عناصر الخطبة
1/حقيقة القبر 2/ثبوت عذاب القبر وأدلته 3/أسباب عذاب القبر 4/المنجيات من عذاب القبراقتباس
القبر أول منازل الآخرة، فيه يتبين للعبد مصيره، ويَجد حصاد أعماله، لا يرى فيه صاحبه سوى الظُّلْمة، ولا يجد فيه غير الوحشة، فلا الوصف يمكنه الإيفاء به، ولا الحروف تستطيع الوقوف على حقيقته...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: يعيش المرء في هذه الدار زمناً قصيراً ثم يغادرها، وينتقل إلى دار أخرى تختلف عن تلك الدار التي أَلِفَها، وحياة غير الحياة التي اعتاد عليها، ينتقل من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ في القبر، ولا ينفعه فيه سوى ما أسلف من عمل، فلا المال يبقى معه، ولا الأهل يملكون له نفعًا، فيكون في تلك الحفرة عاجزًا لا يملك شيئًا، يلتفت حوله وفوقه وأسفل منه فلا يرى سوى التراب، إنه القبر مأوى كل من كُتب عليه الفناء من بني البشر.
عباد الله: والقبر أول منازل الآخرة، فيه يتبين للعبد مصيره، ويَجد حصاد أعماله، لا يرى فيه صاحبه سوى الظُّلْمة، ولا يجد فيه غير الوحشة، فلا الوصف يمكنه الإيفاء به، ولا الحروف تستطيع الوقوف على حقيقته، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ"(رواه الترمذي)، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه.
أتيتُ القبورَ فناديتُها *** أين المعظَّمُ والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر *** وماتُوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناسٍ مضوا *** أما لك في ما مضى معتبر
تروحُ وتغدو بناتُ الثرى *** فتمحو محاسنَ تلك الصور
قال مُحَمَّد بْن كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: "لَقِيتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْمَدِينَةِ فِي شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَغَضَارَتِهِ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ قَدِمْتُ عَلَيْهِ فَاسْتَأْذَنْتُ فَأَذِنَ لِي، فَجَعَلْتُ أُحِدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي: يَا بنَ كَعْبٍ! مَا لِي أَرَاكَ تُحِدُّ النَّظَرَ؟ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لِمَا أَرَى مِنْ تَغَيُّرِ لَوْنِكَ، وَنُحُولِ جِسْمِكَ، وَنَفَارِ شَعْرِكَ، فَقَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَيْتَنِي بَعْدَ ثَلَاثٍ فِي قَبْرِي وَقَدِ انْتَزَعَ النَّمْلُ مُقْلَتِي وَسَالَتَا عَلَى خَدِّي، وَابْتَدَرَ مِنْخَرَايَ وَفَمِي صَدِيدًا لَكُنْتَ لِي أَشَدَّ إِنْكَارًا، دَعْ ذَاكَ وأَعِدْ عَلَيَّ حَدِيثَ رسول الله"(رواه الحاكم).
فانظر لساكني القبور من أصحاب المال والسلطان ما أغنى عنهم مالهم وسلطانهم؟! وتمعن في أرباب القصور الشامخة، والمراكب الفارهة، والفرش الوثيرة كيف تركوا كل ذلك النعيم واستبدلوه بالتراب يحيط بهم من بين أيدهم ومن خلفهم! لقد طافت على محاسنهم الدود فأبلت جديدهم، ولعبت بمحاسنهم، فغابت ملامح الجمال، واختفت علامات الحسن والنعيم.
أيها المسلمون: وفي القبر إما النعيم المقيم، وإما العذاب الأليم؛ فمن بناه في الدنيا بصالح الأعمال طاب له فيه المقام، ومن أهمله وتناساه ذاق فيه أشد العذاب، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت:46].
وقد تظافرت الأدلة من القرآن والسنة في الدلالة على ثبوت عذاب القبر، وتنوعت في أساليب تقريره، فمن ذلك قوله تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:45-46]؛ ففي هذه الآية دليل على إثبات عذاب القبر كما قاله جمع من المفسرين؛ بدليل قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، والمعنى: أن عرضهم على النار حاصل قبل يوم القيامة، أي: في القبر، وهذه الآية أصل في الاستدلال على ثبوت عذاب القبر كما قال ابن كثير –رحمه الله-.
وقال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[السجدة:21]، والمقصود بالعذاب الأدنى: عذاب القبر كما قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وغيرهم.
وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام: 93]، والمراد أنهم يُجزون عذاب الهون في البرزخ الذي يبدأ من حين الموت.
وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]، روي عن النبيّ –عليه الصلاة والسلام- في قوله: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا): "عذابُ القبرِ". (رواه ابن حبان والحاكم)، وقال ابن مسعود: "المعيشة الضنكُ: عذابُ القبرِ". (رواه البيهقي، والطبراني).
وقال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[إبراهيم:27]، قال البراء بن عازب: "نزلت في عذاب القبر"(متفق عليه).
أما السنة فهي مليئة -أيضًا- بتقرير ما يُثبت عذاب القبر، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ المَدِينَةِ، فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ القُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عَجُوزَيْنِ، وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"(متفق عليه).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ -لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ"(متفق عليه).
وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا"(رواه البخاري)، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"(متفق عليه)، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ..." الحديث (متفق عليه)، وقد أمرنا رسول الله أن نستعيذ من عذاب القبر فقال: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القبرِ"(رواه مسلم)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"(رواه مسلم).
فهذه بعض الأدلة من الصحيحين اكتفيت بها في تقرير عذاب القبر، والأدلة كثيرة جدًا، ويتجلى في هذه الأدلة الصحيحة أن عذاب القبر ثابت لا ينكره إلا جاحد، ولا يرد أدلته إلا معاند.
أيها المسلمون: وإن اليقين بعذاب القبر وثبوته ليدعو كل مؤمن إلى الحذر من الأسباب التي توجبه على صاحبها؛ فمن تلك الأسباب:
المشي بين الناس بالنميمة، وعدم الاستبراء من البول، ودليلهما ما رواه ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على قبرين وهما يعذبان فقال: "أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ".
ومنها: ارتكاب بعض المعاصي والمنكرات كالربا، والزنا، والكذب الذي يبلغ الآفاق، والنوم عن الصلاة المكتوبة، فقد ورد عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه رأى في منامه أقوامًا يعذبون فسأل جبريل عنهم فقال: "أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا"(رواه البخاري).
ومنها: الغيبة وأكل لحوم الناس، فقد روي عن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ، فَوَضَعَهَا عَلَى قَبْرِهِ، وَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطِبَةً"(رواه الطبراني).
ومنها: الوقوع في أعراض الناس؛ فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه لما عرج به مر على قوم لهم أظافر من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: "يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
ومنها: الغلول، وهو ما أخفي من الغنيمة عن القسمة، فقد أصيب رجل يوم فتح خيبر فقال الناس: هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا"(رواه البخاري).
وبالجملة فإن عذاب القبر مقدّمةٌ للعذاب الأخروي، وما يُقدّره الله من العقوبة إنما هو أثر من آثار غضب الله وسخطه على عبده فعذاب البرزخ يكون بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذّب.
فينبغي الحذر من أسباب عذاب القبر، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وإعمار ذلك البيت بالقربات، والاستعداد لما فيه من الأهوال العظيمة، فنحن راحلون إليه لا محالة.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسّلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: فكما أن الشرع الحنيف بيَّن الأسباب الموجبة لعذاب القبر أرشدنا كذلك إلى المنجيات منه، وتكمن هذه المنجيات في اجتناب الأسباب الموجبة لعذاب القبر، ومحاسبة النفس كل يوم، وتجديد التوبة النصوح بين العبد وربه.
وقد وردت الأدلة في بيان بعض الأعمال التي تنجي من عذاب القبر كالرباط في سبيل الله، فقد ورد أن "رِبَاط يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ"(رواه مسلم)، والشهادة في سبيل الله؛ ففي الحديث: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: (ومنها) وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"(رواه ابن ماجه).
ومنها قراءة سورة الملك، فقد ورد أن: "سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً، تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ"(رواه أبو داود وابن ماجه).
ومنها: والموت يوم الجمعة قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْر"(رواه أحمد).
وكذلك التزود من الأعمال الصالحة؛ ففي الحديث: "فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ"(رواه ابن حبان).
إخوة الإيمان: لنعمل ليوم لابد أن نصير فيه إلى تلك الحفرة، ولنستعيذ بالله من فتنة القبر وعذابه، فإن أمراً هذا آخره لحقيق أن يُزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يُخاف من آخره.
فاللهم إنا نعوذ بك من القبر وظُلمته، ونستجير بك من فتنته وشدته، ونسألك الأمن من كربته، يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم