الثبات على الدين

عبدالله بن عمر السحيباني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ صعوبة الثبات على الدين في زمن المغريات 2/ بعض أسباب الثبات على الدين

اقتباس

إذا كثرت الفتن وهبت رياحها زادت الحاجة إلى طلب الثبات، والنظر في أسبابه. ولعلي أقف معكم على أهم الأسباب المثبتة للمؤمن على دين الله، فأول أسباب الثبات على الدين: أن يعلم المؤمن حاجته لذلك، وأن يشعر أن موضوع الثبات مرتبط بالقلب، تلك المضغة الخطيرة التي...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إن كل مسلم صادق يطلب رضا الله وجنته يهمه أمر الثبات على دين الله، ويخاف من الزيغ والضلال عن طريق الله القويم وصراطه المستقيم، ويزداد الخوف من الزيغ والضلال في وقت ضعف الدين والتدين وانتشار الفتن والمغريات، من الشبهات والشهوات.

 

وقد صوّر لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صعوبة الثبات على الدين في زمن الفتن بقوله؛ كما في المسند والسنن بسند صحيح: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ".

 

أيها الإخوة المؤمنون: إذا كثرت الفتن وهبت رياحها زادت الحاجة إلى طلب الثبات، والنظر في أسبابه.

 

ولعلي أقف معكم على أهم الأسباب المثبتة للمؤمن على دين الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجعل ذلك حجة لنا لا علينا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.

 

فأول أسباب الثبات على الدين: أن يعلم المؤمن حاجته لذلك وأن يشعر أن موضوع الثبات مرتبط بالقلب، تلك المضغة الخطيرة التي تتقلب على صاحبها، جاء في الحديث الحسن: "لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا"، وفي حديث آخر صححه بعضهم: "مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ".

 

وما سمي الإنسان إلا لنسيه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب

 

إن الشعور بخطورة الزيغ والنكوص عن دين الله هو الباعث على طلب الثبات، وطلب الثبات يكون من الله -سبحانه-، فلا ثبات ولا هداية ولا توفيق من غير سببه جلّ في علاه، ألم يقل سبحانه لخير خلقه وأكرمهم عليه: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً)[الإسراء: 74]؟ لذلك قال صلوات وسلامه عليه: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ"(أخرجه مسلم).

 

وكان صلوات ربي وسلامه عليه يكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فلما قيل له في ذلك قال: "إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ"، ولهذا كان من أدعية القرآن التي يدعو بها الصالحون: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا".

 

ومن أسباب الثبات: الإيمان الصادق: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم: 27]، وفي صحيح البخاري في قصة هرقل مع أبي سفيان، لما قال هرقل: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" قال أبو سفيان: "لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب".

 

ومن أسباب الثبات: المحافظة على العمل الصالح ولو قلّ، ففي الحديث المتفق عليه: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه، فالمثابرة والمداومة على الصالحات سبب للثبات، وقد وعد الله -سبحانه- بذلك، فقال (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء: 66].

 

ومن أسباب الثبات: النظر في القرآن الكريم وتلاوته والإقبال عليه تعلماً وعملاً، فالقرآن هو حبل الله المتين، الذي من تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم، وقد نص الله على ذلك، فقال: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)[الفرقان: 32]، وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 102].

 

ومن أسباب الثبات: كثرة ذكر الله -تعالى-، وهذا أمر مشاهد محسوس، فالمكثر للذكر في الصباح والمساء وفي كل وقت مطمئن القلب: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].

 

وقد جعل الله كثرة الذكر سبباً في صلاته على عباده وإخراجهم من الظلمات إلى النور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب: 41 - 43].

 

وفي خصوص الثبات في الجهاد يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)[الأنفال: 45].

 

ومن أسباب الثبات: نصر دين الله والانتصار له: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7]، نصر دين الله -سبحانه- يكون بالدعوة إليه ومحبة أهل الدين، والدفاع عنهم، وبغض ما عليه الكفار والمنافقين والعصاة.

 

نصر دين الله بالبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر والخير والتعليم ونشر الدعوة.

 

ومن أسباب الثبات: النظر في حقيقة الدنيا وتأمل قرب الأجل، وتذكر نعيم الجنة، وقد كان صلى الله وسلم يثبت أصحابه بتذكيرهم بالجنة، ويقول: "صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ".

 

ومن أسباب الثبات: النظر في سير الصالحين من الأنبياء ومن بعدهم، نظراً وتدبراً، يقود للتأثر والتأسي والقدوة: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120].

 

 

الخطبة الثانية:

 

ومن أسباب الثبات: ترك المعاصي والذنوب، صغيرها وكبيرها، جاء في الحديث الصحيح: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ".

 

ومن أسباب الثبات: لزوم مجالس الخير والبعد عن مجالس السوء، فإن مجالس السوء تورد الشهوات والشبهات وتنشب أظفارها في القلوب حتى الهلاك.

 

وحتى تعلموا -أيها الإخوة- قوة تأثير البيئة المحيطة والأصحاب على فكر الإنسان وعمل الإنسان، تأملوا ما جاء في الصحيحين في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه سأل عن رجل عالم فقال له: "من يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء".

 

ومن أسباب الثبات: ترك الظلم، فالظالمون للناس المتسلطون على حقوقهم الواقعون في أعراضهم معرضون للزيغ والضلال: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)[إبراهيم: 27].

 

المرفقات

الثبات على الدين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات