الخلال النبوية (14) بكاء النبي صلى الله عليه وسلم

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أوتي من الخلال أحسنها، ومن الصفات أعلاها 2/ كان -صلى الله عليه وسلم- يبكي في صلاته؛ حيث مناجاته لربه سبحانه 3/ لَمَّا قَبِلَ فداءَ الأسرى في بدر وعاتبه الله -تعالى- بكى خوفا من العذاب 4/ بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- رقةً ورحمةً في موت بعض أولاده وأصحابه 5/ أعلى البكاء وأفضله ما كان خشوعا وخشية لله -تعالى-

اقتباس

الْبُكَاءُ لَا يَعِيبُ الرِّجَالَ إِذَا كَانَ عَنْ رَحْمَةِ وَشَفَقَةِ وَرِقَّةِ قَلْبٍ. وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ مَذْمُومَةٌ، وَمَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَالرَّحْمَةُ صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ، اتَّصَفَ بِهَا الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ، "وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ".

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مُسْدِي النِّعَمِ وَمُتَمِّمِهَا، وَبَاسِطِ الْخَيْرَاتِ وَمُتَابِعِهَا، وَدَافِعِ النِّقَمِ وَرَافِعِهَا؛ نَحْمَدُهُ بِأَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ فَدَبَّرَهُمْ، وَصَوَّرَ عِبَادَهُ فَأَحْسَنَ صُوَرَهُمْ، وَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ أَخْلَاقَهُمْ كَمَا قَسَّمَ أَرْزَاقَهُمْ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَدَّبَهُ رَبُّهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَأَثْنَى عَلَى أَخْلَاقِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فَلَا تَعْصُوهُ، وَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ، وَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدِ اصْطَفَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَهُمْ قُدْوَةً لِلْبَشَرِ أَجْمَعِينَ.

 

وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أُوتِيَ مِنَ الْخِلَالِ أَحْسَنَهَا، وَمِنَ الصِّفَاتِ أَعْلَاهَا، وَمِنَ الْآدَابِ أَرْفَعَهَا، مَعَ رِقَّةٍ فِي قَلْبِهِ، وَخَشْيَةٍ لِرَبِّهِ، وَرَأْفَةٍ بِأُمَّتِهِ، وَخُشُوعٍ فِي صَلَاتِهِ؛ مِمَّا يُثِيرُ أَشْجَانَهُ، وَيُهَيِّجُ مَشَاعِرَهُ، فَتَفِيضُ بِالدَّمْعِ عَيْنُهُ، وَقَدْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَحَفِظُوا مَوَاقِفَ مِنْ بُكَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَقَلُوهَا إِلَيْنَا؛ لِنَقْتَفِيَ أَثَرَهُ، وَنَتَأَسَّى بِهِ.

 

كَانَ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْكِي فِي صَلَاتِهِ؛ حَيْثُ مُنَاجَاتُهُ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِمَّا حُفِظَ مِنْ بُكَائِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشِّخِّيرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

وَمِنْ بُكَائِهِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ: يَا عَائِشَةُ، ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ..." (صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).

 

وَبَكَى -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ غَزْوَةِ بَدْرٍ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ).

 

وَلَمَّا قَبِلَ فِدَاءَ الْأَسْرَى فِي بَدْرٍ وَعَاتَبَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بَكَى خَوْفًا مِنَ الْعَذَابِ، قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ-..." (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَبَكَى فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ خَوْفًا عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ فِي السُّجُودِ نَحْوَ ذَلِكَ وَجَعَلَ يَبْكِي فِي سُجُودِهِ وَيَنْفُخُ وَيَقُولُ: رَبِّ لَمْ تَعِدْنِي هَذَا وَأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ، رَبِّ لَمْ تَعِدْنِي هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَخَوْفُهُ عَلَى أُمَّتِهِ جَعَلَهُ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ لَهُمْ، وَيَبْكِي لِأَجْلِهِمْ يَطْلُبُ نَجَاتَهُمْ، فَجَزَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إِبْرَاهِيمَ: 36]، الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الْمَائِدَةِ: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَيَبْكِي -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النِّسَاءِ: 41]، قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ". (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ".

 

وَيَبْكِي -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِقَّةً وَرَحْمَةً فِي مَوْتِ بَعْضِ أَوْلَادِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ؛ كَبُكَائِهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَجَاءَ فِيهِ: "... ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

 

وَبَكَى -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَوْتِ ابْنِ ابْنَتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ..." (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ ابْنَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فِي احْتِضَارِ وَلَدِهَا... "فَأَتَاهَا فَوُضِعَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا؟ قَالَ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ، وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

وَمِنْ بُكَائِهِ عَلَى مَوْتِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ...، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَى، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  بَكَوْا، فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَبَكَى -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شُهَدَاءَ مُؤْتَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَعَى جَعْفَرًا وَزَيْدًا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَبَكَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَنِينًا إِلَى أُمِّهِ وَشَوْقًا إِلَيْهَا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "زَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ..." (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

تَلْكُمُ كَانَتْ مَوَاقِفَ حُفِظَتْ مِنْ بُكَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَانَ يَبْكِي فِي صَلَاتِهِ وَعِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ خُشُوعًا وَخَشْيَةً، وَبَكَى رَحْمَةً بِأُمَّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، وَبَكَى عَلَى فَقْدِ أَحْبَابِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَصْحَابِهِ. فَصَلَوَاتُ رَبِّنَا وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 281].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: الْبُكَاءُ لَا يَعِيبُ الرِّجَالَ إِذَا كَانَ عَنْ رَحْمَةِ وَشَفَقَةِ وَرِقَّةِ قَلْبٍ. وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ مَذْمُومَةٌ، وَمَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَالرَّحْمَةُ صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ، اتَّصَفَ بِهَا الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ، "وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

وَأَعْلَى الْبُكَاءِ وَأَفْضَلُهُ مَا كَانَ خُشُوعًا وَخَشْيَةً لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ غَالِبُ بُكَاءِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مَرْيَمَ: 58].

 

وَأَثْنَى اللَّهُ -تَعَالَى- بِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [الْمَائِدَةِ: 83]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الْإِسْرَاءِ: 107-109].

 

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُكَاءً فَتَبَاكَوْا، لَوْ تَعْلَمُونَ الْعِلْمَ لَصَلَّى أَحَدُكُمْ حَتَّى يَنْكَسِرَ ظَهْرُهُ، وَلَبَكَى حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

 

وَمِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: "وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

المرفقات

الخلال النبوية (14) بكاء النبي صلى الله عليه وسلم - مشكولة

الخلال النبوية (14) بكاء النبي صلى الله عليه وسلم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات