الحسد

عثمان بن جمعة ضميرية

2024-08-02 - 1446/01/27 2024-08-05 - 1446/02/01
عناصر الخطبة
1/سلامة صدر المسلم لإخوانه المسلمين 2/الحسد من رذائل الأخلاق 3/الحسد من علامات مرض القلب 4/من أسباب الحسد 5/عواقب الحسد وآثاره السيئة 6/الاستعاذة من الحسد.

اقتباس

لا يزال الناس بخير وعافية ما لم يتحاسدوا، فإذا تحاسدوا، فقد أفسدوا ما بينهم، وكانت عاقبة أمرهم خسرًا، ودبَّ الفساد إليهم يحلق دينهم ومروءتهم... إن الحاسد إنسان خسيس الطبع، فاقد المروءة، متهالك على الدنيا...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد أيها المسلمون: فإن من نعمة الله -تعالى- على هذه الأمة أن جعلها أمةً واحدةً متماسكةً، تلتقي على الإيمان بالله والحبّ فيه، وطهّر قلوب أبنائها من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، فإذا رأى المسلم نعمة تُساق إلى أخيه رضي بها وفرح، وأحسّ فضل الله وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر".

 

وإذا رأى أذى يلحق أحدًا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يُفرّج كربه ويغفر ذنبه، وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضيًا عن الله عن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى.

 

فإن فار القلب بالضغائن أصبح داءً سيئًا، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثقوب؛ وإن نظرة الإسلام إلى هذا القلب خطيرة، فالقلب الأسود المظلم يُفْسِد الأعمال الصالحة ويطمس بهجتها ويعكّر صفوها.

 

أما القلب المشرق النظيف فإن الله يبارك في قليله، وهو إليه بكل خير أسرع، ولذلك وصف الله -تعالى- الجماعة المسلمة حقًّا فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].

 

ومن هنا جاءت الحملة شديدة على واحد من رذائل الأخلاق وأمراض القلوب وذلكم هو الحسد، حرَّمه الإسلام تحريمًا قاطعًا، وأمر الله رسوله من أن يستعيذ من شر الحاسدين؛ لأن الحسد جمرة تتقد في الصدر فتؤذي صاحبها ويؤذي الناس من حوله.

 

والحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره، ويتمنى أن تكون هذه النعمة له بدلاً من غيره، والشخص الذي يتمنى زوال النعم عن عباد الله بمثابة الآفة التي تحذر غوائلها على المجتمع، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمع في جوف عبد: الإيمان والحسد".

 

وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا".

 

وحذَّر -صلى الله عليه وسلم- من الحسد وبيَّن عاقبته وأثره على الحسنات التي تذهب هباء؛ فقال: "إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".

 

أيها المسلمون: لا يزال الناس بخير وعافية ما لم يتحاسدوا، فإذا تحاسدوا، فقد أفسدوا ما بينهم، وكانت عاقبة أمرهم خسرًا، ودبَّ الفساد إليهم يحلق دينهم ومروءتهم ويستأصل بقية الخير من نفوسهم، إنهم بذلك يشترون النار التي تحرقهم وتحرق أموالهم وتقض مضاجعهم، وتجعلهم في حال من الخوف والقلق، إذا رأى نعمة على أخيه حزن لها وأصابته الهموم، وتسخَّط على أقدار الله، وبات ليله ساهرًا ونهاره متألمًا.

 

أيها المسلمون: إن من علامات الخير والسعادة أن ينجو من مجتمعنا وتتطهر أخلاقنا ونفوسنا من هذا الداء بعد أن تتطهر من الحسد والضغينة. إن النفوس قد جُبِلَتْ على حُبّ الرفقة، فلا تحب أن يعلوها أحد أو يتفوّق عليها واحد من جنسها، فلا يكاد ينجو من ذلك أحد إلا من كان واثقًا بالله، وبما عند الله، وراضيًا بقضاء الله.

 

وإذا أردنا النجاة من هذا الحسد فينبغي أن نعرف أسبابه حتى نعالجها بما يقتلعها من نفوسنا، وحتى نقي أنفسنا منها قبل وقوعها.

 

وقد يدفع الإنسان إلى الحسد شيء من العداوة للآخرين، أو التكبر عليهم، والعُجب بما في النفس، وحبّ الرياسة والظهور.

 

فقد حكى الله -تعالى- عن أقوام من الكفار حسدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وتمنوا أن ينزل القرآن على غيره؛ فقالوا: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31].

 

وكان اليهود يعرفون صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدق دعوته، ولكنهم كفروا به بغيًا وحسدًا من عند أنفسهم.

 

وإنما يكون الحسد بين أقوام أو أناس من الأقران غالبًا وبين الأقارب وبين من يجمعهم وصف واحد، ولذلك ترى التاجر يحسد التاجر، والصانع في مهنة يحسد مَن يشاركه فيها.

 

وقد تجد طالب العلم يحسد طالب علم آخر، أو ترى عالمًا يحسد عالمًا آخر؛ لأن الله -تعالى- أعطاه من القبول بين الناس والتأثير في نفوسهم ما لم يُعْطِ غيره، فكان ذلك سببًا للحسد، وقد يحاول إخفاء ذلك في اصطناع الغيرة على الدين والسنة، وفي حقيقة الأمر لا يدفعه إلى سلوكه إلا حسد قاتل، مستغلاً الهفوات. ومنشأ هذا الحسد: حب الدنيا وعدم الرضا بقضاء الله وقدَره.

 

 إن الحاسد إنسان خسيس الطبع، فاقد المروءة، متهالك على الدنيا، ساخط لأقدار الله، ضيّق الصدر بما أعطى الله لعباده من الخير.

 

ولذلك جاء الإسلام بما يقتلع هذا الحسد من النفوس، وجاء بما يطهّر القلوب من الأمراض؛ وذلك بأن يعرف الإنسان أن الحسد ضرر على الحاسد نفسه في الدين والدنيا، وإنه لا يضر المحسود في الدنيا ولا في الدين؛ إلا أن يشاء الله.

 

والنعمة لا تزول عن المحسود لتصل إليك بحسدك -أيها الإنسان-؛ فعَلام تُعذّب نفسك وتقتلها كل يوم شر قتلة، إنك ترمي حجرًا على أخ لك لتصيب مقتله، فلا يصيبه ذاك، إلا أن يشاء الله. بل يرجع إلى عينك فيقلعها أو إلى صدرك ونفسك فيعذبها، إنك تشعل نارًا تضطرم ينجو فيها المحسود وتقع أنت فيها فتحرق نفسك.

 

 لله در الحسد ما أعدله  *** بدأ بصاحبه فقتله

وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا *** لمن بات في نعمائه يتقلب

 

أيها المسلمون: إن الإسلام يتحسس النفوس بين الحين والآخر، ليغسلها من أدران الحقد الرخيص والحسد الذميم، ويجعلها حافلةً بمشاعر أزكى وأتقى نحو الناس ونحو الحياة، يتحسسها في كل يوم، وفي كل أسبوع، حين تَمُرّ النفوس في آداب الإسلام فتتقي الأكدار وتتقي العيوب، ولا تبقى في الأفئدة المؤمنة أثارة من ضغينة أو حسد.

 

وقد أوضح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الصلوات المكتوبة لا ينال المسلم ثوابها إلا إذا اقترنت بصفاء القلب للناس؛ فقال: "ثلاثة لا تُرفَع صلاتهم فوق رؤوسهم: رجلٌ أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان"، هذا في كل يوم.

 

أما في كل أسبوع فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرَض الأعمال على الله في كل اثنين وخميس، فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا؛ إلا امرئ كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا".

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: اذكروا دائمًا أن كل نعمة من مال أو جاه أو عِلم أو صحة أو سُمعة حسنة، إنما هي من الله -تعالى- وبقَدَر منه، لا يجوز أن نَضِيق بها عند أحد من خلقه الله، ولا أن نتمنَّى زوالها عنه، واذكروا دائمًا أن الحسد سببٌ للعناء والكفر.

 

قال الله -تعالى-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 109]، وقال -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)[النساء: 54].

 

واستعيذوا بالله من الحسد ومن شره؛ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[سورة الفلق: 1-5].

 

المرفقات

الحسد.doc

الحسد.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات