التواضع

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ كل متكبر تلميذ لإبليس 2/ شناعة الكبر وعقابه 3/ معنى الكبر 4/ التواضع صفة المؤمنين المخبتين 5/ أعظم صور الكبر التكبر على الله 6/الطريق إلى التواضع صفات المتكبرين 7/ من آثار سلفنا في التواضع

اقتباس

إن المتواضعين بهذا المقياس قليل، بل أقل من القليل، والله المستعان، فمن منا يقبل الحق من الصبي، أو من الجاهل، أو من الفقير، قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله مفصِّلاً أمر التواضع: "رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من المجلس، وأن تبدأ من لقيته بالسلام، وأن تكره ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد:

 

فيا أيها المؤمنون: اتقوا ربكم، واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الموت مصير كل حي، وأن الدار الآخرة هي دار القرار: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].

 

أيها المسلمون: إن الإنسان إذا كسب شيئًا من حطام الدنيا الفانية، فزاده ذلك مرتبة عند الخلق، تشرئب نفسه إلى التعالي على الناس، وتسوّل له أنه خير منهم، وأعلى درجة منهم، فتتصف نفسه بداء الكبر، الذي هو أصل مادة الشرك والكفر، فهو داء إبليس اللعين، عندما أمر بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

 

فكل متكبر تلميذ لإبليس، يقوده إلى مهاوي الردى، بل إلى النار والعياذ بالله، ولذا نجد أن الكبر من أخلاق الكفار والفراعنة، والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين، فقد وصف سبحانه الكفار بقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات:35]، وقال سبحانه: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) [العنكبوت:39].

 

وقد أخبر -سبحانه- أنه لا يحب من اتصف بصفة الكبر، واصفًا نفسه الكريمة: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [النحل:23]، وجعل -سبحانه- النار مثوى للمتكبرين، فيقال لهم يوم القيامة: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:72]. وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:60].

 

ولشناعة هذا الداء، أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن القليل من هذا الداء يمنع دخول الجنة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".

 

فكم يا ترى في قلوبنا من مثاقيل الذر من الكبر؟!

 

معاشر المسلمين: لنحاسب أنفسنا؛ فكم من متكبر وهو بنفسه لا يشعر!! ولكي يتسنى لك -أخي المسلم- معرفة ما في قلبك من الكبر، لا بد من معرفة الكبر؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".

 

وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم.

 

فالكبر إذًا هو افتخارك على أخيك المسلم وبغيك عليه، وعدم قبول الحق منه، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، قال بعض السلف: "الكبر أن ترى نفسك أفضل من غيرك".

 

أيها المسلمون: إن التواضع هو صفة المؤمنين المخبتين لربهم، وعلى رأسهم أنبياؤه وأصفياؤه، والتواضع هو ضد الكبر، قال حمدون القصار -رحمه الله-: "التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة، لا في الدين ولا في الدنيا"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "التواضع أن يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله ولو كان صبيًا أو جاهلاً"، وقال آخرون: "هو خفض الجناح ولين الجانب".

 

أيها الناس: إن المتواضعين بهذا المقياس قليل، بل أقل من القليل، والله المستعان، فمن منا يقبل الحق من الصبي، أو من الجاهل، أو من الفقير، قال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله- مفصِّلاً أمر التواضع: "رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من المجلس، وأن تبدأ من لقيته بالسلام، وأن تكره المدحة والسمعة والرياء بالبر".

 

قال ابن الحاج -رحمه الله-: "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول، ألا ترى أن الماء لمّا نزل إلى أصل الشجرة صعد إلى أعلاها".

 

سبحان المتفرد بالكمال والكبرياء.

 

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "عجبت لمن يعجب بصورته، ويختال في مشيته، وينسى مبدأ أمره، إنما أوله لقمة، ضمت إليها جرعة ماء، طبخته الكبد، فأخرجت منه قطرات منيّ، فاستقر في الأنثيين فحركته الشهوة، فصبت في بطن الأم مدة، حتى تكاملت صورته فخرج طفلاً يتقلب في خرق البول، وآخره: يلقى في التراب فيأكله الدود، ويصير جيفة ورفاتًا".

 

قلت: وهو فيما بين ذلك يحمل في جوفه العذرة.

 

أيها المؤمنون: إن من صور الكبر -وهو شرها- أن تتكبر على مولاك، بهجرك لعبادته واستنكافك عنها، فكيف تتكبر على مولاك وهو خلقك ورزقك وسترك، وهيَّأ لك أسباب العبادة والسعادة، وصرف عنك كل مكروه.

 

ومن التكبُّر: التكبُّر على العباد، وذلك بأن يستعظم الإنسان نفسه ويزدري الناس أو بعضهم، وذلك إما لما رزقه الله من العلم أو الجاه، أو المنصب أو المال أو الجمال، أو نحو ذلك من حطام الدنيا.

 

عباد الله: من أراد التواضع فعليه أن يعرف قدر نفسه، قال أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "لا يتواضع العبد حتى يعرف نفسه"، وقال أبو يزيد -رحمه الله-: "ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر، فقيل له: فمتى يكون متواضعًا؟! قال: إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالاً، وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه -عز وجل- ومعرفته بنفسه".

 

واعلم -يا عبد الله- أن للمتكبرين صفات فاحذرها: منها جر الثياب وإسبالها، أخرج أبو داود وغيره من حديث جابر بن سليم -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة".

 

ومنها: أن يمشي الناس حوله وخلفه.

 

ومنها: أن لا يزور الناس أو بعضهم تكبرًا.

 

ومنها: أن يستنكف من جلوس العمال والخدم بجواره، حتى ولو في الصلاة، ولو اعتذر باتساخ ملابسهم، فالله أعلم بما في قلوب العباد، وأن يكره أن يأكلوا معه، والله المستعان.

 

ومنها: أن لا يتعاطى أعماله بيده، بل يأمر بها أمرًا.

 

ومنها: ذكر أمواله وقصوره وتجارته تكبرًا ومباهاة، وغيره كثير.

 

والناصح لنفسه هو من عرّفها قدرها، وألزمها طريق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إمام المتواضعين؛ وسيد الأولين والآخرين.

 

اللهم إنا نعوذ بك من الكبر والحسد، ومن سوء الأخلاق، إنك سميع الدعاء.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إن من نعمة الله -عز وجل- على الناس أن حفظ لهم سير سلفهم الصالح ليسيروا على نهجهم ويقتفوا أثرهم، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

 

ولعلنا نستعرض بعض آثار سلفنا في التواضع، لتلين القلوب، وتسير بسيرهم: فها هو المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، وكان يركب الحمار، ويجيب الدعوة ولو كانت على يسير من الطعام.

 

أخرج الإمام أحمد من حديث أنس "أن يهوديًّا دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خبز شعير، وإهالة سنخة، فأجاب". والإهالة السنخة هي الشحم المتغير الرائحة والطعم.

 

وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجلس مع المساكين، وكان من دعوته: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين".

 

وها هو أبو بكر الصديق الخليفة الأول -رضي الله عنه- يسقط الخطام من يده، فينيخ الناقة ويأخذه، فيقال له: لو أمرتنا نناولكه!! فيقول: "إن حبي -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا".

 

وها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمير المؤمنين، قال عروة بن الزبير: "رأيت عمر بن الخطاب وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين: لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها"، وقال أنس بن مالك: "كان بين كتفي عمر أربع رقاع، وإزاره مرقوع بأدم".

 

وخطب -رضي الله عنه- على المنبر وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.

 

وها هو عثمان بن عفان أمير المؤمنين، يقول الهمداني: "رأيت عثمان بن عفان رادفًا غلامه على بغلة وهو خليفة".

 

وليعلم المسلم أن حسن المظهر واللباس جائز شرعًا وليس من الكبر، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"؛ فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة!! قال: "إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس".

 

إلا أن المبالغة في الملبس تؤدي إلى الكبر، خصوصًا إذا كانت الملابس والمراكب والمآكل الشغل الشاغل للمسلم، أخرج أبو داود من حديث أبي أمامة بن ثعلبة قال: ذكر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا عنده الدنيا، فقال: "ألا تسمعون!! ألا تسمعون!! إن البذاذة من الإيمان"، قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن البذاذة فقال: "التواضع في اللباس".

 

ولقد كان سلف الأمة لا تغيرهم المناصب ولا دنيا، ولا يحتقرون أحدًا صغر عنهم أو كبر، قال بكر بن عبد الله المزني: "إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني بالإيمان، والعمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك، فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيرًا فقل: هذا ذنب أحدثته".

 

أيها المؤمنون: من أراد التواضع، فليحتقر نفسه في جنب الله، وليذكر هفواته وخلواته، قال مالك بن دينار: "لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رجلاً، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي"، فلما بلغ ابن المبارك قوله قال: "بهذا صار مالك مالكًا".

 

قال علي بن ثابت: "ما رأيت سفيان الثوري في صدر المجلس قط، إنما كان يقعد إلى جانب الحائط ويستند إلى الحائط، ويجمع بين ركبتيه".

 

أيها المسلمون: إذا ذكر التواضع، ذكر مع ابن حنبل، وقد قيل يومًا: ما أكثر الداعين لك؟! فتغرغرت عينه وقال: "أخاف أن يكون استدراجًا".

 

ولما قيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، قال: "ومن أنا حتى يجزيني الله عن الإسلام خيرًا؟! بل جزى الله الإسلام عني خيرًا". وكان يكثر أن يقول: "أسأل الله أن يجعلنا خيرًا مما يظنون، ويغفر لنا ما لا يعلمون".

 

قال سفيان الثوري: "إذا عرفت نفسك لم يضرك ما قال الناس"، وقال ابن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه"، وكان رحمه الله يقول: "نحن قوم مساكين".

 

وقال إسماعيل بن إسحاق: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل أول ما لقيته: يا أبا عبد الله: ائذن لي أن أقبل رأسك، فقال: "لم أبلغ أنا ذاك".

 

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته"، وقال: "انتعش رفعك الله، وإذا تكبر وعدا طوره وضعه الله على الأرض"، وقال: "اخسأ خسأك الله، فهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس حقير".

 

أيها المؤمنون: لنجعل أمام أعيننا دائمًا حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه".

 

اللهم اجعلنا من المتواضعين الهينين اللينين، اللهم استر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، وتوفنا مع الأبرار.

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات