اقتباس
وقد يعمد بعض الخطباء إلى اختيار موضع واحد من القرآن وردت فيه القصة، فيسوقها كما وردت فيه، مع استخلاص العبر والدروس من ذلك الموضع، وهذا حسن، إلا أنه لا يتأتَّى في المواضع التي جاءتْ فيها القصة مطولة؛ مثل الأعراف وطه والشعراء والقصص، وإلا لأطال على الناس، كما أن فيه إهمالاً لتفصيلاتٍ كاشفة لأمور مهمة من القصة جاءت في مواضعَ أخرى، مع الحاجة إلى ذِكرها. والذي أراه مناسبًا ..
القسم الثالث: قصص طويلة جدًّا:
لا يمكن للخطيب أن يعرضها في خطبة واحدة، وإلا لأطال على الناس كثيرًا، وذلك مثل قصص آدم ونوح وإبراهيم ويوسف - عليهم السلام - وأطول منها قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون، فقد أبدى فيها القرآن وأعاد، وكرَّرها مطولة في الأعراف، وطه، والشعراء، والقصص، وغافر، وجاءت أقلَّ من ذلك في يونس والنمل، وجاءت مختصرة في هود، والإسراء، والذاريات، والنازعات.
والمتأمِّل في هذه القصة العظيمة، يلاحظ أن تكرارها لا يخلو من فوائدَ وتفصيلاتٍ يكمل بعضُها بعضًا:
ففي سور طه والقصص: تفصيل لولادة موسى - عليه السلام - ونشأته في بيت فرعون، وكيف كان ذلك.
وفي الأعراف ويونس وطه والشعراء: مناظرة موسى - عليه السلام - لفرعون، وقصة السحرة، وانتهاء أمرهم إلى الإيمان، وقيام حُجة موسى - عليه السلام - على فرعون.
وفي سورة غافر: قصة الرجل المؤمن الناصح، الذي آزر موسى - عليه السلام - ودعا فرعون إلى الإيمان، ومناظرته له في ذلك.
وهناك قصص أخرى لموسى - عليه السلام - مع بني إسرائيل، ومعالجته لعنادهم وعنَتِهم، وصبره - عليه السلام - عليهم، وقد جاء تفصيل ذلك مطولاً في البقرة والأعراف وطه، وأيضًا قصته - عليه السلام - مع الخضر - رحمه الله تعالى - في سورة الكهف.
فهذه القصص المكررة الطويلة لا يحسُن بالخطيب أن يُعْرض عنها كليةً لما فيها من الطول، ولا أن يَعْرضها بطولها فيثقل على الناس، وسيكون ذلك على حساب الدروس والفوائد المستخرجة منها؛ ذلك أن الغرض الأكبر من عرض هذه القصص على الناس استخلاصُ العِبَر والدروس؛ للعبرة والاقتداء.
وقد يعمد بعض الخطباء إلى اختيار موضع واحد من القرآن وردت فيه القصة، فيسوقها كما وردت فيه، مع استخلاص العبر والدروس من ذلك الموضع، وهذا حسن، إلا أنه لا يتأتَّى في المواضع التي جاءتْ فيها القصة مطولة؛ مثل الأعراف وطه والشعراء والقصص، وإلا لأطال على الناس، كما أن فيه إهمالاً لتفصيلاتٍ كاشفة لأمور مهمة من القصة جاءت في مواضعَ أخرى، مع الحاجة إلى ذِكرها.
والذي أراه مناسبًا في مثل هذه القصص الطويلة العظيمة أن يتبع الخطيبُ الخطواتِ التاليةَ:
أولاً: أن يجتهد الخطيب في جمْع كلِّ ما يتعلق بالقصة من آياتٍ، في كل المواضع التي وردت فيها، ولو كانت طويلة جدًّا.
ثانيًا: يضم إليها ما صحَّ من الأحاديث عن النبي - عليه الصلاة والسلام - مما له تعلُّقٌ بالقصة أو بعض أجزائها.
ثالثًا: يراجع كتب التفسير، وشروح الحديث، وكتب التاريخ، وقصص الأنبياء، فيجمع منها ما زاد على ما وجده في الآيات والأحاديث من كلام الصحابة أو التابعين، مما هو كاشف لبعض المواضع التي فيها غموض، أو فيه جمعٌ لما ظاهِرُه التعارضُ.
رابعًا: عليه أن يجتنب الإسرائيليات في ذلك؛ لأنها ستطيل بحثه بلا طائل، ولأن التفصيلات الموجودة فيها - وإن هفت النفوس إليها - لا دليل عليها، ولا يحلُّ للخطيب أن يفتن العامة بها، فكثيرٌ من الناس لا يفرِّقون بينها وبين ما جاء عن النبي - عليه الصلاة والسلام - وليس لهم دراية في التعامل مع أخبار بني إسرائيل، وبمجرَّد سماعهم لها من الخطيب سيحملونها على محمل التصديق والتسليم.
وهناك كُتُبٌ حذَّرت من بعض ما جاء في الإسرائيليات من تفصيلات، وبيَّنت ما فيها من معارضة للقرآن والسنة، وكتب أخرى عُنِيَتْ بما صح من تفصيلات هذه القصص، وردِّ ما لم يصحَّ منها، وهذه الكتب مما يعين الخطيبَ في بحثه، ويزيد من عِلمه بقصص القرآن، ويقوِّي مَلَكَةَ النقد لديه.
خامسًا: أرى أن يتأمَّل الخطيبُ في نصوص القصة، ويحاولَ استنباط الدروس والفوائد منها، ويقيِّد ذلك قبل أن يراجع كتب التفسير والشروح وقصص القرآن؛ وذلك لتنمية ملكة الاستنباط لديه، ولينظر ما وافَقَ هو فيه غيرَه، وقد يفتح الله - تعالى - عليه بفوائدَ لم يُسبَقْ إليها، بخلاف ما إذا بدأ يجمع فوائد القصة ودروسها من الكتب التي سبقتْه، فإنه يكون قد رهن عقله لها، فلا ينشط في التفكير والاستنباط.
سادسًا: يجمع الدروس والفوائد المستفادة من هذه القصص، ومظنتها كتب التفسير وشروح الأحاديث، إضافةً إلى كثير من الكتب التي عُنيت بقصص الأنبياء، أو بالقصص القرآني، وبعضها عام في كل القصص، وبعضها مخصوص في قصة بعينها، وغالبًا ما يركِّز أصحاب هذه الكتب - وبالأخص المعاصرة منها - على الدروس المستفادة من القصة.
سابعًا: أن يَحذَرَ من كتابة القصة أو بعض أجزائها على فَهْمه هو للآيات دون مراجعة كتب التفسير، ولو كتابًا واحدًا موثوقًا؛ فقد يقع في الخطأ وهو لا يعلم، فيأتي بمعنًى في القصة أو الآية ليس بصحيح، وقد يأتي بمعنى مرجوحٍ يرسخه في أذهان الناس ويهمل الراجح، وكونه يعلم المعنى الآخر في القصة أو الآية - سواء كان مرجوحًا أم مساويًا للمعنى الذي اختاره - مما يفيده في الإلمام بالمعاني، ويخلِّصه من حرج المناقشِين والمتعقِّبين عليه.
ومن الأمثلة التي وقعتْ لي في ذلك: قولُ الله - تعالى -: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة: 49]، وقد تكرر معنى هذه الآية في سورة الأعراف آية (141)، وفي سورة إبراهيم آية (6)، وكنت آخذ الآية على ظاهرها فيما بدا لي، فأجعل البلاء: الابتلاء بهذا التعذيب من تقتيل الأبناء، واستحياءِ البنات، ولا سيما أنه موصوف بأنه عظيم، حتى نبهني أحد الإخوة من طلبة العلم إلى أن الطبري يرى أن البلاء هنا بمعنى النعمة، وأنه يعود على الإنجاء من فرعون وظُلمه، فراجعتُ ما قال لي فوجدتُ هذا المعنى منقولاً عن ابن عباس ومجاهد وأبي العالية، وأبي مالك والسدي وغيرهم، ورجَّحه ابن جرير وقال: "أكثر ما يقال في الشرِّ: بلوتُه أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليه إبلاء وبلاء"، والقول الثاني في الآية أن المعنى البلاء بفرعون وتقتيله لبني إسرائيل، وحكاه القرطبي عن الجمهور[1].
ثامنًا: بعد اكتمال مادة الجمع عنده، سيجد أن القصة تحتاج إلى خُطَب كثيرة؛ ليغطي الموضوع بأكمله، فيقسم القصة إلى وحدات متنوعة، يجعل كلَّ واحدة منها موضوعًا لخطبة مستقلة، ويكون تقسيمه لها على وجهين:
الأول: أن يقسمها بحسب الزمان، وتسلسل الأحداث فيها: مثال ذلك: يقسم قصة موسى - عليه السلام - على الزمن الذي عاشه، ويسوق الأحداث بالنسبة لذلك الزمن، فيتحصل عنده مجموعة من الخطب على النحو التالي:
1- أحوال بني إسرائيل تحت حكم فرعون وجنده قبل ولادة موسى - عليه السلام - ويجمل فيها الكلام عن موسى - عليه السلام - وأنه كان نعمةً من الله - تعالى - على بني إسرائيل، وخلاصًا لهم.
2- قصة حمل أم موسى به وولادته، ونشأته في منزل فرعون.
3- بعث موسى - عليه السلام - وهجرته إلى مَدْيَنَ.
4- عودته إلى مصر مرة أخرى، وتكليم الربِّ - جل جلاله - له.
5- دعوته لفرعون، ومناظرته إياه في الربوبية والعبودية.
6- تكذيب فرعون، واستعانته بالسحرة، وإيمانهم بموسى - عليه السلام.
7- مطاردة فرعون وجنده لموسى ومن معه، وهلاك فرعون ونجاة موسى.
الثاني: أن يقسمها بحسب الموضوع، ولا يهمه سرد القصة وأحداثها وترتيبها:
مثال ذلك: أن يقسم قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون إلى موضوعات، لا يراعي فيها الزمن بقدر ما يراعى الأحداث والصفات المتعلقة بموضوعه، أشبه ما يكون بطريقة التفسير الموضوعي، وذلك كما يلي:
1- مظاهر طغيان فرعون من خلال قصته في كل السور التي وردت فيها.
2- حاجة الظلمة إلى أعوان، وصفات هؤلاء الأعوان، وذلك من خلال ما قصَّ الله - تعالى - عن الملأ من قوم فرعون، وخاصةً هامان، وأعماله التي ساند فيها فرعون.
3- وصف الأذى الذي لحق ببني إسرائيل قبل مبعث موسى - عليه السلام - وبعده.
4- ضعف بني إسرائيل وهوانهم، واستكانتهم لظلم الظالمين، ومظاهر ذلك من الآيات القرآنية.
5- اصطفاء موسى - عليه السلام - مخلِّصًا لبني إسرائيل، وتربيته في بيت عدوِّه.
6- فضائل موسى - عليه السلام - من خلال إيمانه بالله - تعالى - وثقته به، وتوكُّله عليه، وقوَّته في الحق، وصبره على الأذى فيه.
7- عاقبة المؤمنين النصر، ونهاية المستكبرين العذاب، وجعل قصة موسى وفرعون أنموذجًا لذلك، بوصف أعمال الفريقين، وبيان عاقبتهما.
فهذه موضوعات سبعة في كل قسم بدتْ لي ابتداء، وقد تزيد مع جمع مادة القصة من مصادرها.
إضافة إلى أن لموسى - عليه السلام - قصصًا أخرى مع بني إسرائيل بعد هلاك فرعون، يتحصل منها عدد من الخطب ليس بالقليل، سواء تناولها الخطيب بحسب زمنها، أو تناولها بحسب موضوعاتها، وهكذا قصة موسى والخضر - عليهما السلام.
ولستُ هنا أدعو الخطيب إلى أن يجعل هذه الخطبَ مسلسلةً، في كل جمعة يخطب بواحدة حتى ينهيَها؛ بل الذي أراه أن يجعل كلَّ خطبة مستقلةً عن الأخرى، ويخطب بها بين الحين والآخر حسب الحاجة، حتى ينتهي منها.
ولو رأى أن يسلسل قصة من القصص حتى ينهيها، فالأمر واسع، والخَطْبُ يسير، وهو محل اجتهاد بما يحقق المصلحة، وقد يناسب ذلك في بعض المساجد دون غيرها، لكني أرى أنه من غير المستحسن أن يبدأ في قصص القرآن فلا يخرج منها إلى غيرها حتى ينتهي منها كلها؛ لأن ذلك سيطول، وقد يستغرق سنوات، وسيكون على حساب موضوعات أخرى مهمة، وقد سبق أن بيَّنتُ مفاسد جمود الخطيب على فن من الفنون يخطب فيه ولا يتعدَّاه[2].
تاسعًا: سيجد الخطيب أثناء الجَمْع تعليقاتٍ على بعض مواضع القصة مؤثِّرة جدًّا عن الصحابة، أو التابعين، أو الأئمة بعدهم، فعليه أن يعتنيَ بها، ويؤكِّدَ عليها، ويضعَها في مواضعها اللائقة بها، فإن ناسَبَ أن يذكُرَها في موضعها من القصة فذاك، وإن رأى أنَّ إيرادها في سياق القصة سيقطعها، ويشوش على المستمعين، ولا ينتفعون بها، فليجعلها في الدروس ولا يهملها، ومما يحضرني في ذلك:
1- في قول الله - تعالى -: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) [مريم: 53]، وقوله - سبحانه - عن موسى أنه قال: (هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه: 30 - 32]، وقوله – تعالى -: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص: 35]، قال بعض السلف: "ليس أحدٌ أعظمَ مِنَّةً على أخيه من موسى على هارون - عليهما السلام - فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيًّا ورسولاً معه إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال - تعالى - في حق موسى: (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب: 69]"[3].
2- في قصة بناء الخليل - عليه السلام - للبيت، عن وهيب بن الورد - رحمه الله تعالى -: "أنه قرأ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [البقرة: 127]، فجعل يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن، وأنت مشفق ألاَّ يقبل منك؟!"[4].
3- في قصة موسى - عليه السلام - وقول الله - تعالى -: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44]، قال يزيد الرقاشي - رحمه الله تعالى -: "يا مَن يتحبَّب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟![5]، وقُرئت عند يحيى بن معاذ فبكى، وقال:"إلهي، هذا رفقُك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الله؟!"[6].
4- في دعاء الخليل - عليه السلام - حين قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35]، قال إبراهيم التيمي - رحمه الله تعالى -: "مَن يأمنُ البلاء بعد الخليل حين يقول: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام كما عبدها أبي وقومي؟!"[7].
إيرادات والجواب عنها:
الإيراد الأول: أن هذه الطريقة المقترحة لتعامُل الخطيب مع القصص القرآني تحتاج إلى وقت طويل، والخطبة متكررة كلَّ جمعة، فأنَّى للخطيب أن يجد الوقت لمثل هذا العمل الكبير، ولديه أعمال أخرى؟!
وجواب ذلك كما يلي:
1- أن مثل هذا البحث، وإن أخذ جزءًا ثمينًا من وقته، فإنه يريحه أيضًا جُمُعاتٍ كثيرةً يكون عنده لها رصيد من الموضوعات، قد أعدَّه وجمع مادته، ولم يبقَ إلا الصياغةُ، وذلك يوفِّر عليه وقتًا طويلاً فيما لو أراد إعداد خطبة لكل جمعة.
ولو أن الخطيب فعل مثل ذلك في كل الموضوعات الطويلة، سواء كانت في القصص، أو العقائد، أو العبادات، أو الأخلاق، أو السيرة، أو القضايا المعاصرة، أو غيرها، لتحصَّل له كمٌّ كبير من الموضوعات الجاهزة، التي لا تحتاج منه إلا إلى صياغة فقط، وهذا يريحه كثيرًا في اختيار موضوع خطبته وفي كتابتها، فلا تستنزف منه وقتًا طويلاً.
2- قد يضيق الوقت على الخطيب في بعض الجُمَع؛ لظرف طارئ لم يحسب حسابه، فلا يتمكَّن من جَمْع مادة خُطبته، فتكون هذه المواد المجموعة سابقًا مُعِينة له على الالتزام بكتابة خطبة جديدة وجيدة، برغم ما عرض له من مشاغلَ وعوائقَ، بخلاف ما لو لم يكن عنده مادة محضرة، فسيضطر للإعادة، ولو كتب خطبة جديدة دون تحضير وجمْع، فستكون خطبة ضعيفة.
الإيراد الثاني: قد ينازِع بعض الناس فيقول: إن الخطبة مجردُ موعظة وتذكير بما يفتح الله - تعالى - على الخطيب، وقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يخطب بما يحتاج الناسُ إليه.
وجواب ذلك من وجهين:
1- أن مِن أبلغ المواعظ والتذكيرِ الموعظةَ بقصص القرآن، وتَكرارها في القرآن، وطولها في بعض السور يدلُّ على أهميتها في الوعظ والتذكير، وأن لها أثرًا كبيرًا في نفس قارئها وسامعها، ومن لم يتَّعظْ بالقرآن وآياته وقصصه، فلا واعظَ له.
2- أن الخطبة بقصص القرآن مما يحتاج الناس إليه؛ لما فيها من الفوائد الكثيرة، ولتشوف نفوس السامعين إلى القصص، ومحبَّتِهم لها، وتأثُّرِ قلوبهم بها.
الإيراد الثالث: قد يرى بعض الناس أن الخطبة ليستْ بحثًا، فلا تحتاج إلى كل هذا الجمْع، ويكفي الخطيبَ أن يعرض لظاهر القصة، ويختار منها ما يراه مناسبًا، ولا يحتاج إلى صنع أكثر من خطبة في القصة الواحدة.
وجواب ذلك من أوجه:
1- أن الاقتصار في الموضوعات الطويلة - ومنها بعض قصص القرآن - على خطبة واحدة، سيلجئه إلى إطالتها بما يشقُّ على المصلِّين، أو سيهمل ما هو مهم فيها، وهذا قصور.
2- أن مَن فَعَلَ ذلك سيكتفي بالعمومات، والاقتصار على العمومات أقلُّ فائدةً وتأثيرًا على المصلِّين من الغوص في أعماق الموضوع، واستخراجِ النُّكت والفوائد والدروس منه، والعموماتُ يفهمها أكثر المصلين، وربما كان إدراكُهم لبعض التفصيلات أكثرَ من إدراك الخطيب.
3- أن الخطيب هو أول المستفيدين من بحوثه التي يجمعها للخطبة؛ فذلك مما يزيد في معلوماته، ويرسخ الموضوعات التي بحَثَها في ذهنه بدقائقها، ونكتها، ومسائلها، والذي أراه أن البحث هو أقوى وسيلةٍ لتحصيل العلم وترسيخه، وتقوية مَلَكة النظر والنقد، والترجيح والاجتهاد، فعلامَ يَحرِم الخطيبُ نفسَه هذه الثمراتِ العظيمةَ، ببعض جهدٍ يبذله في شعيرةٍ هي من أعظم الشعائر، فينفع نفسه وينفع إخوانه المسلمين؟!
4- أن أي خطبة لم تُكتَب إلا بعد جمْعٍ وبحث ونظر، ستحوي فوائدَ ونكتًا لا توجد في غيرها، وهذا مما يخلِّدها، ويجعل الناس يتناقلونها على أوسع نطاق، وربما وقعتْ في أيدي خطباء فخطبوا بها؛ لفائدتها ونفاستها، وقد يستفيد من بعض ما فيها عالمٌ كبير، أو طالبُ علم مبرز، أو داعية مشهور، أو كاتب مرموق، والفضل في ذلك - بعد الله تعالى - يعود لمن كتَبَها.
وواجب على الخطيب ألاَّ يحتقرَ عقولَ المصلين معه، ولو كانوا من العوام؛ فإن أغلبهم يميِّزون جيدَ الكلام من رديئه، ويدركون أكثرَ ما يُخاطَبون به، كيف وما من جامعٍ إلا وفيه متعلِّمون ودارسون، حتى جوامع القرى والهجر، بما منَّ الله - تعالى - على الناس من نهضة التعليم والدراسة في هذا العصر؟!
ويبدو لي أن من أهم أسباب ضعف الخطبة في هذا العصر، وقلةِ تأثيرها في نفوس المستمعين: عدمَ التحضير الجيد لها، والاكتفاء بعمومات الموضوع الذي يختاره الخطيب، حتى بلغ الأمر ببعض الخطباء أنك تستمع إلى خطبته، فلا تجد موضوعًا واحدًا لها، وإنما يتشعَّب في أودية كثيرة، ويتكلم عن موضوعات عدة في آن واحد؛ بل ربما جاوز الموضوع، ثم عاد إليه مرة أخرى في نفس خطبته، ولست أدري كيف كتبها؟!
ــــــــــ
[1] انظر: :تفسير الطبري"، 1/274، 275، و"تفسير القرطبي"، 1/387، و"تفسير ابن كثير"، 1/91، 92.
[2] انظر: "البيان"، عدد (209)، ص: 28.
[3] "تفسير ابن كثير" 3/390.
[4] "تفسير ابن أبي حاتم" 1/233.
[5] "تفسير ابن كثير" 3/154.
[6] "تفسير الألوسي" 16/195.
[7] "تفسير القرطبي" 9/368.
الخطيب وقصص القرآن الكريم (1-2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم