عناصر الخطبة
1/ (وما تدري نفس بأي أرض تموت) 2/ إتيان الموت بغتةً 3/ استعاذة النبي من موت الفجأة وموت الفوت 4/ الاستعداد ليوم الرحيل 5/ الاهتمام بالوصية وعدم إخفاء حقوق الورثة وغيرهم 6/ حرص السلف الصالح على القيام بالحقوق والواجباتاقتباس
ولهذا؛ من البلاء ومن الفتنة أن يلهو الإنسان عن الموت وعن الاستعداد له، فيقصّر في الواجبات، ويقع في السيئات، ويأخذ حقوق إخوانه بغير حق، بل بالظلم والبهتان، ويتعدى على الغير في مال أو عرض أو نفس، بل وتراه في أكمل أحواله صحة ونشاطاً وعافية ومالاً، فلا يلبث أن يأتيه الموت فجأة فلا يتمكن من تدارك نفسه، ومن التوبة إلى الله، والتحلل من المظالم، فيلاقي ربه وهو محمل بهذه الأوزار وهذه المظالم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الولي الحميد، الفعال لما يريد، أحمده -سبحانه- خضعت له الرقاب، وذلت له العبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نديد ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، سيد الرسل وخلاصة العبيد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه، واعلموا أنكم إليه راجعون.
عباد الله: كل نفس لا تدري متى تفجؤها المنية، وبأي مكان تردها المنية، فعلم ذلك إلى الله علام الغيوب، قال -جل ذكره-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34]، وهذه مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "خمسٌ لا يعلمهنّ إلا الله"، ثم تلا هذه الآية.
ومن هذه الخمس التي لا يعلمها إلا الله أن كل نفس لا تدري بأي أرض تموت، هل تموت في بلدها أو في غيره من بلاد الدنيا؟ هل تموت في بحر أو في بر أو في سهل أو في جبل؟ لا تدري! علم ذلك إلى الله.
ولهذا أخرج الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده، والترمذي -رحمه الله- في سننه وقال: حديث صحيح، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها -أو قال بها- حاجة"، وفي لفظ آخر عند ابن أبي حاتم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها".
عباد الله:
فكل من ظن أن الموت يخطئه *** معلــَّـل بأعاليـلٍ من الحــــمــقِ
والموت قد يأتي ابنَ آدم بغتة من حيث لا يشعر أو يظن أنه لا يأتيه، وقد استعاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من موت الفجأة والبغتة، روى الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعاذ من سبع موتات: "موت الفجأة، ومن لدغ الحية، ومن السبع، ومن الحرق، ومن الغرق، ومن أن يخر عليه شيء، ومن القتل عند فرار الزحف". ولأحمد -أيضاً- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بجدار مائل، فأسرع وقال: "أكره موت الفوت".
وذكر -عليه الصلاة والسلام- أن موت الفجأة راحة للمؤمن، وأخذة أسف للفاجر، فقال لما سئل عن موت الفجأة: "راحة للمؤمن، وأخذة أسف لفاجر".
نعم -عباد الله-! لا يدري الإنسان متي يفجؤه الأجل، ولا أشد وأعظم على الميت وعلى أهله من إتيان الموت له فجأة وهو في كامل صحته، وعنفوان قوته، وتمام نشاطه، ووفور النعيم والعيش الرغيد له، لم يحتسب هو للموت حسابه، ولم يظن أهله أن ينزل عليه الموت في هذه الحال، فإذا هم به قد سقط ميتاً لا حراك به.
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
ولهذا؛ من البلاء ومن الفتنة أن يلهو الإنسان عن الموت وعن الاستعداد له، فيقصّر في الواجبات، ويقع في السيئات، ويأخذ حقوق إخوانه بغير حق، بل بالظلم والبهتان، ويتعدى على الغير في مال أو عرض أو نفس، بل وتراه في أكمل أحواله صحة ونشاطاً وعافية ومالاً، فلا يلبث أن يأتيه الموت فجأة فلا يتمكن من تدارك نفسه، ومن التوبة إلى الله، والتحلل من المظالم، فيلاقي ربه وهو محمل بهذه الأوزار وهذه المظالم.
إذاً؛ لنكن -عباد الله- على حذر من هذا، ولنتدارك النفس قبل فوات الأوان، وإن كثيراً من الناس في هذا الزمان قد استولى حب الدنيا، والبقاء فيها على نفوسهم، ولم يفكروا في أن الموت يأتي العبد فجأة من حيث لا يدري، فقصروا في كثير من الواجبات، ووقعوا في كثير من المخالفات.
وإنني هنا -عباد الله- سأتعرض لأمرين هامين، بعض الناس أو أكثرهم في غفلة منهما، لا سيما أهل الأموال.
الأمر الأول: أنهم لا يكتبون وصاياهم، ولا يخصصون من أموالهم شيئاً يوضع لهم في عمل بر وخير يجري عليهم نفعه بعد موتهم، بل قد تكون الوصية عليهم واجبة، كما لو كان عليهم ديون لإخوانهم وليس بينهم فيها توثقة بكتابة أو شهادة، فيموت وهو لم يوص بذلك، فيقع الغرماء في حرج مع الورثة، ويقع الورثة في حرج مع الغرماء، فقد تضيع ديونهم وتذهب.
ولا شك أن هذا تفريط من الميت ومن الغرماء، إذ لا بد من الكتابة حتى لا تضيع الحقوق التي للناس وعليهم؛ ولهذا حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الوصية فقال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده".
وقد امتثل ابن عمر -رضي الله عنهما- قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وواظب عليه، فقال -رضي الله عنه-: "ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك إلا وعندي وصيتي".
والأمر الثاني: إن بعض الناس يكون لديهم أموال محفوظة، إما عند الناس أو في بعض البنوك، وعنده عقارات في أماكن متعددة لا يعلم أهله عنها شيئاً، وقد أخفاها حتى عن أقرب الناس إليه، ولده أو زوجه، فقد يفجؤه الأجل فلا يتمكن ورثته من الحصول على هذه الأموال وهذه العقارات إلا بمشقة وتعب، وبعد مضي شهور أو سنين، بل ربما لا يحصلون عليها أبداً ليعيشوا فقراء وعالة على الناس، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- لسعد بن أبي وقاص: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وهذا الرجل بفعله هذا في إخفاء أمواله عن عياله يؤدي بورثته في بعض الأحيان أن يكونوا عالة يتكففون الناس؛ لأنهم لا يعلمون عن أمواله شيئاً، بل إنه قد يدخل الشيطان بينهم فيتهم بعضهم بعضاً في إخفاء الأموال والعقارات والاستيلاء عليها، فيقطع الشقاق بين الورثة، بل بين الأولاد أنفسهم، وتحل الضغينة والحقد في القلوب، وهذا مراد الشيطان ورغبته.
فينبغي لصاحب المال أن يختار رجلا ثقة سواء من ورثته أو من غير ورثته، فيخبره بما له من الأموال والعقارات حتى لا تضيع على الورثة، وهذا من التأهب للموت؛ لأنه، كما قال ابن حجر -رحمه الله-: "لا يدري الإنسان متى يفجؤه الموت؛ لأنه ما من سن يفرض إلا وقد مات فيه جمع جم، وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهباً لذلك فيكتب وصيته ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر، ويحبط عنه الوزر، من حقوق الله وحقوق عباده".
فعلى المسلم أن يكون محاسبا لنفسه متأهباً للموت، حريصا على الحقوق التي له والتي عليه، جاداً في إيصال الحقوق إلى أهلها والتحلل منهم، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".
عباد الله: كان السلف الصالح حريصين على أداء الحقوق لأهلها، والقيام بالواجبات التي عليهم وكلفوا بها، ومع ذلك كانوا في خوف شديد من الآخرة لا يدرون ماذا يفعل بهم.
ثبت عن الإمام الشافعي -رحمه الله-، وهو من هو، أن المزني -رحمه الله- دخل عليه في مرضه الذي مات فيه، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، وما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنئها أو إلى نار فأعزيها.
ثم بكي وانشأ يقول:
ولما قســا قلـبي وضـاقت مذاهـــبي *** جعلتُ رجائي دون عفوك سُلّما
تعاظمَـني ذنبي فلما قرنتــُه *** بعفوك ربي كان عفوك أعظــما
فما زلت ذا عفو من الذنب لم تزل *** تجـــــــود وتعـفــو مِـنـةً وتكــرّما
فإن تنتقم منـــي فلسـت بآيــس *** ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما
هكذا كان السلف -رحمهم الله- يقومون بما عليهم دنيا وديناً، ومع ذلك يخافون، فلنكن مثلهم؛ نحشر في زمرتهم بإذن الله -عز وجل-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم