الخونة

الشيخ د صالح بن مقبل العصيمي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ فاجعة استدراج ابن العم وقتله 2/ تعظيم الدماء وتحريم قتل النفس بغير حق 3/ ذم الغدر والخيانة وبيان مفاسدهما 4/ التحذير من الغلو والأفكار الضالة 5/ وجوب تعظيم حرمات الله تعالى.

اقتباس

حَلَّتْ بِسَاحَتِنَا فَاجِعَةٌ أُخْرَى، وَمُصِيبَةٌ عُظْمَى؛ أَدْمَتْ قُلُوبَنَا وَأَسَالَتْ مَدَامِعَنَا، مِنْ أَفْعَالٍ مُشِينَةٍ، وَجَرَائِمَ آثِـمَةٍ، اِقْتَـرَفَهَا مَنْ لَا يُوفُونَ بِعَهْدٍ وَلَا مِيثَاقٍ، وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؛ لَقَدْ فُجِعْنَا بِـمَنْ قَامُوا بِاسْتِدْرَاجِ اِبْنِ عَمِّهِمْ فَقَتَلُوهُ أَبْشَعَ قِتْلَةٍ، وَلَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا جَرِيرَةً؛ إِلَّا أَنَّهُ حَامٍ مِنْ حُـمَاةِ دِيَارِنَا، وَرجُلٌ مِنْ رِجَالِ أَمْنِنَا، الَّذِينَ لَـمْ تُـخِفْهُمْ - وَلَنْ تُـخِيفَهُمْ بِـحَولِ اللهِ وقوتِهِ- أفْعَالُ الْـخَوَنَةِ، وَلَـمْ يُثَبِّطْ عَزِيـمَتَهُمْ تَـهْدِيدُ الْمَارِقِيـنَ الْعُمَلَاءِ الْفَجَرَةِ.

 

 

 

الْــخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إنَّ الْـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتِغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا، وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّى اللهُ عليه، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ ... فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعِةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ.

 

عِبَادَ اللهِ، لَـمْ تَلْتَئِمْ بَعْدُ جِرَاحُنَا مِنْ أَفْعَالِ الْـخَوَنَةِ وَالْغَدَرَةِ، مُفَجِّرِي الْمَقَارِّ الأَمْنَيَّةِ، وَالْـمُنْشَئَاتِ الْـحُكُومِيَّةِ، وَقَتَلَةِ الأَخْوَالِ والأَعمَامِ، ورجَالِ الأَمْنِ، والركَعِ السُّجُودِ؛ حَتَّـى حَلَّتْ بِسَاحَتِنَا فَاجِعَةٌ أُخْرَى، وَمُصِيبَةٌ عُظْمَى؛ أَدْمَتْ قُلُوبَنَا وَأَسَالَتْ مَدَامِعَنَا، مِنْ أَفْعَالٍ مُشِينَةٍ، وَجَرَائِمَ آثِـمَةٍ، اِقْتَـرَفَهَا مَنْ لَا يُوفُونَ بِعَهْدٍ وَلَا مِيثَاقٍ، وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؛ لَقَدْ فُجِعْنَا بِـمَنْ قَامُوا بِاسْتِدْرَاجِ اِبْنِ عَمِّهِمْ فَقَتَلُوهُ أَبْشَعَ قِتْلَةٍ، وَلَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا جَرِيرَةً؛ إِلَّا أَنَّهُ حَامٍ مِنْ حُـمَاةِ دِيَارِنَا، وَرجُلٌ مِنْ رِجَالِ أَمْنِنَا، الَّذِينَ لَـمْ تُـخِفْهُمْ - وَلَنْ تُـخِيفَهُمْ بِـحَولِ اللهِ وقوتِهِ- أفْعَالُ الْـخَوَنَةِ، وَلَـمْ يُثَبِّطْ عَزِيـمَتَهُمْ تَـهْدِيدُ الْمَارِقِيـنَ الْعُمَلَاءِ الْفَجَرَةِ.

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَفْعَالَ هَؤُلَاءِ لَـمِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا، حَيْثُ قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ". قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ". قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ. قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ" (رَوَاهُ أَحْـمَدُ وَغَيْـرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).

 

عِبَادَ اللهِ، لَيْسَ هُنَاكَ أَشَدُّ إِيلَامًا للنُّفُوسِ مِنَ الْغَدْرِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ.

وَالْغَدْرُ أَنْشَبَ بِالْقُلُوبِ أَظَافِرَا *** وَغَدَا يُـمَزِّقُ جَهْرَةً أَجْذَاعَا

 

 فَكَمْ أَوْقَعَ الْغَدْرُ فِي الْمَهَالِكِ مِنْ غَادِرٍ! وَضَاقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَوَارِدِ الْـهَلَكَاتِ فَسِيحَاتُ الْمَصَادِرِ، وَطَوَّقَهُ غَدْرُهُ طَوْقَ خِزْيٍ؛ فَهُوَ عَلَى فَكِّهِ غَيْـرُ قَادِرٍ؛ فَأَيُّ سُوءٍ أَقْبَحُ مِنْ غَدْرٍ يَسُوقُ إِلَى النَّارِ؟!

 

وَأَيُّ عَارٍ أَفْضَحُ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، إِذَا عُدَّتْ مَسَاوِئُ الأَخْلَاِق؟! وَأَيُّ فَضِيحَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ أَنَّ الْغَادِرَ يَـحْمِلُ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ لِوَاءَ غَدْرِهِ؛ لِيَكُونَ خِزْيًا لَهُ، وَعَارًا عَلَيهِ بَيْـنَ الْـخَلَائِقِ. حَيْثُ قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْغَادِرَ يَنْصِبُ اللهُ لَهُ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: أَلَا هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

 وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ، أُعْطِيَ لِوَاءَ الْغَدْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رَوَاهُ أَحْـمَدُ وَغَيْـرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ). فَبِئْسَتِ الأَلْوِيَةُ هَذِهِ الَّتِـي يَـحْمِلُهَا الْغَدَرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

 

أَخْلِقْ بِـمَنْ رَضِيَ الْـخِيَانَةَ شِيمَةً *** أَنْ لَا يُرَى إِلَّا صَرِيعَ حَوَادِثِ

مَا زَالَتِ الأَرْزَاءُ تُلْحِقُ بُؤْسَهَا *** أَبَدًا بِغَـــــادِرِ ذِمَّـــةٍ أَوْ نَاكِـــــثِ

 

فَالْغَادِرُ مَـمْقُوتٌ مِنَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْـمَعِيـنَ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "ذِمَّةُ الْمُسْلِميـنَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً، فَعَليْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أجْمَعِيـنَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً، وَلا عَدْلاً" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

 فَغَدْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى خِسَّةِ نَفْسِهِ وَحَقَارَتِـهَا. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلُوا رَجُلَ الأَمْنِ غَدْرًا؛ يَصْدُقُ فِيهِمْ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد: 25].

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الْغَدْرَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ؛ فَلَا أَمَانَة لِـمَنْ لَا أَمَانَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهْ، قال -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَعْطَى بَيْعَتَهُ ثُمَّ نَكَثَهَا، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَتْ مَعَهُ يَمِينُهُ» قَالَ ابنُ حَجَرٍ: أَخْرَجَهُ الطَّبَـرَانيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.

 

وَهَؤُلَاءِ أَعْطُوا الْبَيْعَةَ لإِمَامِنَا – سَلَّمَهُ اللهُ- ظَاهِرًا، وَنَكَثُوهَا خِيَانَةً وَغَدْرًا. وَلَـمْ يَرْدَعْهُمْ قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

 وَمَعْنَـى "لَا يَتَحَاشَى" أَيْ: لَا يَكْتَـرِثُ بِـمَا يَفْعَلُهُ، وَلَا يَـخَافُ عُقُوبَةَ فِعْلِهِ.

 وَالْـحَدِيثُ بِكُلِّيَّتِهِ يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمَارِقَةِ، وَالْـجَمَاعَةِ الْـخَائِنَةِ، عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ مَا يَسْتَحِقُّونَ.

 

عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- حِينَمَا حَذَّرَ مِنَ اللُّؤْمِ وَالْغَدْرِ حَتَّـى مَعَ الْكُفَّارِ؛ فقَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: «اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا" (رَواهُ مُسْلِمٌ)، فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّهْيُ عَنِ الْغَدْرِ حَتَّـى مَعَ الْمُشْرِكِيـنَ الْـمُحَارِبِينَ، فَكَيْفَ بِالْغَدْرِ مَعَ الْمُؤْمِنِيـنَ الآمِنِيـنَ؟!

 

عِبادَ اللهِ، إِنَّ شَرَّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ؛ الَّذِينَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَقَضُوهُ، وَكُلَّمَا أَكَّدُوهُ بِالأَيْـمَانِ نَكَثُوهُ، وَهُمْ لَا يَـخَافُونُ اللهَ فِي شَيءٍ اِرْتَكَبُوهُ؛ فَالْغَدْرُ حُرْمَتُهُ عَظِيمَةٌ، وَآثَارُهُ وَخِيمَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَـمْ تَرْدَعْ هَؤُلَاءِ الآيَاتُ الْمُنْذِرَةُ، وَلَا الأَحَادِيثُ الْـمُحَذِّرَةُ؛ فَقُلُوبُـهُمْ نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ- قَاسِيَةٌ.

 

عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ حَذَّرَ اللهُ مِنَ الْـخِيَانَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) [الأنفال: 58].

إنَّ الْوَفَاءَ عَلَى الْكَرِيـمِ فَرِيضَةٌ *** وَاللُّؤْمُ مَقْرُونٌ بِذِي الإِخْلَافِ

 

وَهَؤُلَاءِ خَانُوا قَرِيبَهُمُ فَخَدَعُوهُ واِسْتَدْرَجُوهُ؛ فَتَحَلَّوا بِـخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْـخِـيَانَةِ؛ فَإِنَّـهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ" (رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).

 

عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ شَرَعَ الإِسْلَامُ الْعُهُودَ لِتُصَانَ وَتُوَفَّى، وَجَاءَ الأَمْرُ الصَّرِيحُ بِذَلِكَ مِنَ اللهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1]، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِيـنَ، فَالْمُسْلِمُ لَا يَـخُونُ، وَلَا يَغْدُرُ، وَلَا يَـخْفِرُ؛ لِيَزْرَعَ فِي نَفْسِ الْمُعَاهَدِ الأَمْنَ وَالاِطْمِئْنَانَ. إِنَّ الإِسْلَامَ يُرِيدُ لِلْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَرْتَفِعَ، وَتَنْأَى عَنْ مَسَاوِئِ الأَخْلَاقِ.

وَفاءُ العَهدِ من شِيَمِ الْكِرَامِ *** وَنَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ شِيَمِ اللِّئَامِ

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

 الْـخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

 أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ قِوَى الشَّرِّ وَالضَّلَالِ تَعِيثُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ فَسَادًا، وَالْمَعْرَكَةُ بَينَنَا وَبينَهُمْ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَهَؤُلَاءِ الأَشْرَارُ يَبْطِشُونَ غَيْـرَ مُتَحَرِّجَيـنَ، وَيَقْتُلُونَ غَيْـرَ مُتَوَرِّعَيـنَ، وَلَيسُوا مِنَ اللهِ وَجِلِيـنَ.

 

فَالْبَاطِلُ وَأَهْلُهُ مُتَبَجِّحُونَ، لَا يَكُفُّونَ عَنِ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، وَالْقَتْلِ وَالإِفْسَادِ؛ فَلَابُدَّ أَنْ يَقِفَ الْمُجْتَمَعُ أَمَامَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمَارِقَةِ وَقْفَةً صَارِمَةً، لَا مُدَارَاةَ فِيهَا وَلَا مُـجَامَلَةَ. وَيَـجِبُ حِـمَايَةُ شَبَابِنَا مِنْ تَأْثِيـرِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْفَاسِدَةِ؛ بِتَقْوِيَةِ إِيـمَانِـهِمْ بِاللِه، وَدَحْضِ شُبَهِ الْمُفْسِدِينَ أَمَامَهْمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَـجْلِسَ الآبَاءُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ جَلَسَاتِ مُكَاشَفَةٍ وَمُصَارَحَةٍ لِتَحْصِينِهِمْ مِنْ هَذِهِ الأَفْكَارِ.

 

وَعَلَى الآبَاءِ أَنْ يَعْرِفُوا أَصْدِقَاءَ أَبْنَائِهِمْ؛ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ مُـجَالَسَةِ مَنْ تَأَثَّرُوا بِـهَذِهِ الأَفْكَارِ الْمُنْحَرِفَةِ، أَوْ بَدَتْ عَلَيْهِمْ مَلَامِـحُهُ، فَلَا مُهَادَنَةَ وَلَا مُدَاهَنَةَ مَعَهُمْ، وَلَا تُضَحِّي بِاِبْنِكَ مُدَارَاةً أَوْ مَـجَامَلَةً. وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ بِدَوْرِهِ فِي مُـحَارَبَةِ هَذَا الْفِكْرِ الضَّالِّ الْمُضِلِّ؛ حَتَّـى لَا يَسْتَشْرِيَ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَلَا يَذْهَبَ ضَحِيَّتَهُ مَـخْدُوعٌ، فَكَمْ مِنْ شَابٍّ تَـحَوَّلَ إِلَى مُـجْرِمٍ قَاتِلٍ بَعْدَ أَنْ تَلَوَّثَتْ أَفْكَارُهُ!

 

فَيَجِبُ أَنْ نَـحْمِيَ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الْفِرْقَةِ. كَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَزْرَعَ فِي أَبْنَائِنَا الْـخِصَالَ الْـحَمِيدَةَ، وَمِنْ أَهَـمَّـهَا الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَنَبْذُ الْغَدْرِ وَالْـخِيَانَةِ، الَّتِـي هِيَ مِنْ أَقْبَحِ مَا يَتَّصِفُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْـمُفْسِدِينَ، حَتَّـى يَعْرِفَ الشَّبَابُ مِنَ الْوَهْلَةِ الأُولَى أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِصَفَةِ الْغَدْرِ وَالْـخِيَانَةِ؛ فَقَدِ اِتَّصَفَ بِـخَصْلَةٍ يَـمْقُتُهَا الإِسْلَامُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا عُقُوبَاتٍ عَظِيمَةً، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُـحِبُّ الْـخَائِنِيـنَ.

 

وَالإِسْلَامُ يَـحْتَقِرُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ، حَتَّـى وَلَوْ كَانَتْ غَايَةُ الْـخَائِنِ شَرِيفَةً؛ فَالْغَايَةُ فِي الِإسْلَامِ لَا تُبَـرِّرِ الْوَسِيَلَةَ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْغَايَةُ حَسَنَةً أصلًا؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْغَايَةُ خَسِيسَةً حَقِيـرَةً دَنِيئَةً؛ كَغَايَةِ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِيـنَ الَّذِينَ اِسْتَخْدَمُوا فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَسِيلَةً غَيْـرَ شَرِيفَةٍ؛ أَلَا وَهِيَ الْغَدْرُ وَالْقَتْلُ.

 

فَلَا يُـمْكِنُ لأَصْحَابِ الْوَسَائِلِ الْـخَسِيسَةِ الْـخَبِيثَةِ أَنْ يَنْتَصِرُوا؛ وَلَوْ قَتَلُوا وَأَفْسَدُوا، فَعَلَى مُـجْتَمَعِنَا أَنْ يَظَلَّ مُتَمَاسِكًا، وَأَنْ يَعَضَّ أَفْرَادُهُ عَلَى نِعْمَةِ الأَمْنِ بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَى الشَّبَابِ أَنْ يُبَادِرُوا فَوْرًا بِالإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَلْمَسُونَ مِنْهُ تَعَاطُفًا مَعَ أَصْحَابِ هَذَا الْفِكْرِ الضَّالِّ، بِـمَجَرَّدِ أَنْ يَـجِدُوا وَلَوْ رَائِحَةَ لَوْثَةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ هَذَا الْفِكْرِ بِكَلَامِهِ الْمُبَاشِرِ، أَوْ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الاِتِّصَالِ الْـحَدِيثَةِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ يُــغْــرِيهِ بِالِاسْتِمْرَارِ بِالتَّأْثِيـرِ وَالتَّأَثُّرِ حَتَّـى يَغْوَي وَيُغْوِىَ غَيْـرَهُ.

 

حَـمَا اللهُ بِلَادَنَا وَشَبَابَنَا مِنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِيـنَ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُـحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى وَجْهِكَ. الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيينَ غَيْـرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ.

 

اللَّهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَالْـمُسْلِمِينَ مِنَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، اللَّهُمَّ اِحْفَظْ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا وَاِسْتِقْرَارَهَا، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاِجْعَلْهُ هَادِيًا مَـهْدِيًّــا، وَأَصْلِحْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ الْـمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَوَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ.

 

اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرُوا مَعَنَا، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات