اقتباس
والخطيب محتاج إلى تثبيت الناس على إيمانهم مع كثرة فتن السراء والضراء التي لا يكاد يسلم منها أحد في زمننا هذا، وفي ذكر قصص ثبات الأنبياء وأتباعهم تثبيت لقلوب المؤمنين.
والخطيب يريد هداية من يستمعون إليه، وتأسيهم بالصالحين من البشر، وفي ذكر قصص الأنبياء وأتباعهم حث على الاقتداء بهم
للقصة تأثير كبير في النفس البشرية، فقارئها ومستمعها يعيش بكليته مع أحداثها، وتؤثر في نفسه إيجابا أو سلبا حسب هدف كاتبها منها، والرسالة التي يريد إيصالها للقارئ أو المستمع عن طريقها؛ ولذلك كثرت القصص والروايات، وازدهرت سوق كُتَّابها، وتنوعت تنوعا كبيرا؛ فقصص للأطفال وأخرى لمن هم فوقهم، وقصص للمراهقين، وروايات للكبار، ومنها العاطفي ومنها البوليسي ومنها المرعب، بل منها قصص السحر والشعوذة والخرافة؛ ليسبح قارئها ومستمعها في خيالها، وينبت عن واقعه حال عيشه معها، ومع الانفتاح الإعلامي عُرفت كثير من الروايات الغربية، وأصبح الوصول إليها سهلا فور إصدارها، ومن تابع الضجة الإعلامية التي صاحبت صدور الأجزاء الأخيرة من رواية (هاري بوتر) التي كانت مبيعاتها بمئات الملايين من النسخ، وترجمت إلى ما يقارب سبعين لغة أدرك أثر الرواية والقصة في نفوس البشر، ولو كانت خرافية، بل لا يجعل لها مثل هذا الصيت إلا كونها خرافية.
ولا غرابة في أن نرى مثل هذه الروايات والقصص التي أكثرها تعارض ديننا وأخلاقنا وأعرافنا تتسلل إلى بيوتنا، وتفسد دين نسائنا وأولادنا وأخلاقهم، ومع تطور الصنعة الإعلامية؛ صورت القصص والروايات المكتوبة في أفلام ومسلسلات ورسوم متحركة وغيرها، ولا تسل عن الإقبال عليها.
وهذا يبرز لنا أهمية القصة وأثرها العظيم، ووجوب العناية بقصص القرآن والسنة، وتقديمها للناس، والخطبة من أهم المنابر التي يمكن أن تكون مجالا لعرض قصص القرآن والسنة؛ للاستفادة منها، والاهتداء بها.
الغرض من القصص في القرآن:
قارئ القرآن الكريم يلحظ كثرة القصص فيه، وتنوعها في موضوعاتها التي تعالجها، وفي شخصياتها التي تحكي أدوارها وأعمالها، وفي طولها وقصرها، وفي تكرار بعضها بأساليب مختلفة، ولهذه القصص أغراض عدة منها:
أولا: التذكرة والاعتبار؛ وذلك كقصص الظالمين ونهاياتهم، والمستكبرين ومآلاتهم؛ للتحذير من سلوك مسلكهم، ومنها قصص: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون والنمرود بن كنعان، وبلعام، وصاحب الجنتين.
وجاء في بعض هذه القصص النص على أن من أغراضها التفكر والاعتبار، كما في قصة بلعام الذي أنعم الله تعالى عليه بآياته فانسلخ منها، واتبع هواه؛ إذ ختمها الله سبحانه بقوله عز وجل: ( فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [الأعراف:176].
ولما قص سبحانه في الأعراف قصص آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ذيل ذلك بقوله عز من قائل: ( تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ ) [الأعراف:101]. وفي قصة حشر بني النضير –حصارهم- قال الله تعالى فيها: ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) [الحشر:2].
وفي الإشارة إلى غزوة بدر في أوائل آل عمران قال الله تعالى: ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) [آل عمران:13].
وختم الله تعالى قصة يوسف عليه السلام بقوله عز وجل: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [يوسف:111].
ويدخل في ذلك قصة إبليس اللعين مع أبينا آدم عليه السلام؛ لنحذر من إغوائه لنا، ونعتبر بما حصل لبينا عليه السلام لما أطاع إبليس، فلا نطيعه، بل نتخذه عدوا ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [فاطر:6].
ثانيا: التسلية والتثبيت، وهي قصص الابتلاء كابتلاء الأنبياء وأتباعهم بالمكذبين والظالمين، وابتلاء بني إسرائيل بفرعون وما جرى لهم على يديه من الذل والهوان، وابتلاء يوسف عليه السلام، وقد ذكر الله تعالى قصص جملة من رسله عليهم السلام في سورة هود ثم ختم ذلك بقوله عز وجل: ( وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) [هود:120].
وختم سبحانه وتعالى قصة نوح وما جرى له مع قومه بقوله عز وجل: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) [هود:49].
وقال عز وجل -في فاتحة قصة يوسف- عليه السلام: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ ) [يوسف:3] وختمها بقوله عز وجل: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف:102].
ثالثا: الاقتداء والتأسي كقصص الأنبياء والصالحين في ثباتهم على الحق، وصبرهم على الدعوة، وتحمل أذى المؤذين في ذات الله تبارك وتعالى، وهكذا التأسي بهم في توكلهم ويقينهم، وثقتهم بربهم عز وجل، وكذلك اتباع هديهم في عباداتهم ومعاملاتهم وزهدهم وأخلاقهم، وقد ذكر الله تعالى في الأنعام قصة إبراهيم عليه السلام ومباهلته لقومه، وأعقبها بالثناء على جملة من الأنبياء عليهم السلام، ثم ختمها عز وجل بالأمر بالتأسي بهم فقال سبحانه: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) [الأنعام:90] وقال سبحانه -في قصة أهل الكهف-: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) [الكهف:13].
رابعا: رفع الخلاف في مسائل كبيرة اختلف الناس فيها قبل إنزال القرآن، فجلَّاها الرب جل جلاله لعباده بما يزيل الخلاف، ومن ذلك قصة خلق عيسى عليه السلام، وولادته بلا أب، وطهارة أمه العذراء عليها السلام، ورفعه إلى الله تعالى حيا في الدنيا، ونزوله في آخر الزمان حاكما بشريعة أخيه نبينا محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقصة مريم وعيسى عليهما السلام مما وقع فيه خلاف كبير بين طائفتي بني إسرائيل: اليهود والنصارى، ولذلك ختم الله تعالى هذه القصة العظيمة في آل عمران بقوله سبحانه: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [آل عمران:60-62].
وقال سبحانه -في شأن قصة مريم عليها السلام-: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) [آل عمران:44].
فمن أكبر أغراض سياق قصة مريم وعيسى عليهما السلام: بيان الحق من الباطل فيما نسجه أهل الكتاب حولهما من القصص والأخبار، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: ( إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) [النمل:76].
ولو تأملنا في أحوال الناس وحاجاتهم لوجدنا أن الخطيب محتاج إلى كل هذه الأغراض الهادفة من قصص القرآن، وأن من شأنها إصلاح أحوال الناس والخطيب إنما يريد من الناس أن يعتبروا ويتعظوا، وفي ذكر مآل المكذبين، وعاقبة الظالمين أبلغ عظة وعبرة.
والخطيب محتاج إلى تثبيت الناس على إيمانهم مع كثرة فتن السراء والضراء التي لا يكاد يسلم منها أحد في زمننا هذا، وفي ذكر قصص ثبات الأنبياء وأتباعهم تثبيت لقلوب المؤمنين.
والخطيب يريد هداية من يستمعون إليه، وتأسيهم بالصالحين من البشر، وفي ذكر قصص الأنبياء وأتباعهم حث على الاقتداء بهم.
والخطيب لا يعرض في خطبته إلا ما يعتقد أنه صدق وحق، ويجب أن يربي الناس على تلمس الصدق واتباع الحق، وقصص القرآن قد جلَّت لنا الحقائق، وبينت الكذب والغبش في قصص السابقين.
تعامل الخطيب مع قصص القرآن:
المتأمل للقصص القرآني يجد أنها من حيث من تتناوله القصة على أقسام ثلاثة :
القسم الأول: قصص الأنبياء عليهم السلام، ومنها قصص تكررت في أكثر من موضع، وهي غالب قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، إضافة إلى قصة آدم عليه السلام مع إبليس، ومنها ما لم يتكرر بل جاء في موضع واحد من القرآن، سواء كانت القصة طويلة كقصة يوسف عليه السلام، أم كانت قصيرة كقصة إلياس عليه السلام.
القسم الثاني: قصص السابقين من غير الأنبياء عليهم السلام، مثل: أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، وذي القرنين، وأصحاب الجنة في سورة القلم، وقصة مريم عليها السلام في سورتي آل عمران ومريم.
القسم الثالث: قصص للنبي عليه الصلاة والسلام، مثل غزواته: بدر في الأنفال، وأحد في آل عمران، والخندق وقريظة في الأحزاب، وبني النضير في الحشر، والحديبية في الفتح، وتبوك في التوبة، وإيلائه من نسائه في التحريم، وقصة زواجه من زينب في الأحزاب.
أما من جهة طول هذه القصص وقصرها فهي على أقسام ثلاثة أيضا:
القسم الأول: قصص قصيرة وهي قليلة مثل: قصة إلياس عليه السلام في سورة الصافات، وقصة يونس عليه السلام في سور يونس والأنبياء والصافات، وقصة أيوب عليه السلام في سورتي الأنبياء وص، وقصة أصحاب الأخدود في البروج، وقصة الذي انسلخ من آيات الله تعالى في الأعراف، فهذه القصص وأمثالها يكفي الواحدة منها خطبة واحدة بدروسها وفوائدها، وإن قصرت عن ذلك فلا تخلو من حالين:
الأولى: أن يجد الخطيب لها في السنة والآثار ما يزيدها بحيث تصلح خطبة كاملة.
الثانية: أن لا يجد الخطيب في السنة والآثار شيئا، وحينئذ لا بد أن يضع الخطيب مدخلا مناسبا لخطبته يغطي النقص الذي عنده.
مثال ذلك: يصدر الخطيب خطبته بالحديث عن منزلة الأنبياء عند الله تعالى، وفضلهم على البشرية، وسيجد نصوصا كثيرة في ذلك، ثم يأتي على قصة النبي الذي اختاره.
فإنْ اختار أن يخطب عن قصة أيوب عليه السلام صدر خطبته بالحديث عن ابتلاء الله تعالى لأنبيائه وعباده الصالحين، أو عن فوائد الأمراض، ويجعل قصة أيوب عليه السلام وصبره مع شدة ما أصابه من البلاء مثالا لذلك.
وهكذا في قصة يونس عليه السلام يتكلم عن الابتلاء والصبر، أو الكرب ودعاء المكروب.
وما من قصة إلا سيجد الخطيب لها مدخلا يناسبها بحيث لا تقصر عن أن تكون خطبة كاملة.
القسم الثاني: قصص متوسطة، وهي الأكثر في القرآن، مثل قصص هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، فهي وإن تكررت في الأعراف وهود والشعراء، وغيرها فإنها ليست طويلة في كل المواضع التي تكررت فيها، بحيث لو جمع الخطيب ما يتعلق بها من تفصيلات في كل موضع من القرآن لناسب أن يجتمع منها خطبة واحدة، فإن طالت فخطبتان.
وقريب منها قصص أصحاب الكهف وصاحب الجنتين وذي القرنين وأصحاب الجنة في سورة القلم.
الخطيب وقصص القرآن الكريم (2-2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم