الثبات على دين الله في الدنيا أهميته وأسبابه

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2023-01-06 - 1444/06/13 2023-01-08 - 1444/06/15
عناصر الخطبة
1/وعد الله بنصرة أوليائه 2/من المثبتات على دين الله 3/كثرة سؤال النبي الثبات من ربه 4/أهمية اللجوء إلى الله -تعالى-.

اقتباس

أعظم أسباب الثبات ذلكم الحبل الموصول بالسماء وهو الدعاء، فهو مفزع المضطرين ودواء العليلين وملجأ الخائفين، به لهج الرسل أجمعون، وبه استعان سيد المرسلين؛ لذلك كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يدعو بالثبات لنفسه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

أيها الإخوة: الثبات على دين الله من أعظم المطالب التي يطلبها عباده الصالحون، ولقد وعدَ الله -سبحانه- بالنصرِ والتثبيتِ لمَن ينصُرُه ويستقِيمُ على أمرِه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد:7]، تضمنت هذه الآية شرطٌ وجزاءٌ؛ الشرط أمر منه -تعالى- للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوةِ إليه، وجهادِ أعدائه، يقصدون بذلك وجه الله، فإن هم فعلوا ذلك حصلوا على الجزاء بأن ينصرهم الله ويثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويُصبر أجسامُهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره.

 

معاشر الأحِبَّة: والثبات يطلب في عدد من المواقع، فأول موضع يطلب فيه يكونُ في الحياةِ الدنيا، يقول الله -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم:27]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "يخبر -تعالى- أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمانِ القلبِ التام، الذي يستلزم أعمالَ الجوارح ويُثمِّرُها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبُّه الله على هوى النفس ومرادها".

 

والمثبتات على دين الله كثيرة، ذكرها الله -تعالى- في كتابه العزيز وذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، فمن المثبتات في الدنيا: القرآن الكريم قال الله -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)[الفرقان:32]؛ لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازدادَ طُمأنينة وثباتا، وخصوصا عند ورود أسباب القلق؛ فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك، قال -سبحانه-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:102]؛ فمن تربى بعلوم القرآن وتخلق بأخلاقه، واستضاء بنوره في ظلمات الغي والجهالات، وجعل القرآن إمامه في جميع الحالات؛ استقامت أموره الدينية والدنيوية، وهذا هو التثبيت المراد.

 

ومن المثبتات على دين الله: قراءة السيرة، وسير الأنبياء والصالحين؛ ولذلك قال الله -تعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود:120]؛ أي: ليطمئن قلبك ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها، ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به، وهذا المعنى يحصل للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين؛ ولذلك أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقص القصص للموعظة والتثبيت أياً كانت نهايتها، فقال -عز من قائل-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:176]، من ضرب الأمثال، وذكر العبر والآيات، فإذا تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا.

 

ومما يزيد في تثبيت المؤمن: العمل بالعلم، سواء أدرك العلم بجهده وبحثه أو استفاده من غيره؛ لذلك قال -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)[النساء:66-68]، قال الشيخ السعدي: "أخبر -تعالى- أنهم لو فعلوا ما يوعظون به، أي: ما وُظِّفَ عليهم في كلِ وقتٍ بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفَّروا نفُوسَهم للقيام به وتكميله، ثم رتب الله -تعالى- ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور:

أحدها: الخيرية في قوله: (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)؛ أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها، أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار؛ لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده.

 

الثاني: حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثباتٌ فيوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد، يوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر، فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر.

 

وأيضا فإن العبد القائم بما أُمر به، لا يزال يتمرَّن على الأوامر الشرعية حتى يألفَها ويشتاقَ إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونةٌ له على الثبات على الطاعات.

 

الثالث: قوله: (وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا)؛ أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

الرابع: الهداية إلى صراط مستقيم، وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كلُ شَرٍّ وضَيرٍ". 

 

أيها الإخوة: والرفقة الصالحة خير معين ومثبت على دين الله -تعالى-، يقول الله -تعالى- ذاماً رفيق السوء الذي لا تفيد رفقته إلا الشقاء والخسار والخزي والبوار؛ بتزيينه للضلال وخداعه وتسويله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[الفرقان: 27 - 29].

 

فرفيق السوء يزين لرفيقه الباطل ويقبح له الحق ويبعده عن دين الله، وقد مثله النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبلغ تمثيل فقَالَ: "مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"(رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).

 

وأَمَرَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- وغيرَه أسوته في الأوامر والنواهي أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مع المؤمنين العباد المنيبين، فقال -جَلَّ وَعَلَا-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف:28]، و(الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)؛ أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم، فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى. 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: اعلموا -وفقنا الله تعالى لطاعته وتقواه- أن أعظم أسباب الثبات ذلكم الحبل الموصول بالسماء وهو الدعاء، فهو مفزع المضطرين ودواء العليلين وملجأ الخائفين، به لهج الرسل أجمعون، وبه استعان سيد المرسلين؛ لذلك كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يدعو بالثبات لنفسه فيَقُولُ: "يَا مُثبِّتَ الْقُلُوبِ: ثبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني عن النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ)، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ: ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"(رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ وصححه الألباني).

 

وكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو بذلك؛ لعلمه التام بأحوال القلب وتقلبه، فهو القائل -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ بِأَرضٍ فَلَاةٍ، تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ"(رواه أحمد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط)، وهو القائل -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنَ الْقُلُوبِ قَلْبٌ إِلَّا وَلَهُ سَحَابَةٌ كَسَحَابَةِ الْقَمَرِ، بَيْنَمَا الْقَمَرُ مُضِيءٌ، إِذْ عَلَتْ عَلَيْهِ سَحَابَةٌ فَأَظْلَمَ، إِذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَأَضَاءَ"(رواه الطبراني في المعجم الأوسط عَنْ عَلِيٌّ -رضي الله عنه-، وحسنه الألباني)، وهذا هو الغين الذي ذكره رسول الله في قوله: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"(رواه مسلم عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ)، والغين ما يتغشى القلب، والمراد الفترات والغفلات عن الذكر؛ "بينما القمر يضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت"، كذلك هذه القلوب تارة وهي مشرقة وللمعاني مستدركه ولربها ذاكرة، وتارةً وهي مظلمة لا تدرك شيئًا!.

 

أيها الإخوة: ويُحصِّنُ الثَّباتَ ويحفَظُه حُسنُ الظنِّ بالله والثِّقةُ به، والاعتِمادُ عليه، والتوكُّلُ عليه، وكمالُ الإنابةِ إليه، واستِشعارُ معيَّتِه، والرَّغبةُ فيما عنده، وخشيَتُه والخوفُ منه، ودوامُ مُراقبتِه، وحُسنُ النيَّة والإخلاصُ، والإقبالُ على الله، ودوامُ الطاعةِ.

 

 

المرفقات

الثبات على دين الله في الدنيا أهميته وأسبابه.pdf

الثبات على دين الله في الدنيا أهميته وأسبابه.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات