الجيل المثالي

صالح بن عبد الله الهذلول

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ حلم الإنسانية بالجيل المثالي وجهود مخلصيها لإنشائه 2/ الصحابة فقط هم الجيل المثالي مَدّ التاريخ 3/ أمثلة ومقارنات وأقوال لأئمة الزيدية تؤكد ذلك 4/ أسباب كمال ذلك الجيل وأثر التربية النبوية 5/ من الحِكَم الإلهية في تمييز الصحابة واختصاصهم

اقتباس

إن الإنسانية -عباد الله- من أقدم أزمانها، وفي مختلف أوطانها، لم تشهد (الجيل المثالي) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحارى أرض العرب، يدعو إلى الحق والخير والرحمة، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفُرس وآراميين وكنعانيين وعبريين وغيرهم، وكانت المفاجأة عجيبة بمصدرها، وكيفيتها، وأطوارها! ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التي لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ!.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد: من سالف العصور والأزمان، إلى يوم الناس هذا، والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يَودُّ البشر لو يَظفرون به فيتخذونه قدوة لهم في السلم والحرب، والمَنْشط والمكْره، في مختلف أطوار الحياة؛ ليكون لهم من كماله الإمكاني المَثَلُ المقتدى به في كمالهم الإنساني.

 

الجيل المثالي أُمنيَّة من أماني الشعوب والأمم، من أقدم الأزمان إلى الآن، تحدَّث عنها الحكماء، وتغنّي بها الشعراء، وترنم بها رَخيم أصوات الهاتفين، وهمس بها صفوةُ الضارعين والمناجين، من كل صادِح ونحوه.

 

بل إن (الجيل المثاليّ) هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياءُ من أولى العَزْم، وهو الذي تمنَّاه العلماء، وهو الذي كانت الإنسانية -ولا تزال- تَرْنو إلى شَبَحه الُمرَجَّى في أحلام يَقَظاتها وفَتَرات غَفَواتها.

 

تَريَّثَ موسى -عليه الصلاة والسلام- بقومه في آفاق العريش وَبَريةِ سِيناءَ وصحاري النقب وحوالي بئر سَبْع أربعين حولاً، يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش أديم الغبراء، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستنُّ بسُنَن الله، ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال، فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه، ثم مات ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية!.

 

ونبغ في الصين حكيمُها كونفوشيوس قبل ميلاد المسيح، وكان من أصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة، لكنه أخفق في كل ما قام به من دعوة أرجاء الصين، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة، ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه، وبقيت الصين هي الصين، من ذلك الحين إلى الآن.

 

وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس، فصنَّفوا في ذلك المصنفات، وألقوا به الخطب، وقد اشتطُّوا في كثير مما صنفوا وخطبوا، وكتاب (الجمهورية) لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشَّطط. ثم انقضى زمن حكماء اليونان وحِكمتِهم، دون أن تعمل شُعوبهم بما دعوها إليه؛ لأن الدعوة والمدعُوِّين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك.

 

وعالج المسيحُ في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة، ممن كانوا يقصدون هيكلَ أو رشليم، أو يتسلَّقون جبل الزيتون، أو يتردَّدون على شواطئ بحيرة طبَريَّا وحقول أرض الجَليل وحدائقها، فلم يستجب لدعوته إلا عدد ضَئيل لا يكاد يُسمى جماعة، فضلاً عن أن يكون أمة.

 

إن الإنسانية -عباد الله- من أقدم أزمانها، وفي مختلف أوطانها، لم تشهد (الجيل المثالي) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحارى أرض العرب، يدعو إلى الحق والخير والرحمة، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفُرس وآراميين وكنعانيين وعبريين وغيرهم، وكانت المفاجأة عجيبة بمصدرها، وكيفيتها، وأطوارها! ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التي لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ!.

 

أين كان هؤلاء؟ وكيف تكوَّنوا على حين غفلة من الأمم؟ وما هذه الرسالة التي يحملونها؟ وكيف نجحت؟ وما هي وسائل نجاحها؟ سلسلةٌ من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجؤوا بما ينسيهم تاليه أوله، إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما أيقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها، وسيرتها، وأعمالها، وأن الذي اعتقدته وتخلقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السموات والأرض.

 

وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها، ثم أنساهم بعضُها بعضاً، كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من أسرارها.

 

وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي، جيل الصحابة  -رضي الله عنهم- أنه تلقى تربيته على يد معلم الناس، خاتم رسل الله، المبعوث بأكمل رسالات الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لذلك الجيل، لا يشك في ذلك عاقل، فضلاً عن مؤمن.

 

ولكن؛ يحق لنا أن نتساءل: ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله؟ ألم يُتَح لموسى أن يعاشر قومه في الحِل والترحال معاشرة تربيةٍ ودعوة أكثر من أربعين سنة؟ ومع ذلك، فحين أراد دخول الأرض المقدسة، قالوا له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة:24].

 

أين أصحاب موسى هؤلاء من أصحاب محمد -عليهما صلاة الله وسلامه- يوم سار بهم محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس من أهل مكة من صناديد العرب؟! فلما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي ذفران أراد أن يختبر إيمانهم، فأخبرهم عن قريش، واستشارهم في الموقف، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال وأحسن.

 

ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو (الأسود) الكندي فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوَالذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيراً، ودعا له.

 

ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا عليّ أيها الناس". فقال له سعد بن معاذ سيد الخزرج وأقوى زعيم في الأنصار: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟. قال: "أجل". قال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحقُ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى عدونا غداً، إنا لصُبر في الحرب، صُدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك؛ فسِر بنا على بركة الله. وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق  -رضي الله عنهم-. هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد.

 

ورأيناهم في تحريهم الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية كما تحدثت عنهم أم سلمة  -رضي الله عنها-  فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه،  قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواريث قد درست ليس بينهما بيّنة، فقال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة"، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي! فقال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إذا قلتما ذلك فاذهبا، فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما -أي: اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما-، ثم ليُحلَّ كل واحد منكما صاحبه".

 

وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل اسميهما، لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم المتميزين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال، كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمكانة والمناقب.

 

وهذه الطريقة في تربية محمد -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على محبة الحق، واستجابة أصحابه له فيما أَحَبّ -صلى الله عليه وسلم- أن يكونوا عليه، قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي، فلما كانت خلافة الصديق -رضوان الله وسلامه عليه- ناطَ منصبَ القضاء برمز العدالة في الإنسانية، وهو عمر بن الخطاب،  فكانت تمرُّ على عمر الأشهر ولا يأتيه اثنان يتقاضيان عنده، وأي حاجة بهذه الأمة المثالية إلى القضاءِ والمحاكمِ وهي أمةُ الحق، ومن أخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه؟.

 

بل إن الطبقة الدنيا في هذا الجيل، جيل الصحابة  -رضي الله عنهم،- منها من يأتي من يقع في شيء من المعاصي والذنوب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيعترف له بزلته، ويلح بلجاجة وإصرار على طلب إقامة الحد عليه، وفي ذلك حتفه؛ ليتطهر مما دنسه به الشيطان!.

 

وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع، لكنهم يأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا عقوبة الآخرة.

 

وهذه الملاحظة عن هذه الطبقة بالذات، أعني طبقة صحابة الرسول، قد سبق إلى التنويه بها والتحدث عنها إمام كبير من أئمة أهل البيت من زيدية اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة، المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة أربع عشرة وستمائة، نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع محمد بن إبراهيم بن علي المترضي الوزير [القرن الثامن والقرن التاسع]  في كتابه (الروض الباسم) فذكر تلك الطبقة وقال: إن أكثرهم تساهلا في أمر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر، لا سيما معصية الزنا... لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح، والخوف العظيم، ومن يُضرب بصلاحه المثل، ويُتقرب بحبه إلى الله  -عز وجل-، وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين، وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين.

 

وقد علق على كلام المنصور بالله علامة الزيدية محمد بن إبراهيم الوزير قائلاً، يخاطب قارئ كتابه: فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا -وقبل زماننا- من أهل الديانة سار إلى الموت نشيطاً، وأتى إلى ولاة الأمر مُقراً بذنبه مشتاقاً إلى لقاء ربه، باذلاً في رضا الله لروحه، ممكناً للولاة أو القضاة في الحكم بقتله؟! وهذه الأشياء تنبه الغافل، وتقوي بصيرة العاقل، وإلا ففي قول الله -تعالى-: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، كفاية وغنية، مع ما عضدها من شهادة المصطفى -عليه السلام- بأنهم: (خير القرون)، وبأن غيرهم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة، ومراتبهم المنيفة. اهـــ.

 

اللهم حبب إلينا حبك... اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:29].

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...

 

أما بعد: ما حكمة الله في هذا الامتياز الذي اختص به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلهم (الجيل المثالي) الوحيد الذي عرفه تاريخ الإنسانية؟ سؤالٌ قد يرد على بال الكثيرين.

 

يقول العلامة محب الدين الخطيب -رحمه الله-: فكرت في معادن الأمم، ومواهبها، وسجاياها، فراقبتها جميعاً قبل أن تطرأ عليها الحضارات والعلوم المكتسبة والصناعات والأنظمة الاجتماعية التي هي من صنع التشريع البشري، فتبين لي أن الأمة التي منها (الجيل المثالي) في الإسلام امتازت في جملتها على كل أمة أخرى بسعة المدارك، ونضوج العقل، ودقة المشاعر، وجودة الأخلاق؛ وامتازت بلغة هي أرقى على الإطلاق من كل لغة أخرى للبشر، وكل رقي لأي لغة أخرى غير اللغة العربية هو من أثر الحضارة واتساعها الحادث في الصناعات والعمران والفنون والثروة.

 

ولقد اختار الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- لأكمل رسالاته وآخرها، واختار كذلك العربية لكتابه الحكيم؛ لأنها أكمل اللغات وأغناها، واختار أيضاً لرسوله أصدق الأمم معدناً وأجمعها للصفات التي يكفلُ نجاح هذه الدعوة وتقوى بها على حمل هذه الأمانة، فكانت بها خير أمة أخرجت للناس.

 

وقد دعت إلى الإسلام بسيرتها وأخلاقها وتصرفاتها، فتعرفت الأمم إلى الرسالة المحمدية بما رأت العيون من سيرة الصحابة، أكثر مما سمعته الآذان من بيانهم.

 

وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما استجابوا لهذه الدعوة وتشرفوا بالدخول في الإسلام كانوا متفاوتين في مبلغهم من سجايا أمتهم: فبعضهم كان أسرع إدراكاً من بعض. وإذا امتاز أحدهم على أخيه بناحية من نواحي الخير، كان لأخيه ناحية أخرى من الخير يمتاز بها.

 

كان أبو بكر أسبق من عمر إلى إدراك الحق في دعوة الإسلام، لكن عمر، حتى في أشد عصبيته على الإسلام، يوم بلغه إسلام أخته وابن عمه وجاء ليبطش بهما، طرقت سمعه صيحة من صيحات الحق التي يهتف بها الإسلام، فبردت عصبيته، وتغلب نزوعه للحق على نزوعه لنصرة الإلف، فكان في خلال دقيقتين اثنتين من أكرم أنصار الحق على الله، ومن أسرع البشر إلى الاستجابة لنداء الحق.

 

وخالد بن الوليد كان شاباً من أبناء الأعيان من رؤساء قريش، سكر بخمرة النصر على المسلمين في أُحد، وكان يومها لا زال على الشرك، وعاد إلى مكة نشوان بها، لكن الحق الذي كان الإسلام يهتف به كان يطرق مسامع خالد، فتأمل فيه فوجده حقاً فترك ثروة أبيه وجاهه ومربط خيله الواسع في مكة، وخرج قاصداً المدينة ليدخل في دين الذين حاربهم، وانتصر عليهم، فلقي في طريقه عمرو بن العاص وحامل مفتاح الكعبة وعلم أنهما مثله قد تبين لهما الحق وخرجا في طلبه والالتحاق بأهله والجهاد في سبيله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم عند بلوغهم المدينة: "رمتكم مكة بأفلاذ كبدها".

 

مثل هذه الأخلاق كثيرة جداً في (الجيل المثالي) الذي صنع منه محمد -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه، ولكننا قلما نجد ذلك شائعاً في الأمم الأخرى. نعم. إن الخير موجود في كل الأمم، ولكن لا إلى الحد الذي يقوم به جيل كجيل صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس.

 

يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي زرعة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".

 

ومما لا شك فيه أن العرب كانوا على وثنية، ولكن مَنْ مِنَ الأمم لم يكن عند ظهور الإسلام من أهل الوثنية بمختلف معانيها؟ إلا أن العرب كانوا أحدث الأمم في وثنيتهم، لأنها طرأت عليهم قبيل الإسلام بمئات قليلة من السنين على يد عمرو بن لحي الخزاعي حين جلب الأوثان والأصنام من الشام إلى مكة، وكانت العرب قبل ذلك من أهل الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل، وبنو إسماعيل انتشروا من مكة وتوطنوا في جميع البقاع الشمالية من جزيرة العرب إلى أسوار مدينة دمشق، ومن العرب مَن كانوا على دين شعيب، وقد ترك التاريخ لنا نصوصاً في هذا المعنى.

 

وهذه الوثنية الطارئة على العرب لم يكن لها عندهم من الهياكل والسدنة والتهاويل ما يضارع الذي لها عند غيرهم، فكانوا أقرب أمم الأرض إلى دين الفطرة، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم بقوله -سبحانه- (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:143]، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]، وقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].

 

نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بَكار، أن رجلاً قال لعمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟ قال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدّم -يعني أباه ومن هو في طبقة أبيه- وكانوا ممن توازي حُلومُهم الجبال، فلما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنكروا عليه، قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حق بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك مني، من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلي فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله ربك ورب من قبلك ومن بعدك: أنحن أهدى أو فارس والروم؟ قال: نحن أهدى، يعني من ناحية الصدق والعدالة والأمانة والتعاون المحمود. قلت: فنحن أوسع عيشاً أم هم؟ قال: هم. قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا وهم أعظم منا فيها أمراً في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حق، ولا خير في التمادي في الباطل.

 

أيها المؤمنون: إن المسلمين، بل الإنسانية كلها، أشد ما كانوا اليوم حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكرم معدنهم، وأثر تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم، وما كانوا عليه من علو المنزلة التي صاروا بها (الجيل المثالي) الفذ في تاريخ البشر.

 

هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة... 

 

 

المرفقات

المثالي

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات