عناصر الخطبة
1/ مراقبة الله لعباده 2/ رأس الحكمة: مخافة الله 3/ ثمرات الخوف من الله تعالى 4/ ضعف رقابة القوانين الوضعية على النفوس 5/ قصة وعبرة في ثمرات الخوف من الحرام وتركه.اقتباس
إن "رأس الحكمة، مخافة الله".. فما مقدار الإحساس والشعور لدينا برقابة الله لنا؟ وما رصيد الخوف من الله في قلوبنا؟ كيف حالنا اليوم - ونحن في شهر رمضان، شهر التوبة والغفران - ولا يزال البعض مُصرًّا على الذنب مستكبرًا؟ وبقلب بارد يأكل السحت الحرام متبخترًا؟ وقل أن تجد ناهيًا أو مُسْتنكرًا! بل نجد من يُجالس أهل المعاصي ويكثِّر سوادهم مشاربًا ومؤاكلاً.. فهل قست القلوب فهي كالحجارة أو أشد قسوة؟ فلا تتأثر بالمواعظ ولا تنتفع بالذكرى؟ كيف السبيل للعلاج أيها المؤمنون؟!.. إن العلاج والدواء هو: الخوف الآمن!
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الملك والملكوت، يبقى والكُلُّ دونه يموت..
أيها المسلمون والمسلمات، لا يمكن لأي إنسان أن يخلو بنفسه؛ كما سبق أن تعلمنا منذ صغرنا، فهل توجد لحظة نخلو فيها بأنفسنا ونحجبها عن رقابة الله الذي (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 3]؟ ولقد صدق الشاعر أبو العتاهية حين قال:
إذا ما خلوْتَ الدّهرَ يوْما، فلا تَقُلْ *** خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفُلُ ساعةً *** وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيبُ
كما قيل إن "رأس الحكمة، مخافة الله".. فما مقدار الإحساس والشعور لدينا برقابة الله لنا؟ وما رصيد الخوف من الله في قلوبنا؟
كيف حالنا اليوم - ونحن في شهر رمضان، شهر التوبة والغفران - ولا يزال البعض مُصرًّا على الذنب مستكبرًا؟ وبقلب بارد يأكل السحت الحرام متبخترًا؟ وقل أن تجد ناهيًا أو مُسْتنكرًا! بل نجد من يُجالس أهل المعاصي ويكثِّر سوادهم مشاربًا ومؤاكلاً.. فهل قست القلوب فهي كالحجارة أو أشد قسوة؟ فلا تتأثر بالمواعظ ولا تنتفع بالذكرى؟...كيف السبيل للعلاج أيها المؤمنون؟!.. إن العلاج والدواء هو: الخوف الآمن!
لقد بيَّن الله -تعالى- بوضوح نوع الخوف الذي يميِّز المؤمنين عن غيرهم فقال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
فبقدر تمكن الإيمان من القلوب، يخاف المؤمن من ربه ويتوب، ويهرب من المعاصي والذنوب.
أيها المؤمنون! إن الخوف من الله أمن وأمان، فهو: الخوف الآمن!! إن الخوف من الله أمن وهبة، وشجرة طيبة، إذا نبت أصلها في القلب، امتدت فروعها إلى الجوارح لتؤتي أكلها بإذن ربها، وتنتج عملاً صالحًا، وقولاً حسناً، وسلوكاً قويماً، وأمناً ووئاماً، وإنساناً فاضلاً كريماً..
ويُخطئ من يظن أن تسطير القوانين وتفعيلها وحدها -رغم أهميتها - تكفي لزجر المخالفين وردعهم في مختلف مجالات الحياة.. فهل تمكنت القوانين من ردع المستهترين بقوانين السير للحد من حوادث الطرق؟
وهل نفعت القوانين في قطع الطرق على النصابين والمحتالين والمرتشين؟
وهل حدَّت القوانين من الدعارة والفجور؟
وهل قضت القوانين على ظواهر الغش والمكر والخداع؟
واللائحة تطول.. لا بد إذن من التكامل بين تنفيذ القوانين وإلزام الناس باحترامها، وإشاعة الخوف من الله ورقابته في مجالاتنا التعليمية و التربوية...واستحضار التوجيهات القرآنية كقوله -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]. فكلما كان العبد قريبًا من الله، كان أشد خشية له.. وأقرب الموصوفين بالخوف من الله: الملائكة الأطهار (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل: 50].
ثم يأتي من بعدهم الرسل والأنبياء عليم السلام: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39].
ويتبعهم ورثة الأنبياء وهم العلماء، كما جاء في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
ثم يتتابع الناس في درجات خوفهم من ربهم وخشيتهم له حسب درجات تقواهم وإيمانهم. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ذَكر الحديثُ الشريف منهم "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخافُ الله.. ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".
ونقف مع قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ –أي: سافر بالليل- وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".. فشمِّرُوا أيها المسلمون، فإنكم في شهر المجاهدة والصبر، واعلموا أن مخافة الله أمانٌ والفرار إليه نجاة.. وكيف لقلب لم يُزرَع فيه خوف الله أن يرتدع عن اتباع الهوى والتقلب تحت ضغط التأثر بالشهوات والشبهات؟ وإن ما يجري حولنا من أحداث مؤلمة وما ابتُليت به بعض مجتمعات المسلمين من النِّقَم والفتن إلا لما يشاع من المعاصي والذنوب وقلة الخوف من علام الغيوب!
ويعطينا سيد الخلق المبعوث رحمة للعالمين وأسوة الخائفين -صلى الله عليه وسلم- صورة ونموذجا فيقومُ الليل حتى تتفطر قدماه وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه!! وحين يُسأل عما حمله على ذلك، أجاب بقوله: "أفلا أكون عبداً شكوراً"؟!، فاقتدوا -عباد الله- به تنالوا من ربكم إحسانًا وتكريمًا، وصلوا عليه وسلموا تسليمًا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبكلام رسوله الكريم، ويغفر الله لي ولكم ولمن قال آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه...
عبادَ الله! إن للخوف من الله وخشيته منافع، ولا يجمع الله -تعالى- للعبد بين أمنين أو خوفين، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -جل وعلا- أنه قال: "وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة".
وليس الخائف من الله هو الذي يبكي هنيهة ويمسح دموعه ثم يعود لإصراره، بل من يترك ما يخاف أن يُعاقَب عليه.
ومن ثمار الخوف من الله: الهداية والصلاح- الفوز والفلاح - المغفرة والأجر الكبير - الفرج والنجاة - وأخيراً دخول الجنة بسلام.
كما يخبرنا ربنا سبحانه بوعده: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 31 - 35]، فهل بقي لنا عذر ومبرر للغفلة عن خوف الله وخشيته؟ هل نحن على استعداد لنجعل خوف الله يرافقنا في البيت، والمتجر، والمكتب، والعمل...في خلوتنا ومع الناس؟..
واسمعوا للذكرى يرحمكم الله.. في زمن الخليفة عمر -رضي الله عنه-، كان بعضُ بائعي اللبن يخلط اللبن بالماء، واشتكى المسلمون من ذلك، فأرسل الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أحد رجاله ينادي في بائعي اللبن بعدم الغشّ، فدخل المنادي إلى السوق ونادى: يا بائعي اللبن لا تَشُوبوا اللبن بالماء، فتغُشّوا المسلمين، وإن من يفعل ذلك؛ فسوف يعاقبه أمير المؤمنين عقابًا شديدًا.
وذات ليلة خرج عمر بن الخطاب مع خادمه أسلم ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل، وفي أحد الطرق استراح من التجوال بجانب جدار، فإذا به يسمع امرأة تقول: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه (اخلطيه) بالماء. فقالت الابنة: "يا أُمَّتَاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت الأم: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادى: لا يُشَابُ اللبن بالماء، فقالت الأم: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبيّة: واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا".
فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك، أعجب بالفتاة لورعها ومراقبتها لله رب العالمين. وقال: «يا أسلم، علِّم الباب، واعرف الموضع». ثم مضى.
فلما أصبح قال: «يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة؟ ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل»، فذهب أسلم إلى المكان، فوجد امرأة عجوزًا، وابنتها أم عمارة، وعلم أنْ ليس لهما رجل، ثم عاد فأخبر عمر، فدعا عمر أولاده، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوِّجه، ولو كان بأبيكم حَركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية، فقال عبد الله بن عمر: لي زوجة. وقال أخوه عبد الرحمن: لي زوجة. وقال عاصم: يا أبتاه لا زوجةَ لي فزوِّجني.
فبعث إلى الجارية فزوّجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، ولدت هذه البنت ابنة صارت أمَّا لعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد.
فاللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم