عناصر الخطبة
1/ بيانُ الشيخ عبد العزيز للموصَل والمفصَّل في الكتاب 2/ هزيمة بشر المريسي وانقطاعه من كل وجه 3/ هروبه من نص التنزيل إلى النظر والقياس 4/ انهزامه أيضاً بالمناظرة بالنظر والقياساقتباس
هذه هي الحلقة السادسة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبد العزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشرٍ المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، القديمِ الأولِ، فليس له ابتداء، الآخرِ الباقي، فليس له انتهاء، الواحد الأحد، الفرد الصمد، فلا وزراءَ ولا أُمراءَ، ولا أبناءَ ولا شركاءَ، الظاهر القاهر، فليس فوقهُ شيءٌ، الباطن القادر، فليس دونهُ شيءٌ. سبحانه وبحمده، (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد:3].
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له كلمَةٌ قامت بها الأرضُ والسموات، وفطرَ اللهُ عليها جميعَ المخلوقات، فلو تكلمتِ الأحجارُ، ونطقتِ الأشجارُ، وخطبتِ الأطيارُ، لقالت: لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الجبارُ، جلّ جلالهُ، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر:5].
وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ وسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ، نبيٌّ شرحَ اللهُ لهُ صدرهُ، ورفعَ لهُ ذكرهُ، ووضعَ عنهُ وزرهُ، وأعلى في العالمين قدرهُ، وجعلَ الذِلةَ والصغارَ على من خالفَ أمرهُ، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آله وأصحابهِ البررةِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ حقَّ تُقاتهِ، واسعوا في مرضاتهِ، وأيقنوا من الدنيا بالفناء، ومن الآخرةِ بالبقاء، واعملوا لما بعدَ الموتِ؛ فكأنكم بالدنيا كأن لم تكن، وكأنكم بالآخرة كأن لم تزل، فرحمَ اللهُ امرأً نظرَ لنفسهِ، ومهدَ لرمسهِ، وأخذَ لغدهِ من أمسهِ، قبلَ أن ينفدَ أجلُهُ، وينقطِعَ عملُهُ، ويخيبَ أملُهُ، جاء في الحديث: "فليأخذ العبدُ من نفسهِ لنفسهِ، ومن دنياهُ لآخرتهِ، ومن الشبيبة قبلَ الهرمِ، ومن الحياةِ قبلَ الموتِ، والذي نفسُ محمدٍ بيده! ما بعدَ الموتِ من مستعتب، ولا بعدَ الدنيا من دارٍ، إلا الجنَّة أو النَار". (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
وبعد: أحبتي في الله، فهذه هي الحلقة السادسة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبد العزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشرٍ المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة كيف أثبت الشيخ عبد العزيز أن قول الله -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [الزخرف:3]، أي: إنا صيرناه قرآناً عربياً، وليس إنا خلقناه قرآنا عربياً، كما زعم بِشرٌ. وتوقفنا عند قول بشرٍ: يا أمير المؤمنين، إن عبد العزيز قد وصف القرآن بأسوأ صفةٍ، حين سماهُ مُوصَلَاً ومفصَّلاً، ومعلومٌ أن الموصَلَ أقل شأناً من التام الصحيحِ الكامل، والموصَلُ هو الملفقُ الذي قد وصِّلَ بعضهُ ببعضٍ. إلى آخر ما قاله بشرٌ.
قال الشيخ عبد العزيز: وهذا -أيضا- من جهلك بكتاب الله -عز وجل- يا بشر، حيثُ تزعم إني وصفتُ كتابَ الله بأسوأ صفةٍ، وما قلت إلا ما قاله الله -عز وجل- عن كتابه، وما وصف به كلامه، بينما أنت من انتقص كلام الله وكتابهُ، حين زعمت أنه مخلوقٌ، وشبهته بكلام المخلوقين، تعالى اللهُ عما يقولُ الظالمون علواً كبيراً. فقال بشرٌ: وأين سماهُ اللهُ موصلاً ومفصلاً؟ قال الشيخ: في قول الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص:51]، فهكذا سمى اللهُ -عز وجل- كلامهُ موصولاً، بنص التنزيلِ، لا بتأويلٍ ولا بتفسيرٍ.
وفي المقابل، ذم اللهُ -عز وجل- الذين قطعوا ما أمرَ اللهُ بصلتهِ ولعنهم وجعلهم من الخاسرين، فقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد:25]، فهذا ذمُّ اللهِ ووعيدُه لمن قطعَ ما وصلهُ اللهُ، وأمرَ بصلتهِ.
ثم مدح الله كتابه الكريم بأنه مفصل، فقال -عز وجل-: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1]، وقال -تعالى-: (حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت:1-2].
فهذا قولُ اللهِ -عز وجل- عن الوصل والفصل، وهذه تسميته لكتابه ولكلامه بلا تأويلٍ ولا تفسير.
ثم قال الشيخ: يا أمير المؤمنين: إنما يقصدُ بشرٌ أن يذمَّ كلامَ العربَ ولغتَهم وينتقصَهم؛ لأنه ليسَ من العرب، وإلا فمعلومٌ أن العربَ تسمي كلام الله -تعالى- موصلاً ومفصلاً، وكذلك تسمي كلامها مفصّلاً وموصلاً، وتراها أوصافاً حسنةً جميلةً.
قال بشرٌ: وهل هو واجبٌ على الخلقِ أن يتعلموا لغة العرب؟ وهل تعبد الله أولاد العجمِ بإتقان لغة العرب؟ إنما يُكلَّفُ الإنسانُ بحسب لغته وبقدر معرفته.
قال الشيخ: وهل كلَّفك الله -يا بشرُ- أن تتكلم في كتاب الله بما لا تعلم؟ أوما ادعيت -يا بشر- العلمَ؟ وتكلمت في القرآن العظيم برأيك، وادعيت أنه مخلوق، وتأولت كتاب الله وكلامه على غير ما أراده الله، وليتك توقفت عند هذا، بل إنك قد دعوت الخلق إلى اتباعك، وكفَّرت من خالفك وأبحت دمه.
قال بشرٌ: اخطب يا عبد العزيز كما تشاء، فلن أدعك حتى تجيب سؤالي. قال الشيخ: أيّ سؤالٍ تعني؟ قال بشرٌ: هل تَعَبدَ اللهُ الخلقَ بمعرفة هذا الموصلِ والمفصَّلِ؟ وهل يضرُ الخلقَ أن لا يعرفوا ذلك وأن لا يتعلموه؟ قال الشيخُ عبد العزيز: نعم، لقد تعبدَ الله الخلق أن يعرفوا ذلك ويتعلموهُ، لئلا يصلوا ما فصَل الله، أو يفصِلوا ما وصلَ اللهُ -عز وجل-. قال بشر: فما دليلك؟ قال عبد العزيز: فأخبرني يا بشرُ عمن زادَ أو نقصَ أو غيَّرَ في كتاب الله، ما حُكمهُ عندك؟ قال بشرٌ: من فعلَ شيئاً من ذلك فقد كفرَ. قال الشيخ: وأنا أقول مثل ذلك، فحين يقولُ الله -تبارك وتعالى-: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]، فاللهُ -تعالى- قد أخبرَ أنه لا إله إلا هو، وشهِدَ بذلك لنفسه، وشهِدت له الملائكةُ بمثل ذلك، وكذلك شهِدَ له أولو العلمِ، فلو أن رجلاً قرأ هذه الآية هكذا: "شهِدَ اللهُ أنه لا إله"، وقطعَ الكلامَ ولم يصِلهُ بما بعدهُ عمداً، فإنه يكفرُ بذلك، لأنه قلبَ شهادةَ اللهِ والملائكةِ وأولي العلمِ، وجعلها دليلاً على بُطلَان الربوبية، أما إذا وصلَ الكلام بما بعده، كما وصله اللهُ -عز وجل- فقال: (شهِدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولو العلم)، كان بذلكَ صادقاً، وكان قد قالَ ما يوافقُ مرادَ اللهِ -عز وجل-، وما شهِدَ اللهُ به لنفسهِ، وشهِدت له به الملائكةُ وأولو العلم.
ومثلُ ذلك في قولهِ -تعالى- في سورة الأحزاب: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) [الأحزاب:53]، فلو قرأها رجلٌ: هكذا: "والله لا يستحيي" وقطع الصِلةَ عامداً؛ لكان بذلك كافراً حلال الدمِ، إلا أن يصلَ ما وصلَه اللهُ -تعالى- ولا يقطعهُ، فيقول: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ). ومثلُ هذا في القرآن كثيرٌ جداً.
وأمَّا العكسُ من ذلك، وهو المفصَّلُ الذي لا يجوزُ وصلُهُ، فكقولِ اللهِ -عز وجل-: (لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ)، فهاهنا تمَّ الكلامُ، ثم يبتدئُ القارئُ فيقول: (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النحل:60]. فلو قرأها رجلٌ متصلة هكذا: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثلُ السَوءِ وللهِ). ثم قطعَ الكلامَ عامداً؛ لكان بذلك كافراً حلالَ الدمِ؛ لأنهُ زعمَ أن للهِ مثل السوءِ أيضاً.
ومثلهُ قول الله -عز وجل-: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى) [التوبة:40]، فهاهنا تمَّ الكلامُ، ثم يبتدئ القارئ فيقرأ: (وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، فلو قرأها رجلٌ هكذا: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ)، ثم قطع عامداً؛ لكان بذلك كافراً حلال الدمِ، لأنه زعم أن كلمة اللهِ -أيضا- سُفلى.
فقال المأمون: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز. يكفي هذا. ثم أقبل الخليفة على بشرٍ فقال: يا بشرُ، هل عندك شيءٌ تحتجُ به، أو تسألُ عبد العزيزَ عنه؟ فقد ظهرت حُجتهُ عليك، ورجحَ قولهُ عندنا.
قال بشرٌ: يا أمير المؤمنين، إنه يُريدُ نصَ التنزيلِ بكلِّ شيء يتكلمُ به، ولا يقبلُ التأويلَ ولا التفسيرَ، لأنه يحفظ القرآنَ كمن يشاهدُ المصحفَ، وهذا ما لا أُحسنهُ أنا، ولو كان الأمرُ كما يقولُ لبطُلَ التفسيرُ، ولتحيَّرَ الناس في كلام اللهِ -عز وجل-.
قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، يقول الله -تعالى-: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام:38]، ويقول -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل:89]، فليس شيءٌ يحتاجُ الناسُ لمعرفته إلا وهو موجودٌ في القرآن، عقِلهُ من عقِلَهُ وجهِلَهُ من جَهِلَهُ.
وهنا قامَ أحدُ كبارِ أصحابِ بشرٍ، يلقبُ بابن الجَهَم، قام على ركبتيه وقال: يا عبد العزيز، تزعمُ أن كلَّ شيءٍ يحتاجُ الناسُ لمعرفته موجودٌ في كتاب اللهِ بنصِ التنزيل بلا تأويلٍ ولا تفسير؟ قال الشيخ: نعم. قال ابن الجهمِ: فأوجد لنا بنص التنزيل أن هذا الحصيرَ مخلوقٌ أو غيرُ مخلوقٍ، وضربَ بيده على الحصيرٍ الذي كان يجلسُ عليه. قال الشيخ: نعم، عليَّ أن أوجدَ لك ذلك بإذن الله. وهذا ما سنعرفهُ في الخطبة الثانية إن شاء الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره.
قال الشيخ عبد العزيز: أخبرني يا بن الجهم عن هذا الحصير، أليس هو من سعَف النخلِ وجلودِ الأنعامِ؟ قال ابن الجهم: نعم. قال الشيخ: فهل فيه شيءٌ غيرُ هذا؟ قال ابن الجهم: لا. قال الشيخ: بلى، فبمَ صارَ حصيراً يُجلس عليه، أليس بالإنسانِ الذي صنعه؟ قال ابن الجهم: بلى، قال الشيخ: قال الله -عز وجل- عن خلق الأنعام: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) [النحل:5]، وقال -تعالى- عن خلق السعفِ: (أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ) [الواقعة:72]، وقال عن خلق الإنسان: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ) [المؤمنون:12]، فها قد كمل خلقُ الحصيرِ بنص القرآن، بلا تأويلٍ ولا تفسيرٍ، فهل عندك في خلق القرآن مثل هذا لتحتج به وتدعو الناس لبدعتك؟ وإلا فقد بطلَ زعمُكم أن القرآن مخلوق، وثبت لكم أن كلام الله -تعالى- منزلٌ غير مخلوق.
فصاح المأمون: يا بن الجهم: مالك وللكلام؟ خلِ بين الرجل وصاحبهِ.
قال الشيخ عبد العزيز: وكان خلف ظهري رجلٌ كلما أردتُ أن أتكلم قرَّبَ رأسهُ من أذني فيظل يهذي خلفي ليشوش عقلي ويقطعني عن حجتي، فشكوته لأميرِ المؤمنين، فصاح به وباعدهُ عني، فلما قلتُ لبشرٍ: ما من شيءٍ يحتاجُ الناسُ لمعرفته وعِلمِه إلا وقد ذكره الله -عز وجل- في كتابه، عقله من عقله، وجهله من جهله، فإذا به يضربُ يدهُ على فخذه ويقول: يا سبحان الله! ما أعظمَ هذه الفرية!.
قال الشيخ عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن هذا ينكرُ أن يكونَ اللهُ -عز وجل- يعلمُ ما يكونُ قبل أن يكون! فقال المأمون: وما تقول أنت في هذا؟ قال الشيخ: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين رددتُ عليه بآيةٍ واحدةٍ فقط. فقال المأمون: قل ما تريد.
قال الشيخ عبد العزيز: فقلت له: أتنكر أن الله يعلمُ ما يكونُ قبل أن يكونَ؟ قال: نعم، أنا أنكر هذا. قال الشيخ: فوالله يا أمير المؤمنين، لقد علم الله ما لم يكن أن لو كان كيف كان سيكون. فصاح الرجل: ما أجرأك على الكذب! الحمدُ لله الذي أخذك بلسانك.
فقال المأمون: أعد هذا الكلام يا عبد العزيز. قال الشيخ: نعم، والله لقد علم الله ما لم يحدث أن لو كان حدث كيف كان سيحدث.
فقال المأمون: ومن أين هذا يا عبد العزيز؟ قال الشيخ: من كتاب الله -عز وجل-. قال المأمون: فهاته. قال الشيخ: قال الله -عز وجل-: (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:28]، فطلبُ الكفارِ للرجوع للدنيا، مما لا يمكن أن يحدثَ، لا لهم ولا لغيرهم، فأخبر اللهُ -عز وجل- بعلمه السابقِ فيهم أنهم لو رُدوا للدنيا فلن يؤمنوا ولن يصدقوا، وهذا مما لا يمكن أن يحدث، لو أنه حدث، فكيف كان سيحدثُ ويكون. فقال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، وما قلتَ في يومك هذا أحسنَ ولا أدقَ من هذا.
قال الشيخ: فقد أكذبتُ -بحمد الله- أهل هذه المقالة، وكسرت قولهم، ودحضت حُجتهم، وأبطلت مذهبهم بنص التنزيل، بلا تأويل ولا تفسير. الله أكبر، الله أكبر! جاء الحقُّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
ثم أقبل الخليفة على بشرٍ فقال: يا بشرُ، هل عندك شيءٌ تناظرُ به عبد العزيز قبل أن نقوم؟ فقد فات وقت الصلاةِ.
قال بشرٌ: يا أميرَ المؤمنين، عندي أشياءُ كثيرةٌ، إلا أنه يقولُ بنص التنزيل، وأنا أقول بالنظر والمنطق والقياس، فليدع مطالبتي بنص التنزيل، وليناظرني بالنظر والقياس والمنطق، فإن لم يدع قوله ويرجِعُ عنه، ويقول بقولي، ويقرُّ بخلق القرآن الساعة، فدمي له حلال.
قال الشيخ عبد العزيز: فأنا أقبلُ يا أمير المؤمنين ما يقول، وسأدعُ مطالبتَهُ بنص التنزيلِ، وأناظرهُ كما طلب بالقياس والمنطق.
هذا ما تيسر ذكره اليوم، نتوقف هنا ونكمل بإذن الله في الخطبة القادمة، ولعلها أن تكون الحلقة الأخيرة إن شاء الله -تعالى-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم