الحور بعد الكور

خالد بن عبدالله الشايع

2024-04-19 - 1445/10/10 2024-04-22 - 1445/10/13
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/شكر الله على نعمة إتمام الصيام 2/من عرف الطاعة لا ينبغي له أن يعود للمعصية 3/استعاذة النبي من الضلالة بعد الهدى 4/العبرة بالخواتيم 5/من أسباب الثبات والاستقامة

اقتباس

بعد الخروج من رمضان النفس متشوفة للطاعة بعد أن ألفتها، وذاقت لذتها، فلا تركسها في المعاصي فتحرم تلك اللذة، والزم ما اعتدت عليه من الطاعات، واحذر من النكوص للوراء؛ فالشيطان حريص على صدك عن الخير، والنفس على ما يميل له صاحبها...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: بحمد الله انتهى موسم رمضان موسم الطاعة ومضاعفة الأجور، ونحن في صحة وعافية، بعد أن أتم الله علينا موسم الخير، تقبل الله منا ومنكم.

 

أيها المؤمنون: كان شهر رمضان مليئا بالعبادة، ميدانا للمنافسة، ومن البدهي أن يضعف المسلم بعد موسم رمضان؛ فتقل عبادته، ويضعف عزمه، ولكن لا ينبغي للعبد أن يعود لما كان عليه من المعاصي والسيئات، بعد أن هجرها شهرا كاملا، كمن حافظ على الصلاة جماعة شهرا كاملا، ثم ينتكس ويترك الصلاة في المسجد جماعة، أو كالذي ترك التدخين شهرا كاملا ثم يعود إليه مجددا، ونحو ذلك، وقد تعوذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الحال، أخرج ابن ماجه في سننه عن عبدالله بن سرجس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الحَور بعد الكَور"، قال السندي في حاشيته: "والكور لفُّ العِمامة وجمعُها، والحَور نقضها، والمعنى: الاستعاذة بالله من فساد أمورنا بعد صلاحها، كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس".

 

 وفسَّر الإمام الترمذي "الحور بعد الكور" بالرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، وقال المباركفوري: "أي: النقصان بعد الزيادة، وفساد الأمور بعد صلاحها"، أخرج الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن سرجس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر قال: "اللهم إني أعوذ بك من وَعْثَاء السَّفَر، وكآبة المنقلب، والحَور بعد الكَور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال"، وفي بعض الروايات: "الكون" بالنون بدل "الكور"، تغيرُّ حال الإنسانِ من الإيمان إلى الكفر، أو من التقوى والصلاح إلى الفجور والسوء، أو من الهدايةِ إلى الضلال، فهو درجاتٌ ودركات، فإذا تراجع المرءُ إلى الوراء يخُشى عليه من سوءِ  الخاتمـةِ.

 

والمعلومُ أن الأعمالَ بالخواتيم، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهل النّار وإنه من أهل الجنّةِ، ويعملُ عملَ أهل الجنّةِ وإنَّه من أهل النار، وإنما الأعمالُ بالخواتيمِ"، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "إنّ الرجلَ ليعملُ الزمنَ الطويلَ بعمل أهل الجنّةِ، ثم يُختَمُ له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجلَ ليعملُ الزمنَ الطويلَ بعمل أهل النار، ثم يُختَمُ له عملُه بعمل أهل  الجنّةِ".

  

هذه النصوص وغيرُها تبينُ لنا أن العبرةَ ليست بما يعمله المرءُ في حياتهِ؛ بل بما يختَمُ له ويموتُ عليه، وإن الثبات على الخير والاستقامة عليه والإخلاص لله تؤمن العبد من سوء الخاتمة، فالموضوعُ خطيرُ جداً، ومهمٌ في غايةِ الأهمية، فلا يشعر أحدُنا بأنه اجتاز القنطرةِ ووصل إلى برِّ الأمان بسبب التزامه، وأمِنَ من الضلالةِ، ومن الحوْرِ بعد الكوْر.

 

فالثباتُ من الله -عز وجلَّ- وحدهِ، وهو -تعالى- ثبَّتَ نبيَّهُ -صلى الله عليه وسلم-، فقال -عزّ وجلّ-: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)[الإسراء: 74]، ولذلك علّمنا -صلى الله عليه وسلم- بأن ندعوا الله -تعالى- أن يثبتنا على الدين، أخرج أحمد في مسنده أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "يا مثبّت القلوب، ثبِّت قلوَبنا على دينك"، وفي البخاري كانَ كثيراً ما يقول في قَسَمِه: "لا، ومقلّبَ القلوب"، وفي صحيح مسلم كـانَ مــن دعائه: "اللهم مصّرفَ القلوب، صرّف قلوبَنا على طاعتك".

 

اللهم ثبتنا على الحق والاستقامة على الدين يا رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فيا أخي المسلم: بعد الخروج من رمضان النفس متشوفة للطاعة بعد أن ألفتها، وذاقت لذتها، فلا تركسها في المعاصي فتحرم تلك اللذة، والزم ما اعتدت عليه من الطاعات، واحذر من النكوص للوراء؛ فالشيطان حريص على صدك عن الخير، والنفس على ما يميل له صاحبها.

 

وإن للثبات على الخير والاستقامة عليه أسباب، فمن ذلك:

سؤال الله الإعانة على ذلك، وكذلك الإخلاصُ والصدقُ مع الله أهم أسبابُ الاستقامةِ والصلاح، قال ابنُ القيمّ -رحمه الله-: "إنّما يجدُ المشقةَ في تركِ المألوفاتِ والعوائدِ مَنْ تركَهَا لغير الله، أمّا منْ تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله، فإنّه لا يجدُ في تركها مشقةً إلا في أوّل وهلةٍ؛ ليُمتحن أصادقٌ هو في تركها أم كاذبٌ؟ فإن صبرَ على تلك المشقةِ قليلاً استحالت لذةً".

 

ومنها: الخوفُ من سوءِ الخاتمةِ: فالمؤمنُ الصادق لابد أن يخافَ من سوءِ الخاتمةِ ويحذرَ من أسبابها، قال الله -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101]، وبكى سفيانُ الثوري -رحمه الله- ليلةً حتى الصباح، فلمّا سألوه قال: "إنما أبكي خوفَ سوءِ الخاتمةِ"، قال الأمام البربهاري -رحمه الله-: "واعلمْ أنه ينبغي للعبدِ أن تصحَبه الشفقةُ أبداً؛ لأنه لا يدري على ما يموتُ؟ وبما يخُتمُ له؟ وعلى ما يلقى الله -عزّ وجلَّ-؟ وإن عمل كلَّ عملٍ من الخيرِ".

 

والخوفُ من سوءِ الخاتمةِ له نتائجُه الكثيرةِ، فهو يدفع المرءَ للتسليم لله، والتوجُّه له بالدعاء، وهو يدعو للاجتهادِ في الطاعةِ وزيادةِ الاستقامةِ والصلاحِ، وخوفِ التراجعِ والنكوص.

 

عباد الله: لنحذر من الدنيا كما حذرنا منها ربنا وكذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فهي غرارة، تستدرج صاحبها حتى تستدركه في قعرها، ثم يختم له بسوء -والعياذ بالله-؛ ولهذا قال -سبحانه-: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر: 5]، ولنلزم الطاعة ولنستكثر منها، فالأجل قريب، والحساب شديد، ولا يهلك على الله إلا هالك.

 

 

المرفقات

الحور بعد الكور.doc

الحور بعد الكور.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات