الحذر من الشكليات

محمد بن إبراهيم النعيم

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ اهتمام كثير من المسلمين بظواهرهم 2/ أهمية الحرص على إصلاح الباطن 3/ أصلح داخلك ودع الحكم على الناس 4/ ذم الحكم بالظواهر فقط.

اقتباس

بعض الناس قد يهتم بظاهره ويهمل باطنه، فتراه يهتم ويحرص على هندامه وثيابه وشكله، وتراه يكرر النظر في المرآة ليتأكد بأن شكله مقبول عند الناس؛ لئلا يُزدرى أو يَضحكُ عليه أحد، بينما لا نجد مثل هذا الاهتمام بقلبه وإخلاصه وتقواه لله -عز وجل- والحرص على تتبع سنن النبي –صلى الله عليه وسلم- وزيادة إيمانه، فهو يهتم بالظاهر وهو موضع نظر الناس ومدحهم، ولا يهتم بالباطن وهو موضع نظر الرب جل جلاله...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة في الله أقف معكم عند حديث عظيم من أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي يبين فيه أن واجب المسلم أن يهتم بباطنه أكثر مما يهتم بظاهره، فقد روى أبو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (رواه مسلم).

فقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ"، أي لا ينظر نظر اعتبار إلى صورنا، إذ لا اعتبار بحسنها أو قبحها، ولن يجازينا على ذلك؛ لأن الله هو الذي صورنا في الأرحام بهذه الصورة، وهي ليست من كسبنا، وإنما هي قدر الله علينا.

 
وكذلك فإن الله -عز وجل- لن ينظر إلى أموالنا هل هي كثيرة أم قليلة، ولن يدخلك الله الجنة لكثرة مالك، علما بأنك محاسبٌ عنه، ولكن الله سيرى نيتك التي في قلبك، ويرى صواب عملك؛ فالحديث يدل على أن المسلم محاسب ومسئول عن نيته وعمله.

لذلك ينبغي علينا أن نصلح أعمالنا ونياتنا، ولا نجعل همتنا متعلقة بالبدن والمال، فإن الله تعالى لا يقبل المرء ولا يقربه لحسن صورته وكثرة ماله.

وقد قال الله -عز وجل-: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37].

لقد اهتم الإسلام بظاهر المسلم وباطنه، وإن كانت عنايته بالباطن أكثر؛ لأن الباطن هو الأساس وهو المقصود، فالإنسان في نظر الإسلام مظهر ومخبر، صورة وحقيقة، لكن المشكلة أصبحنا في هذا الزمان، نعتني بالمظهر ونهمل المخبر.

فبعض الناس قد يهتم بظاهره ويهمل باطنه، فتراه يهتم ويحرص على هندامه وثيابه وشكله، وتراه يكرر النظر في المرآة ليتأكد بأن شكله مقبول عند الناس؛ لئلا يُزدرى أو يَضحكُ عليه أحد، بينما لا نجد مثل هذا الاهتمام بقلبه وإخلاصه وتقواه لله -عز وجل- والحرص على تتبع سنن النبي –صلى الله عليه وسلم- وزيادة إيمانه، فهو يهتم بالظاهر وهو موضع نظر الناس ومدحهم، ولا يهتم بالباطن وهو موضع نظر الرب جل جلاله.

نحن لا نقول: لا تهتم بهندامك، فإن الله جميل يحب الجمال، ولكن لا يكون ذلك على حساب تفريطك في أمر الله -عز وجل-، فإن الباطن هو الأصل، ولا خير في مظهر بلا مخبر.

إنك تجد الفرد يتجمل ويتعطر في الصباح الباكر حتى يستحسنه زملاؤه في العمل، ولكنه قد يكون ممقوتًا عند الله؛ لأنه صلى الفجر بعد طلوع الشمس، أو لأنه بات ساهرًا على معصية، فلو كان يعلم بأن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صورنا وأموالنا وإنما ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا لبادر إلى التوبة والإنابة أولاً.

ومن الناس من تراه يقبل على صلاته ويحافظ عليها في المسجد ويهتم بحركاتها ومظهرها، وهذا محمود، لكنه لا يهتم بخشوعه ومدى إقبال قلبه على ربه.

ومن الناس من يحذر أن تصدر منه رائحة غير زكية، فيسارع إلى التنظف والتعطر، لئلا يشم منه الناس رائحة تنفرهم منه، وهذا حسن، ولكن لا نرى مثل هذا الاهتمام في الخوف من الوقوع في سائر المعاصي، والسبب هو غفلة هذا المسلم عن موضع نظر الرب واهتمامه فقط بموضع نظر الناس.

وبعض الناس اعتاد أن يذهب هو وأولاده إلى مكة في كل رمضان، وهذا طيب، لكن السؤال ما هو حالهم هناك؟ هل فعلاً تفرغ هو وأهله للعبادة والانقطاع بإقبال وتذلل واعتكاف؛ ليحصل اللب والمقصود؟ أم أن الواقع جلسات وسمر وأنس وحديث وزائر ومزور، فأصبحت أسفارًا عادية أكثر من أن تكون أسفاراً لقصد التقرب إلى الله، فسيطر الظاهر على الباطن، وظهرت الصورة وغابت الحقيقة، ولذلك ترى البعض منهم يرجع إلى بلده كما ذهب تمامًا، لم يتغير إيمانه وإقباله على ربه -عز وجل-.

أيها الإخوة في الله: هذا الحديث النبوي استدل به بعض الناس على ترك صالح الأعمال اتكالاً على صلاح النية، فأخذوا رواية من روايات الحديث التي تقول: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"، وهذا سلاح يستخدمه البطالون أو المتسترون بالمعاصي، لأن الكل يحسن أن يقول: إنه من الأتقياء وإنه يحب الله ورسوله، ولكن الذي يفضح هؤلاء هو الرواية التي رواها الإمام مسلم عندما قال: "وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".

 
فبعضهم إذا نصحته بترك محرم أو بفعل واجب؛ كإعفاء اللحية أو عدم إسبال الثوب، قال أهم شيء النية، وأصل التقوى في القلب، وهذه قشور لا تؤثر على إيمان المسلم، وغير ذلك من كلمات تنم عن تهربه من الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله –صلى الله عليه وسلم- ، وما علم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يأمر بقشور، وأنه لا بد من صلاح النية وصلاح العمل.

فيا عبد الله: إنك بين خيارين، فأيهما تقدم؟ فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الفرد، وإلى جماله وماله، وأما الله -عز وجل- فإنه ينظر إلى باطن الفرد، إلى قلبه وأعماله، فأيهما يجب أن تهتمَ به؟

أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا، وأن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي يعلم ما تخفي القلوب والخواطر، ويرى خائنة الأعين وخفيات السرائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلّب القلوب، وغفار الذنوب، وساتر العيوب، ومفرج الكروب. وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، سيد المرسلين، وجامع شمل الدين، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

 

أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله -عز وجل- يكرم المرء لتقواه وليس لحسبه ونسبه وماله، وأما الناس فينظرون إلى الظاهر ويهملون الباطن، فقد جاء عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ –رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا"؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا"؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا" (رواه البخاري).

فليست القضية أن تجعل حولك هيلمانًا وصولجانًا وخدمًا وحشمًا، فربما كل هذا لا يزن عند الله شيئًا أمام رجل تقيٍ طائعٍ لله، ولو كان فقيرًا مغمورًا بين الناس.

وثَم نقطة مهمة في هذا الموضوع، وهو أن بعض الناس إذا رأى رجلاً ظاهره عدم الالتزام ببعض أوامر الله، اعتقد بخراب باطنه، فقد يكون هذا الرجلُ فاسقًا عندك، ولكنه مقرب عند الله؛ لأنه عمل أعمالاً جليلة يحبها الله -عز وجل-، وقد تشفع له يوم القيامة؛ كبِرّه لوالديه أو محافظته على الصلاة، فلا ينبغي أن نحكم على المسلم من ظاهره.

 

فلو رأيت رجلاً يُجلَد لشربه المسكر مثلاً، وهذا من كبائر الذنوب، فلا يلزم من ذلك أن يكون قلبه خاليًا من أعمال يحبها الله ورسوله؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-، وَكَانَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: "لا تَلْعَنُوهُ فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا أِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".

فمن هذا الحديث يتبين لنا أن المرء قد يكون فاسقًا في الظاهر، ولكن لديه أعمال في الباطن تفوق كثيرًا ممن لديه صلاح في الظاهر، فلا تتعجل بذمّ أو تنقص لأخيك، فقد يكونُ أفضلَ منك عند الله وإن كان ضعيفَ الانقياد في الظاهر.

فينبغي علينا أن لا نزدري أي إنسان، ولو كان يطيل ثوبه أو يحلق لحيته؛ لأن الله ينظر إلى القلوب أيضًا، فرب رجل من هذا النوع يحب الله ورسوله حبًّا صادقًا يكون أقرب إلى الله مني ومنك.

كذلك علينا أن لا نحكم على الناس بالنظر إلى صورهم فقط، فقد تخدعنا مظاهرهم، وكم إنسان تزين بزي الصالحين ليخدع الناس فيأكل أموال بالباطل، فلا ينبغي أن تخدعنا المظاهر حتى نرى أعمالهم وأفعالهم.

والخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها من هذه الخطبة: أن تهتم بباطنك؛ لأن الله -عز وجل- ينظر إلى قلبك وعملك ولا تجعل جل اهتمامك بظاهرك.

 

فأنت بين خيارين، فأيهما تقدم؟ فإن الناس ينظرون إلى ظاهرك وإلى صورتك، وأما الله -عز وجل- فإنه ينظر إلى باطنك، إلى إيمانك وأعمالك، فأيهما يجب أن تهتمَ به؟ أدع الجواب لكم.

اللهم طهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق...

 

 

المرفقات

من الشكليات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات