عناصر الخطبة
1/اشتداد الضرورة إلى ما يُوصِل العبادَ إلى الهمم العالية 2/التوكل على الله من أسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة 3/صفات المتوكل على اللهاقتباس
مَنْ حقَّق التقوى وصدَق في التوكل على المولى فقد تحصَّل على أعظم المطالب وأجلّ المآرب، فمَن فوَّض أمورَه إلى ربه، وتوكَّل على خالقه موحِّدًا له مُنِيبًا إليه، أوَّاها تائبا ممتثِلا طائعا، جعل له مِنْ كل هَمٍّ فَرَجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي مَنِ اتقاه وقاه، ومن توكَّل عليه كفاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله -جل وعلا-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
عباد الله: في مثل هذا الزمن الذي تكاثرت تحدياتُه وعظمت مخاطره، مخاطرُ للأنفس، مخاوفُ على الذرية، صعوبات في تحصيل الأرزاق، إلى ما لا ينتهي من المخاوف التي تمر بالإنسان في هذا العصر؛ مما لا يُحصى، ولا على الناس يخفى، هنا تعظم الحاجة وتشتد الضرورة إلى معرفة ما يُوصِل العبادَ إلى الهمم العالية والعزائم القوية؛ ليتحصلوا بذلك على المصالح المرجوة والمنافع المبتغاة.
إن الإنسان متى كان على قوة بصيرة وكمال يقين بوعد الله -جل وعلا- فحينئذ لا يلتفتُ إلى ما يخوفه، متى عمل الأسبابَ وتوكَّل على مُسَبِّب الأسباب، بل إنه بذلك يفوز بمقاصده ويظفر بكل مطالبه.
إن العبد متى فوَّض أمرَه إلى الله -جل وعلا- وقطَع قلبَه عن العلائق بالخلق وقام بما شرعه الله -جل وعلا- له من الأسباب الحسية والشرعية صار ذا همة عالية، قد وطَّن نفسَه على ركوب المصاعب، وهانت عليه الشدائد؛ لأنه على يقين جازم بوعد الله -جل وعلا- له بقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطَّلَاقِ: 3-4].
قال أحد السلف: "لو أن رجلا توكَّل على الله -جل وعلا- بصدق النية لاحتاج إليه الأمراءُ فمن دونهم، وكيف يحتاج ومولاه الغني الحميد؟".
إن المتوكل على الله، المفوِّض إليه -سبحانه- أمورَه كلَّها يرى الدنيا والآخرة مِلْكًا لله -عز وجل-، والخلقَ عبيدًا لله، والأرزاقَ والأسبابَ كلَّها بيد الله، ويرى قضاء الله نافذًا في جميع خلقه؛ ولهذا أمر الله -سبحانه وتعالى- عبادَه بالتوكل عليه فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ)[الْفُرْقَانِ: 58]، (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الْمَائِدَةِ: 23]، ومن لم يبالِ بهذه الأوامر وأمثالها في القرآن وقع في المصائب والشدائد، ولم يظفر بمطلوب ويسلم من مرهوب.
التوكل مصطلح ذو معنى عظيم ومغزى جليل؛ فالمتوكل على الله -تبارك وتعالى- هو الذي يتخذه -سبحانه- بمنزلة الوكيل القائم بأمره، الضامن لمصالحه، الكافي له من غير تكلف ولا اهتمام.
المتوكل على الله واثق بأنه لا يفوته ما قسم له؛ فإن حكمه -عز شأنه- لا يتبدل ولا يتغير، يقول سبحانه: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)[الذَّارِيَاتِ: 23].
ومن معاني هذه الآية في التفسير: "أنه -سبحانه- لم يكتفِ بِذِكْر ضمان رزق المخلوق، بل أقسم على تحقيق ذلك"، قال الحسن: "لعن اللهُ أقواما أقسم لهم ربُّهم فلم يصدقوه"، وَرُوِيَ أن الملائكة قالت عند نزول هذه الآية: "هلكت بنو آدم؛ أغضبوا الربَّ حتى أقسم لهم على أرزاقهم".
قال صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتُم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطيرَ، تغدو خماصًا وتروح بطانًا" (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وإسناده صحيح).
المتوكل على الله -جل وعلا- صادق الاعتماد عليه في إسناد تسهيل الأمور واستجلاب المصالح ودفع المضارّ، واثق بموعود الله، مستيقِن بأنه -بتفويض أموره إلى الله جل وعلا- يحصل له المقصودُ، ويندفع عنه المرهوب.
المتوكل على الله يفوِّض أمرَه إليه -سبحانه-؛ ثقةً به، وحُسْنَ ظنّ به -جل وعلا-، فالمخلوق المتوكل يقطع علاقتَه بغير الله، يقطع النظرَ عن الأسباب بعد تهيئتها والقيام بها وفقَ المشروع، متبرئًا من الحول والقوة إلا بالله العلي العظيم، لتفرده -سبحانه- بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[الْإِنْسَانِ: 30].
التوكل على الله اعتماد عليه -سبحانه- في كل الأمور، والأسباب إنما هي وسائط من غير اعتماد عليها، فالعبد يراعي الأسباب الظاهرة لكن لا يعوِّل بقلبه عليها، بل يعوِّل على الخالق المدبر مع الاستسلام لجريان قضائه وقدره ومشيئته، (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].
عباد الله: مَنْ حقَّق التقوى وصدَق في التوكل على المولى فقد تحصل على أعظم المطالب وأجلّ المآرب، فمَن فوَّض أمورَه إلى ربه، وتوكَّل على خالقه موحِّدًا له مُنِيبًا إليه، أوَّاها تائبا ممتثِلا طائعا، جعل له مِنْ كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، ونال الخيرات المتكاثرة، ووقاه اللهُ كلَّ ضر وشر، وكان مآله الفلاح والظفر، والنصر المؤزر.
يقول جل وعلا عن العبد الصالح: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)[غَافِرٍ: 45]، ويقول سبحانه عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آلِ عِمْرَانَ: 174].
عن ابن عباس -رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيمُ حين أُلقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ...) الآيةَ [آلِ عِمْرَانَ: 173]" (رواه البخاري).
ويقول صلى الله عليه وسلم: "من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وتنحَّى عنه الشيطانُ" (رواه أبو داود، والترمذي والنسائي، بإسناد صحيح).
بارك الله لنا فيما سمعنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: أيها المسلمُ: فوِّض أمرَك إلى الله، واصدُق في الاعتماد عليه، واعمل بما شُرِعَ لك من الأسباب، وَثِقْ أن الذي يدبِّر الأمرَ من السماء إلى الأرض العالِم بالسرائر والضمائر، المحيط بالأمور من جميع الوجوه، القادر القدرةَ التامةَ، ذو المشيئة الكاملة يحيطك بلطيف علمه، وحُسْن تدبيره، بما لا يبلغه علمُ مخلوقٍ ولا يدركه فهمُ حادثٍ، فَاشْتَغِلْ بشأنكَ، وتفرَّغ لعبادة ربكَ، وتيقَّن أن مَنْ توكَّل عليه كفاه، وكان آمنًا من الأخطار، مطمئنَّ البالِ منشرحَ الصدرِ، راضيًا بالنتائج المترتبة على ما بذل من جهد وعمل.
إن مَنْ كان ليس يدري *** أفي المحبوب نفع له أو المكروه
لَحَرِيٌّ بأن يفوِّض ما يعجز *** عنه إلى الذي يكفيه
الإلهِ البَرِّ الذي هو *** بالرأفة أحنى من أمه وأبيه
ثم إن الله -جل وعلا- أمرنا بالصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، وعن الآل أجمعين، وعن الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، اللهم اجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين، اللهم من أرادنا أو أراد أحدا من المسلمين بسوء أو أوراد ديننا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين، اللهم سلط عليه جندك، اللهم سلط عليه جندك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انتقم ممن أراد بالمسلمين سوءا، اللهم انتقم ممن أراد بالمسلمين ودينهم سوءا ومكروها. يا رب العالمين يا حي يا قيوم.
اللهم فرِّج همنا وهم كل مهوم من المسلمين، اللهم نفِّس كربات المسلمين، اللهم نفِّس كربات المسلمين، اللهم احفظ عليهم أمنَهم وأمانَهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ عليهم أمنهم وأمانهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنزل عليهم مخرجا، اللهم اجعل لهم من كل ضيق مخرجا، اللهم اجعل لهم من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، اللهم ارزقهم من حيث لا يحتسبون، اللهم ارزقنا وارزقهم من حيث لا يحتسبون.
اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، اللهم اجعل عملهما في رضاك يا حي يا قيوم، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما فيه خير رعاياهم في دينهم ودنياهم يا حي يا قيوم، اللهم اغفر لنا وللمسلمين والمسلمات، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، اللهم يا حي يا قيوم، اللهم من مكر بالمسلمين فامكر به، اللهم واجعل عليه دائرة السوء يا حي يا قيوم، اللهم واجعل حال المسلمين خير حال، في حالهم ومستقبلهم، يا حي يا قيوم، اللهم احفظ أجيال المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، يا حي يا قيوم.
عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبِّحوه بكرة وأصيلا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم