الربا

إبراهيم سلقيني

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/معنى الربا في اللغة والاصطلاح 2/تحريم الربا في جميع الديانات السماوية واستحلال اليهود له ورد القرآن عليهم 3/مراحل تحريم الخمر والربا في القرآن 4/تحريم الإسلام للربا وتحذيره منه 5/حث الإسلام على القرض الحسن 6/تقديس الإسلام للعمل وحثه عليه 7/أخطار الربا وعواقبه

اقتباس

الربا -أيها الإخوة الأحبة- محرم في جميع الديانات السماوية، إلا أن اليهود الذين غيروا وبدلوا أجازوا أخذ الربا من غير اليهود، ورد عليهم القرآن الكريم: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)[النساء:161]. وحرمت الشريعة الإسلامية الربا أشد التحريم، وقد مر هذا التحريم في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بـ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار، ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه الإنسان وحيثما استقر.

الحمد لله العلي القادر، العزيز القاهر، القدير الذي لا ينسى، الحكيم الذي لا يضل.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده، وخلفائه الراشدين الهادين المهدين من بعده سيدنا، أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى باقي الصحابة والقرابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة المؤمنون: يقول تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[البقرة: 275- 276].

 

الربا -أيها الإخوة- معناه في اللغة: الزيادة.

 

ومعناه في الاصطلاح: الزيادة على رأس المال، يأخذها المقرض من المستقرض في مقابل الزمن، سواء أكانت هذه الزيادة قليلة أو كثيرة؛ بدليل قوله تبارك وتعالى: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)[البقرة:279].

 

بدون أي زيادة.

 

الربا -أيها الإخوة الأحبة- محرم في جميع الديانات السماوية، إلا أن اليهود الذين غيروا وبدلوا أجازوا أخذ الربا من غير اليهود، ورد عليهم القرآن الكريم: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)[النساء:161].

 

وقد حرمت الشريعة الإسلامية الربا أشد التحريم، وقد مر هذا التحريم في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأربعة أدوار.

 

وسيرا مع حكمة الشريعة في التدرج، بأخذ الناس في أحكامها، خصوصا في الأمراض الاجتماعية المتأصلة؛ ففي الخمر مثلا مر تحريمه بأربعة أدوار:

 

الدول الأول: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)[النحل:67].

 

وهذا النص لا يدل على التحريم، وإنما يدل على أن السكر رزق غير حسن، فهو إشارة تمهيد.

 

ثم جاء الدور الثاني: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)[البقرة:219].

 

والمنافع المراد بها المنافع المادية والربحية والتجارية: (وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)[البقرة:219].

 

ولكن هذا ليس صريحا قطعيا في الدلالة على التحريم.

 

جاء الدور الثالث: ليحرم تحريما جزئيا في بعض الأوقات دون بعض: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ)[النساء:43].

 

والدور الرابع: جاء صريحا قاطعا عاما دالا على التحريم: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 90].

 

كذلك في تحريم الربا -أيها الإخوة-: جاء الدور الأول في العهد المكي: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم :39].

 

أي يضاعف الأجر والثواب.

 

وهذا لا يدل على التحريم القطعي، وإنما التمهيد؛ لأن الربا أمر يكرهه الله.

 

وفي العهد المكي، جاء الدور الثاني: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ)[النساء: 160- 161].

 

في ذلك دلالة في التحريم على اليهود، وليست الدلالة قطعية وصريحة بالنسبة للمسلمين، ولكن يؤخذ منها التحريم أيضا.

 

الدور الثالث: جاء التحريم جزئيا في الربا الفاحش: (لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)[آل عمران:130].

 

ثم جاء الدور الرابع: القاطع العام الشامل، وهو قول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)[البقرة: 278- 279].

 

وهذا نسخ لتحريم الربا الفاحش فقط، على أن تحريم الربا الفاحش كان بيانا لواقع كانوا عليه في الجاهلية، يقول المستقرض للمقرض: "زدني في الزمن والأجل أزيدك في المال حتى يصبح أضعافا مضاعفة".

 

(وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)[البقرة:279].

 

سواء كانت الزيادة قليلة أو كثيرة، سواء كان الربا فاحشا أو غير فاحش، سواء كان الربا استثماريا أو استهلاكيا، فالنص عام شاملا مطلق غير مقيد.

 

أيها الإخوة المؤمنون: الإسلام -كما قلت- حرم الربا أشد التحريم، واعتبره من الموبقات، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المؤمنات المحصنات الغافلات".

 

بل بلغ  من الشريعة الإسلامية: أن أعلنت أن الله -تبارك وتعالى- لعن، أي طرد من رحمته كل من يشارك في عقد ربا، أو في صفقة ربوية، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله آكل الربا" أي من يأكله ويأخذه، أي الدائن.

 

"لعن الله آكل الربا وموكله" أي المستدين الذي يدفع "وكاتبه" الذي يقوم بكتابة العقد أو الصفقة "وشاهديه" أي كلهم مطرودين من رحمة الله -عز وجل-.

 

وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية".

 

الزنا الفاحشة الجريمة الخطيرة التي تنتهك بها الحرمات والأعراض والأنساب، ولها من الأخطار الصحية والاجتماعية ما لها: "درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية".

 

أيها الإخوة الأحبة: هذا التحريم القاطع الصريح؛ لأن الإسلام يدعو ويحض على القرض الحسن: (وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم:39].

 

الإسلام يسير على مبدئه فيما يتعلق بالمال، وخلق الفرد، ومصلحة الجماعة.

 

المال في نظر الإسلام وديعة، أمانة، تحت يد صاحب المال ليجمعه من الطرق المشروعة، وينفقه في الطرق المشروعة، فيما يعود عليه وعلى المجتمع بالخير والفائدة.

 

لا الفائدة الربوية التي أصبح اليوم للتمويه يسمونها: "زيادة" يقولون: لا نقول فائدة، بل هي زيادة!.

 

فالذي يقلب المبدأ، ويجعل المال وسيلة للاستغلال وللإضرار، ولتحقيق الأثرة والأنانية، يستغل جهد الآخرين، وحاجتهم وضعفهم، وقد تكون الحاجة -أيها الإخوة- الحاجة للطعام الذي يحفظ الحاجة، أو للكساء الذي يواري الجسد، أو للدواء للمحافظة على الصحة، أو للنفقة على العلم، أو لغير ذلك.

 

فإما أن يتعطل كل هذا، ويتحكم صاحب المال، فيعطي المال ليأخذه زائدا، وإما أن يكون قرضا حسنا.

 

وهذه الزيادة التي يأخذها من جهده، ومن عرقه، إنه الدم والعرق الذي يربي فيهم المرابي، والمؤسسات الربوية، بشراهة.

 

والإسلام -أيها الإخوة الأحبة- الذي يقدس العمل، ويعتبره الطريق الأكمل والأمثل لجمع المال: "ما أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عليه السلام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ".

 

الإسلام الذي يرفع من شأن العمل والعاملين، لتحقيق المهارة والإنتاج والإبداع، لا يسمح أن يلد المال المال، فالمال لا يلد مالا، وإنما الذي يلد المال الجهد.

 

ويلحظ الإسلام أيضا خلق الفرد، ويلحظ أيضا التعاون والتراحم والإيثار بين أفراد المجتمع المسلم، والفرد الذي يأكل الربا لا خلق له ولا ضمير، فالمجتمع الذي يسير فيه الربا مجتمع الأنانيات والأثرة، مجتمع البغضاء والحسد والصراع الطبقي.

 

والتعاون والإيثار، هو الأساس في المجتمع المسلم، والربا يهدم ذلك البناء، ويوهن أساسه، كما ينشأ عن ذلك أخطار عظيمة؛ منها: الأخطار الاستعمارية نتيجة ديون الدول، ونعلم جميعا آثار تلك الأخطار على البلاد الإسلامية والعربية!.

 

كما أن من تلك الآثار: تضخم الثروات بلا حد، وتفرق الطبقات، عليا وسفلى، ووجود طبقة مترفة، تعيش على الترف والسرف، ثم اللهو والانحراف.

 

أيها الإخوة الأحبة: يقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)[البقرة: 278- 279].

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم لعلكم ترحمون.

 

 

 

 

المرفقات

2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات