أهلك نفسه، وأذاقها ألم العذاب، ومرارة العقاب، وضنك العيش في الدنيا والآخرة.

 

فكم نرى ونسمع عن أهل الربا وآكليه، والمتعاملين به، وما حل بهم من جنود الله -عز وجل- فالسرطان وأمراض الشرايين، والذبحة الصدرية، وموت الفجأة من جنود الله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31].

 

وقال تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4].

 

واستمعوا لعظمة جندي من جنود الله -تعالى-، أخبر عنه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أُذن لي أن أُحدث عن ملك من ملائكة الله -تعالى- من حملة العرش، ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" [رواه أبو داود وغيره، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة].

 

سبحان الله العظيم، إذا كان هذا ملك من ملائكة الرحمن -عز وجل-، وخلق من خلقه، وعبد من عباده، فكيف بالخالق -تعالى وتقدس-؟

 

يقول الله -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].

 

ويقول تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)[الطارق: 5 – 7].

 

ويوم القيامة يقال لآكل الربا: خذ سلاحك، واستعد للحرب مع الله، استعد لخوض غمار الحرب مع من بيده ملكوت كل شيء، مع من له جنود السموات والأرض، وما يفعل ذلك الإنسان صاحب اللحم والعظم في مثل ذلك الموقف الرهيب العصيب، ولكن (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 106].

 

فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

 

معاشر المسلمين: لقد شبه الله -عز وجل- آكل الربا بالمجنون والمصروع عندما يخرج من قبره إلى محشره، فهو يتخبط في الأرض لا يدري ما الخطب، ولا يعلم ما الأمر، كما كان يتخبط في مال الله بغير حق: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275].

 

فأكلة الربا يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع؛ لأنهم أكلوا الأموال رباً، وحراماً في الدنيا، فانتفخت به بطونهم، حتى أثقلتهم عن الخروج من قبورهم يوم القيامة، فكلما أرادوا النهوض سقطوا، يريدون الإسراع مع الناس فلا يستطيعون، قال صلى الله عليه وسلم: "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة"[رواه البخاري].

 

ولكن -وللأسف-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: " كل جسد نبت من السحت، فالنار أولى به"[رواه البخاري].

 

فالمال الحرام، سبب لدخول النيران، والبعد عن الجنان، فقد جاء في الحديث عند الترمذي: "لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام".

 

فأكل المال الحرام من رباً وغيره من أعظم موانع الدعاء، ألا ترى آكل الربا يدعو ليلاً ونهاراً فلا يستجاب له؟ تتراكم عليه المصائب والمحن، فلا يستجاب له؟

 

إنه مصداقاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51].

 

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172].

 

ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له" [رواه مسلم].

 

ولقد جاء التحذير من تعاطي الربا، أو التعامل به، ولعن صاحبه وطرده من رحمة الله -عز وجل-، وإبعاده عن مرضاته سبحانه وتعالى، ففي حديث بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" وقال: "هم سواء" [رواه مسلم].

 

أي أنهم سواء في الإثم والمعصية، والجزاء والعقاب، قال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات -أي المهلكات- قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"[رواه الشيخان].

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: عندما تنقلب الموازين، وتنتكس الفطر، وتتحطم القيم، ويقع الإنسان في أوحال الذنب والكبيرة، ويغوص في أعماق المعصية والرذيلة، ويتلطخ بأوصاف قذرة قبيحة، عند ذلك يصبح الإنسان في مصاف البهائم، وتلحقه لومة اللائم، ولكن العجيب والعجائب جمة قصة ذلك الساذج البسيط، الذي فقد عقله، وأسلمه لعدوه، الشيطان وأعوانه، فنأى بنفسه بعيداً عن التوحيد، ورمى بها في مستنقعات الجهل، وحب المال الحرام، فلقد جاء شاب من أهل الغفلة والضياع، إلى المسؤول يطلب منه استقطاعاً من راتبه لعملية ربوية محرمة مع أحد البنوك الربوية، وعندما وجه إليه النصح والإرشاد، والتخويف من أجل الترك والابتعاد، مسنوداً بقول أفضل العباد صلى الله عليه وسلم الذي قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه".

 

فبدل أن يقوم بشكر ذلك الناصح الأمين، وحاملاً له هم الأخوة في الدين، بل رد قائلاً: اعتبرني ناكحاً للأسرة كلها، إنه والله الخسران المبين، والران الذي غطى القلوب، وأعمى الأبصار، إن الزنا مع الغريبة عظيم، فكيف بذات الرحم؟

 

لقد انساق وراء الأوهام، واستسلم للأباطيل، وتفاهة الأحلام، فهو كالفراش يتهافت على النار، إنه أمر مذهل، وجواب مخجل.

 

إن من الحيوان الذي لا يفكر، ولا يمكن أن يقدر، من لا يمكن أن يقع على أمه، فذكر الدميري في حياة الحيوان الكبرى، وفي طيات كلامه عن الجمل، فقال: لا يمكن للجمل أن ينزو على أمه، فكان رجل في سالف الدهر ستر ناقة بثوب، ثم أرسل ولدها عليها، فلما عرف أنها أمه قتل نفسه.

 

فسبحان الله العظيم، جمل أعقل من رجل، وحيوان أفهم من إنسان؟! فهذا إنسان لا يبالي بأن ينكح أسرته من أجل حفنة من مال حرام، وذاك حيوان يقتل نفسه؛ لأنه وقع على أمه! فشتان ما بين الاثنين!.

 

فاحذروا -عباد الله- من عاقبة الربا وأكله، فهو الطريق إلى النار، وبئس القرار .

 

معاشر المسلمين: إن الربا وإن كثر فهو إلى قِلّ، وأن بركته ممحوقة، يقول الله -تعالى-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل"[رواه الحاكم، وهو في صحيح الجامع].

 

فآكل الربا كافر كفر نعمة، وإن استحله فهو كافر خارج من الدين ومارق منه، يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً -والعياذ بالله-.

 

فخير الله إليه نازل، وشره إلى الله صاعد، قال تعالى: (أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) [النحل: 71].

 

وقال تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) [النحل: 83].

 

فآكل الربا لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، بل يسعى في أكل الأموال بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، وأنواع العقود الخسيسة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل الحرام، ولذلك وصفه الله -عز وجل- بأنه كفار أثيم، وكفران النعمة سبب لتغير الحال، وكثرة المرض والجنون والموت، وسبب لزعزعة الأمن، وعدم الاستقرار، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].

 

أيها المؤمنون: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، كما ورد ذلك في الحديث وذلك؛ لأن الأغنياء يحاسبون على أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها؟ وهذا في المال الحلال فما ظنك بذي المال الحرام، ولما سئل -عيسى عليه السلام- عن المال، قال: "لا خير فيه، قيل: ولم يا نبي الله؟ قال: لأنه يُجمع من غير حِل، قيل: فإن جُمع من حِل؟ قال: لا يُؤدي حقه، قيل: فإن أدى حقه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخُيلاء، قيل: فإن سلِم؟ قال: يُشغله عن ذكر الله، قيل: فإن لم يُشغله؟ قال: يُطيل عليه الحساب يوم القيامة".

 

فتأملوا -رحمكم الله- هذه العقبات الخمس، وقليل من يتجاوزها سالماً.

 

فوالله إن ذلك هو المحق والنقصان، والذل والهوان، والمبين من الخسران.

 

فمن استحل الربا، وأصر على أكله وتعاطيه، واستمر على ذلك أدى به إلى الكفر، وسوء الخاتمه -والعياذ بالله-، ففي التعامل بالربا مخالفة لأمر الله -تعالى- وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].

 

وفيه معصية لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتعد لحدود الله -تبارك وتعالى-، وارتكاب لمحارمه، وقد قال الله -تعالى-: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [النساء: 14].

 

فتأمل -أيها المسلم- ما ذكره الله -عز وجل- في الآيات من وعيد لآكل الربا، وعظيم ما يترتب على فعل ذلك المنكر العظيم من العقوبات، والدخول في النيران.

 

فيا من تتعامل بالربا: تب إلى المولى -جل وعلا- قبل أن يحل بساحتك هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ثم تقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)[ الحاقة: 25 - 29].

 

فيقال لك: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)[الحاقة:  30 – 32].

 

فاحذر من عاقبة التعامل بالربا، وأقبل على الله بتوبة نصوح، تجب ما قبلها من الذنوب والعصيان.

 

أيها المسلمون: لا بد لكل عاقل فطن، أن يعرف أن التعامل بالربا دسيسة ومكيدة من دسائس أعداء الله اليهود -قاتلهم الله-، ومكيدة من مكائدهم العظيمة -لا كثرهم الله- ليبعدوا الناس عن دينهم، فقد باءوا بالغضب واللعن من الله -تعالى- لأكلهم الربا، واستحقوا الخزي والندامة، ومسخوا خنازير وقردة، يقول الله -تعالى-: (فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 160- 161].

إن العالم بأسره يئن من وطأة اليهودية الحاقدة، ويدعوا باللعنة والمقت لأهلها والقائمين عليها.

 

عباد الله: لقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف وغيرها، وإغراء الناس بإيداع أموالهم، مقابل فوائد ربوية صريحة.

 

ومن المعلوم من الدين بالضرورة: أن تلك الفوائد حرام سحت، وهي عين الربا الذي جاء تحريمه في الكتابين.

 

ومن كبائر الذنوب، فالربا يفسد المال على صاحبه، ويمحق بركته، ويسبب عدم قبول العمل الصالح.

 

وليعلم كل مسلم إنه مسؤول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ ففي الحديث عن النبي -صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به" [رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح].

 

والأدلة على تحريمه كثيرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 130].

 

وقال تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ) [الروم: 39].

 

وقال صلىّ الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" [رواه مسلم].

 

فهذه الأدلة وغيرها تبين تحريم الربا، وخطره على الفرد والأمة.

 

وإن مما تأسف له النفوس: أن ثلة من الناس لا يهتم بأحكام الإسلام، وإنما يهتم بما يدر عليه المال من أي طريق كان، وما ذاك إلاّ لضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله -تعالى-، وغلبة حب الدنيا على القلوب -نسأل الله السلامة-.

 

هذا هو الواقع المؤلم الذي آلت إليه مجتمعات الإسلام -ولا حول ولا قوة إلاّ بالله-، فهذه الهزائم والخسائر، وهذه البراكين والزلازل، وهذا الهرج والمرج، وكثرة الحوادث والمرض، كل ذلك بما كسبت أيدي الناس من تعاطٍ للربا وغيره، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" [رواه الحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"].

 

وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].

 

وقال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].

 

وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الطلاق: 8 - 10].

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية أُذن بهلاكها"

 

فبدأت المحن تتوالى، والمصائب تتابع، من جرّاء التعامل بالربا.

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من كان مقيماً على الربا لا ينزع منه فحُق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلاّ ضرب عنقه".

 

وصدق رضي الله عنه، فالربا على شاكلة الزنا، فمن هو الذي يستطيع أن يزني أمام الناس جهرة وعلانية، ومن هو الذي يقر على نفسه بالزنا ثمّ لا يرجم ولا يجلد، فالربا كذلك من أعلن التعامل به أو علم عنه ذلك، فحقٌ على المسلمين هجره تأديباً وزجراً، وواجب على وليّ الأمر تأديبه وتعزيره عنوة وقهراً، حتى يعود إلى صوابه، ويراجع دينه، ويتوب إلى ربه، ويعود عن غيّه وزيغه.

 

أيها المرابي يا من تتعامل بالربا: اتق الله، واجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، واحذر من مكر الله: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99].

 

استعمل عقلك، وحكم دينك، وشرع نبيك، الذي قال: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما .. فانطلقنا فأتينا على نهر، قال: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً، فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه، كلمّا رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجراً، قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق" إلى أن قال: "فإني رأيت الليلة عجباً! فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إنا سنخبرك، أماّ الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا" [رواه البخاري].

 

وهذا عذاب أهل الربا في القبور إلى يوم البعث والنشور، وذلك تنكيلاً لهم، ومدّاً للعذاب، لاعتراضهم على الله في حكمه، فالله يقول: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275].

 

وهم يقولون: البيع مثل الربا، فاعترضوا على الله في حكمه، ورفضوا شرعه، مع علمهم بتفريق الله بين البيع والربا، وهو سبحانه العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].

 

وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده وما يضرهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وكل رباً في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رباً أضع ربا العباس".

 

عباد الله: للربا صور عديدة، وأشكالاٍ كثيرة، حري بكل مؤمن أن يسعى جاهداً لمعرفتها، وكشف حقيقتها حتى لا يقع في هذا الجرم العظيم، والخطر الجسيم.

 

فمن صور الربا المتداولة بين الناس اليوم -وحسبنا الله ونعم الوكيل-: أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجل من شخص أو بنك أو معرض، ثم يبيعها عليه بثمن حال أقل من ثمنها المؤجل قبل أن يسدد قيمتها كاملة، فهذه حيلة على الربا، يتحايلون على الله كما يتحايلون على الصبيان، وهذا يسمّى "بيع العينة"، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" [رواه أبو داود، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، السلسة الصحيحة].

 

ولما سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن مثل هذه المعاملة، قال: "هذا حرام، حرمه الله ورسوله".

 

بل أخبرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- من فعل ذلك من الصحابة جاهلاً بأنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتوب.

 

ومن صور الربا: أن يستدين مبلغاً من المال على أن يعيده بزيادة، سواءً كان المتعامل معه شخصاً أو شركة أو بنكاً، أو غيرها، فتلك المعاملة رباً، والربا حرام.

 

ومن صور الربا: أن يستبدل ذهباً قديماً بذهب جديد ويدفع الفرق بينهما، وهذا عين الربا.

 

والمعاملة الصحيحة في ذلك: أن يبيع ذهبه القديم، ويقبض ثمنه، ثم يشتري ذهباً جديداً بثمن القديم، ولو زاد نقوداً من عنده بعد ذلك.

 

ومن صور الربا: أن يشتري ذهباً حالاً بثمن مؤجل، فهذا ربا محرم التعامل به، ولا تجوز المحاباة فيه لا لقريب ولا لصديق؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كان أقرب قريب.

 

ومن صور الربا: قلب الدين على المعسر، وهذا هو ربا الجاهلية، وذلك أنه إذا حل الدين ولم يكن عنده سداد، زيد عليه الدين بكميّات ونسب معينة، حسب التأخير، وهو حرام بإجماع المسلمين.

 

ومن صور الربا: القرض بفائدة، وصورته: أن يقرضه شيئاً، بشرط أن يوفيه أكثر منه، أو يدفع إليه مبلغاً من المال على أن يوفيه أكثر منه بنسب معينة، وهو ربا صريح، أو يقرضه مالاً على أن يعيده وشيئاً معه سواء من المال أو من غيره من الأواني وغيرها.

 

ومن صور الربا: الإيداع في البنوك بفائدة، وهو ما يسمّى بالودائع الثابتة إلى أجل، فيتصرف البنك في هذه الودائع إلى تمام الأجل، ويدفع لصاحبها فائدة ثابتة بنسبة معينة في المئة، وهذا ربا لا شك فيه، ولا ريب فيه.

 

عباد الله: يا من ترجون رحمة الله، وتخافون عذابه: احذروا من دخول الربا في معاملاتكم، واختلاطه بأموالكم، فإن أكل الربا وتعاطيه من أكبر الكبائر، وأخبث الخبائث، وفيه الإذن من الله لمتعاطيه بالفقر، والأمراض المستعصية، وظلم السلطان، فالربا يهلك الأموال، ويمحق البركات، فكم تسمعون من تلفِ الأموال العظيمة بالحريق والغرق والفيضان، فيصبح أهلها فقراء بين الناس، وإن بقيت هذه الأموال الربوية بأيدي أصحابها، فهي ممحوقة البركة، لا ينتفعون منها بشيء، إنما يقاسون أتعابها، ويتحملون حسابها، ويصلون عذابها.

 

فالمرابي مبغوض عند الله وعند خلقه؛ لأنه يأخذ ولا يعطي، ويجمع ويمنع، ولا ينفق ولا يتصدق، شحيح جشع، جموع منوع، تنفر منه القلوب، وينبذه المجتمع، وهذه عقوبة عاجلة، وعقوبته الآجلة أشد وأبقى، وما ذاك إلاّ لأن الربا مكسب خبيث، وسحت ضار، وكابوس ثقيل على المجتمعات البشرية.

 

فيجب على المسلم الابتعاد عنه، والتحرز منه، لكثرة الوقوع فيه في هذا الزمان، لماّ طغت المادة، وضعف المسلمون، وفشا الجهل بأحكام الدين، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: "ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره" [رواه أحمد وأبو داود].

 

فمن تأمل حال الناس اليوم أدرك مصداق هذا الحديث الشريف، وذلك أنه لماّ فاضت الأموال، وتضخمت في أيدي فئام من الناس، وضعوها في البنوك الربوية، فأصابهم من الربا ما أصابهم، فمنهم من أكله، ومنهم من لم يأكله، لكن أعان على أكله، فأصابه من غباره، والله على ما يفعلون شهيد.

 

أيها الإخوة: كيف يأتي النصر والناس قد أكلوا الربا، ومن لم يأكله أصابه من غباره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا بد من مراجعة النفس، ورأب الصدع، واجتماع الكلمة، وتوحيد الصف.

 

 

المرفقات

3

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات