الثبات على دين الله تعالى

ناصر بن محمد الغامدي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ ثمرات الثبات على الدين 2/ الهدي النبوي في المداومة على الأعمال 3/ عِظَم الثبات على الطاعة في عصرنا وأهميته 4/ حاجة الثبات للمراقبة 5/ مدار الثبات حفظُ القلب واللسان 6/ أسباب تعين على الثبات على الدين 7/ مواقف للصالحين في ثباتهم وتثبيتهم 8/ الثبات على الدين حقيقة الإسلام

اقتباس

إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ هُوَ الرُّجُولَةُ الحَقَّةُ، وَالانْتِصَارُ العَظِيمُ فِي مَعْرَكَةِ الطَّاعَاتِ وَالأَهْوَاءِ، وَالرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ وَهُوَ الضَّمَانُ -بِإِذْنِ اللهِ- للحُصُولِ عَلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الثَّابِتُونَ المُسْتَقِيمُونَ أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ، وَتُعْلِنَ وَقُوفَهَا إِلَى جَانِبِهِم في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ..

 

 

 

 

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أَيُّهَا النَّاسُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى أَنْ هَدَاكُمْ للإِسْلاَمِ، وَجَعَلَكُمْ مِنْ أُمَّةِ خَيرِ الأَنَامِ، عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال:20].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَمُلاَزَمَةَ صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ، وَالمُدَاوَمَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالحَذَرَ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ دَلِيلُ صِدْقِ الإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ الهِدَايَةِ، وَسَبَبُ حُصُولِ الخَيرَاتِ، وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، وَالوُصُولِ إِلَى أَعْلَى المقَامَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتَحْقِيقِ الكَرَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وَبِهِ يَحْصُلُ اليَقِينُ، وَمَرْضَاةُ رَبِّ العَالَمِينَ، وَيَجِدُ المُسْلِمُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ، وَرَاحَةَ البَالِ، وَبَرْدَ اليَقِينِ؛ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22]،(أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].

إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ هُوَ الرُّجُولَةُ الحَقَّةُ، وَالانْتِصَارُ العَظِيمُ فِي مَعْرَكَةِ الطَّاعَاتِ وَالأَهْوَاءِ، وَالرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ وَهُوَ الضَّمَانُ -بِإِذْنِ اللهِ- للحُصُولِ عَلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الثَّابِتُونَ المُسْتَقِيمُونَ أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ، وَتُعْلِنَ وَقُوفَهَا إِلَى جَانِبِهِم في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].

قَالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه-: لَمْ يُشْرِكُوا باللهِ شَيئًا، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيرِهِ، ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى أَنَّ اللهَ رَبُّهُم. وَقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، واجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ.

مَا أَجْمَلَ الطَّاعَة إِذَا أُتْبِعَتْ بِالطَّاعَةِ! وَمَا أَعْظَمَ الحَسَنَة وَهِي تَنْضمُّ إِلَى الحَسَنَةِ لِتُكَوِّنَ سِلْسِلَةً مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي تَرْفَعُ العَبْدَ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلَى، وَتُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ! وَمَا أَتْعَسَ المَرْء وَأَقَلَّ حَظّهِ مِنَ الإِسْلاَمِ أَنْ يَهْدِمَ مَا بَنَى، وَيُفْسِدَ مَا أَصْلَحَ، وَيَرْتَدَّ إِلَى حَمْأَةِ المَعْصِيَةِ وَظُلْمَةِ الكُفْرِ، بَعْدَ أَنْ ذَاقَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلاَوَةَ الطَّاعَةِ!.

وَلَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ" رواه النسائيُ وَأحمدُ والترمذيُّ وسندُهُ قويٌّ. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ-صلى الله عليه وسلم- المُدَاوَمَةُ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَو كَانَتْ قَلِيلَةً؛ سُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيئًا؟ قَالَتْ: لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُطِيقُ؟! متفقٌ عليه. وَيَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" متفقٌ عليه.

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَبَى قَومٌ المُدَاوَمَةَ، واللهِ مَا المُؤْمِنُ بالذِي يَعْمَلُ الشَّهْرَ أو الشَّهْرَينِ، أو عَامًا أَو عَامَينِ، لاَ وَاللهِ! مَا جُعِلَ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلٌ دُونَ المَوتِ. ثُمَّ قَرأَ قَولَ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].

وَإِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلُزُومَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَظِيمٌ، لاَ سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ المُغْرِيَاتِ، وَتَتَابُعِ الشَّهَوَاتِ، وَكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ، وَضَعْفِ المُعِينِ، وَكَثْرَةِ الفِتَنِ التِي أَخْبَرَ عَنْهَا المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَو يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا" رواه مسلم.

وَالنَّفْسُ الثَّابِتَةُ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى تَحْتَاجُ إِلَى المُرَاقَبَةِ التَّامَّةِ، وَالمُلاَحَظَةِ الدَّائِمَةِ، وَالأَطْرِ عَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ، وَالبُعْدِ عَنْ مَوَاطِنِ الهَوَى وَالمُجَاوَزَةِ وَالطُّغْيَانِ؛ وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ أَرْشَدَ النبيُّ الكَرِيمُ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَهُ بِقَولِهِ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا" رواه مسلم، وَبِقَولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا" متفق عليه، وَالسَّدَادُ هُوَ حَقِيقَةُ الاسْتِقَامَةِ وَالثّبَاتِ، وهُوَ الإِصَابَةُ في جَمِيعِ الأَقْوَالِ والأَعْمَالِ والمَقَاصِدِ. وأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وأَجَلُّ قَولُ الحَقِّ تَعَالَى: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت: 6]. وَهُوَ تَوجِيهٌ إِلَهِيٌّ كَرِيمٌ لِجَبْرِ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ضَعْفٍ بَشَرِيٍّ، وقُصُورٍ إِنْسَانِيٍّ.

وَمَدَارُ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى أَمْرَينِ عَظِيمَينِ: حِفْظُ القَلْبِ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ؛ فَمَتَى اسْتَقَامَا اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الأَعْضَاءِ، وصَلَحَ الإِنْسَانُ في سُلُوكِهِ وحَرَكَاتِهِ وسَكَنَاتِهِ، ومَتَى اعْوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَ الإِنْسَانُ، وضَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ جَمِيعًا.

وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ"، وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَأَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلاَبًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا".

وَإِنَّ للثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ، وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرْعِهِ، أَسْبَابًا وَأَخْلاَقًا، مَتَى مَا أَخَذَ بِهَا المُسْلِمُ وَتَخَلَّقَ بِهَا وَحَرِصَ عَلَيهَا ثَبَّتَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى دِينِهِ، وَعَصَمَهُ مِنَ الحَورِ بَعْدَ الكَورِ، وَالضَّلاَلِ بَعْدَ الهُدَى.

فَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الأَسْبَابِ الإِيمَانُ الصَّادِقُ باللهِ تَعَالَى، وَالاعْتِصَامُ بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِهِمَا عِلْمًا وَعَمَلاً؛ فَإِنَّهُمَا النُّورُ وَالضِّيَاءُ اللَّذَينِ يُهْتَدَى بِهِمَا فِي الظُّلُمَاتِ، وَيُرْجَعُ إِلَيهِمَا عِنْدَ المُلمَّاتِ، وَيُعْتَصَمُ بِهِمَا وَقْتَ الفِتَنِ، مِصْدَاق مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُ أُمَّتَهُ بِهِ قَائِلاً: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَينِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ" رواه مالكٌ والحاكمُ بسندٍ حسنٍ.

وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الحِكَمِ العَظِيمَةِ التِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- التَّثْبِيتُ عَلَى الحَقِّ؛ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان:32]، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:102].

فَالاعْتِصَامُ بالقُرْآنِ، وَقِرَاءَتُهُ، وَحِفْظُهُ، وَمُدَارَسَتُهُ، وَالقِيَامُ بِهِ، مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ، وَزِيَادَةِ الإِيمَانِ؛(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].

وَلِمُعَالَجَتِهِ لأَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) [الإسراء:82]، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى القَصَصِ الحَقِّ الذِي يُسَلِّي المُؤْمِنِينَ وَيُبَشِّرُهُم بالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَيُبَيِّنُ عَاقِبَةَ المُجْرِمِينَ المُكَذِّبِينَ المُحَارِبِينَ للهِ وَرُسُلِهِ وَالمُؤْمِنِينَ عَبْرَ التَّأْرِيخِ؛(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].

وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى كَثْرَةُ العِبَادَةِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَو قَلَّتْ، وَالاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ، وَالحَذَرُ مِنَ المَعَاصِي وَالمُبْتَدَعَاتِ، وَالاسْتِجَابَةُ للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَالانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ، وَالعَمَلُ بِمَا يُوعَظُ بِهِ المَرْءُ مِنْ خِلاَلِ آيَاتِ القُرْآنِ وَنُصُوصِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِمَّا يُقَوِّي اللهُ تَعَالَى بِهَا قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ، لِتُصْبِحَ ثَابِتَةً رَاسِخَةً، لاَ يُزَعْزِعُهَا إِرْجَافُ المُرْجِفِينَ، وَلاَ تَهْوِيلُ المُبْطِلِينَ؛ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد:17]،)وَلَو أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء:66]،(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:17].

وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَلِكَ قَولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)" رواه مسلمٌ والبخاريُّ مختصرًا. وَقَالَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَمَّا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَيُثَبِّتُهُم بِالخَيرِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِي الآخِرَةِ فِي القَبْرِ.

وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَالاطْمِئْنَانُ إِلَى خِيرَتِهِ للعَبْدِ، وَأَنَّ الخَيرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ، وَالشَّرَّ فِيمَا صَرَفَهُ عَنْهُ؛ (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، وَالثِّقَةُ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى وَوَعْدِهِ لِعِبَادِهِ؛ (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً) [النساء:122]، وَعَدَمُ الاغْتِرَارِ بالبَاطِلِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ وَشَوكَتِهِم فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا تَحْتَ قَهْرِ اللهِ وَقُوَّتِهِ؛ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:196-197]، وَمَعْرِفَةُ زَيفِ البَاطِلِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ مَهْمَا عَلاَ وَارْتَفَعَ، فَلاَ يَسْتَوِي مَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَولاَهُ وَنَاصِرَهُ مَعَ مَنْ كَانَ إِبْلِيسُ مَولاَهُ وَقَائِدَهُ.

وَبِمِثْلِ هَذَا كَانَ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- يُثَبِّتُ المُسْلِمِينَ عَلَى الحَقِّ فِي أَشَدِّ الظُّرُوفِ، وَأَصْعَبِ المَواقِفِ، فَالصَّحَابَةُ يُعَذَّبُونَ أَشَدَّ العَذَابِ وَهُمْ مُسْتَضْعَفُونَ مُطَارَدُونَ مُشَرَّدُونَ، قِلَّة يُنَكِّلُ بِهِمُ المُشْرِكُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ القُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ يُبَشِّرُ المُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَهَزِيمَةِ المُشْرِكِينَ؛ (مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلْ السَّاعَةُ مَوعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر:45، 46]، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].

وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الدُّعَاءُ وَالإِلْحَاحُ عَلَى اللهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ حَتَّى المَمَاتِ؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]،(وَمَا كَانَ قَولَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:147-148].

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقَالَتْ لَهُ زَوجُهُ أُمُّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَينَ أُصْبُعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ" رواه الترمذيُّ وأحمدُ وسندُهُ حسنٌ.

وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ المُدَاوَمَةُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ الصِّلَةُ العُظْمَى بِاللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ فَمَعَهُ الفِئَةُ التِي لاَ تُغْلَبُ، وَالحَارِسُ الذِي لاَ يَنَامُ، وَالهَادِي الذِي لاَ يَضِلُّ. وَتَأَمَّلْ -أَخِي المُسْلِمُ- كَيفَ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الذِّكْرَ بِالثَّبَاتِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي مَوقِفٍ مِنْ أَشَدِّ المَواقِفِ وَأَخْطَرِهَا؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45].

وَإِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَلُزُومِ صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ الذِي لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينَ يَدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ سُلُوكُ سَبِيلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَأَتْبَاعِ الدَّلِيلِ وَالأَثَرِ، وَالاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِم عِلْمًا وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا، فَإِنَّ الحَيَّ لاَ تُؤْمَنُ عَلَيهِ الفِتْنَةُ؛ وَإِنَّ أَهْلَ البِدَعِ وَالخَارِجِينَ عَنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا فِي الحَيَاةِ وَعِنْدَ المَمَاتِ.

وَعَلَى المُسْلِمِ البَاحِثِ عَنِ الثَّبَاتِ وأَسْبَابِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مُرَافَقَةِ الصَّالِحِينَ، وَالالْتِفَافِ حَولَ العُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ العَامِلِينَ، وَالدُّعَاةِ الصَّادِقِينَ الذِينَ يُثَبِّتُونَ النَّاسَ عِنْدَ الفِتَنِ، وَيُؤَمِّنُونَهُم فِي أَزْمِنَةِ الخَوفِ وَالرَّهْبَةِ، وَيُكْثِرَ مِنْ مُجَالَسَتِهِم، فَإِنَّ مُلاَزَمَتَهُم وَمُجَالَسَتَهُم تَزِيدُ الإِيمَانَ، وتُثَبِّتُ الأَقْدَامَ عَلَى طَرِيقِ الرِّحْمَنِ.

وَهَا هُوَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْيَومُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَومُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الأَيدِيَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه وأحمدُ وسندُهُ صحيحٌ.

وَلاَ يُنْسَى مَوقِفُ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ ثَبَتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُذَكِّرًا النَّاسَ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى الذِي أَخْبَرَ عَنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَحِينَ ثَبَتَ عَلَى الحَقِّ فِي وَجْهِ المُرْتَدِّينَ وَحَارَبَهُم، حتَّى نَصَرَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَقَمَعَ فِتْنَةَ الرِّدَّةِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ الذِينَ آمَنُوا فِي الفِتَنِ وَشَدِّ أَزْرِهِم عِنْدَ المِحَنِ مَا وَقَعَ للإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الذِي نَصَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ فِي فِتْنَةِ القَولِ بِخَلْقِ القُرْآنِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَمَّا صَارَ إِلَى رَحْبَةِ طَوقٍ بِالشَّامِ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلاَ تَكُنْ شُؤْمًا عَلَيهِم، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ اليَومَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُجِيبَهُم إِلَى مَا يَدْعُونَكَ إِلَيهِ! فَيُجِيبُوا فَتَحْمِلَ أَوزَارَهُم يَومَ القِيَامَةِ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ، فَإِنَّهُ مَا بَينَكَ وَبَينَ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ تُقْتَلَ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: فَكَانَ كَلاَمُهُ مِمَّا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذِي يَدْعُونَنِي إِلَيهِ.

وَقَالَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ نُوحٍ الذِي صَحِبَهُ فِي السِّجْنِ وَصَمَدَ مَعَهُ فِي الفِتْنَةِ: مَا رَأَيتُ أَحَدًا عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَقَدْرِ عِلْمِهِ أَقْوَمَ بِأَمْرِ اللهِ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ نُوحٍ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ خُتِمَ لَهُ بِخَيرٍ، قَالَ لِي ذَاتَ يَومٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، اللهَ اللهَ إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي، أَنْتَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِكَ، قَدْ مَدَّ الخَلْقُ أَعْنَاقَهُم إِلَيكَ لِمَا يَكُونُ مِنْكَ، فَاتَّقِ اللهِ وَاثْبُتْ لأَمْرِ اللهِ.

فَكَانَ لِمِثْلِ هَذِهِ الكَلِمَاتِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي ثَبَاتِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى قَولَةِ الحَقِّ: إِنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ تَعَالَى مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخْلُوقٍ، حَتَّى ظَهَرَ الحَقُّ، وَبَطَلَ مَا كَانَ يُرَوِّجُ لَهُ أَهْلُ البِدَعِ مِنَ القَولِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، وَانْقَمَعَتِ الفِتْنَةُ، وَخَرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ السِّجْنِ شَامِخًا عَزِيزًا، مُهَابًا مُكْرَمًا، مَذْكُورًا بِهَذَا المَوقِفِ العَظِيمُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ وَاصِفًا شَيخَهُ شَيخَ الإِسْلاَمِ ابْنَ تَيمِيَّةَ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-: وَعَلِمَ اللهُ مَا رَأَيتُ أَحَدًا أَطْيَبَ عَيشًا مِنْهُ قَطُّ، مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ العَيشِ وَخِلاَفِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ ضِدّهَا، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالإِرْهَاقِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيشًا، وَأَشْرَحِهِم صَدْرًا، وَأَقْوَاهُم قَلْبًا، وَأَسَرِّهِم نَفْسًا، تَلُوحُ نَضْرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ؛ وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الخَوفُ، وَسَاءَتْ بِنَا الظُّنُونُ، وَضَاقَتْ بِنَا الأَرْضُ، أَتَينَاهُ، فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ نَرَاهُ، وَنَسْمَعَ كَلاَمَهُ، فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً.

وَهَكَذَا يَكُونُ دَورُ الأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ الفِتَنِ، وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِم وَنُفُوسِهِم عِنْدَ المِحَنِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي ولَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمِ.

 

 

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنِ اقْتَفَى.

أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. ثُمَّ اعْلَمُوا -رَعَاكُمُ اللهُ- أَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى هُوَ حَقِيقَةُ الإِسْلاَمِ؛ فَإِنَّ الإِسْلاَمَ فِي حَقِيقَتِهِ إِيمَانٌ باللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتِقَامَةٌ وَثَبَاتٌ عَلَيهِ حَتَّى المَمَاتِ.

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَقُوَّةِ النَّفْسِ، وَرَبَاطَةِ الجَأْشِ، وَالتَّأَسِّي بِأَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيهِمِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، الذِينَ ضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ وَأَصْدَقَهَا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الدِينِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِ اللهِ تَعَالَى، رُغْمَ مَا نَالَهُم مِنَ الأَذَى، وَمَا لَحِقَهُم مِنَ العَذَابِ وَالضَّرَرِ، مِمَّا سَطَّرَهُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى قُرْآنًا يُتْلَى إِلَى يَومِ القِيَامَةِ فِي صَبْرِ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَثَبَاتِهِم عَلَى دِينِ اللهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِهِ.

وَإِنَّ عَلَى المُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الثَّبَاتِ سِيَّمَا فِي هِذَا العَصْرِ؛ عَصْرِ التَّحَدِّيَاتِ وَالفِتَنِ وَالمُغْرِيَاتِ، فَبِالثَّبَاتِ يَعِيشُ المُسْلِمُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ ثَابِتَ الأَرْكَانِ، عَظِيمَ القِيَمِ، مُحَقِّقًا أَسْمَى غَايَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلاَقِ الثَّابِتِينَ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الصَّبْرُ، فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى التَّحَصُّنِ بِالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّهُ يَجْلُو العَمَى، وَيُبَدِّدُ الشُّبُهَاتِ، وَيَقُودُ صَاحِبَهُ إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ الذِي لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلاَ الْتِبَاسَ، وَأَنْ يَتَأَسَّى بِمَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ مَعَ شِدَّةِ العَذَابِ الذِي لَحِقَهُمُ.

حَدَّثَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا كَانَتْ اللَّيلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ وَأَولاَدِهَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَينَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَونَ ذَاتَ يَومٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى -يَعْنِي المِشْطُ- مِنْ يَدَيهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَونَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ.

فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلاَنَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيرِي؟! قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَولاَدُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَينَا مِنْ الْحَقِّ.

قَالَ: فَأَمَرَ بِأَولاَدِهَا فَأُلْقُوا بَينَ يَدَيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ؛ فَاقْتَحَمَتْ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عَلَيهِ السَّلاَمُ-، وَصَاحِبُ جُرَيجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ. رواه أحمدُ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَعْظَمَ إِيمَانِ هَذِهِ المَرْأَةِ! وَمَا أَشَدَّ ثَبَاتِهَا! لَقَدْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي قَصْرِ المَلِكِ مُكَرَّمَةً مُعَزَّزَةً، فَأَخْرَجَهَا الإِيمَانُ، وَمَلَكَ عَلَيهَا أَمْرَهَا، وَفِي سَبِيلِ اللهِ يَسْتَرْوِحُ المُؤْمِنُونَ العَذَابَ، وَيُوَاجِهُوَن الطُّغَاةَ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَلْطُفُ بِهِم، وَيُثَبِّتُهُم عَلَى الحَقِّ بِالكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ العَادَاتِ، وَيُكْرِمُهُم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].

وَلَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَينِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَو عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ" رواه البخاريُّ.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

 

 

 

 

المرفقات

على دين الله تعالى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات