عناصر الخطبة
1/فضل مخالطة الناس والصبر على أذاهم 2/الإنسان مجبول على التقصير والخطأ 3/قواعد قرآنية في التعامل مع أخطاء الناس 4/فوائد التماس الأعذار 5/خطر تتبع الزلات والهفوات 6/بعض الوسائل المعينة على التماس الأعذار 7/نماذج رائعة في التعامل مع أخطاء الناساقتباس
عباد الله: إن من مقتضى مخالطة الناس أن ينال الإنسان من الأذى، وما يكره من المعاملة، ما يستوجب صبرا وتحملا، وذلك الصبر، وذلك التحمل لما يكون من أخطاء الناس في معاملاتهم، مما ترتفع به الدرجات، وتحط به السيئات، لذلك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: إن من مقتضى مخالطة الناس أن ينال الإنسان من الأذى، وما يكره من المعاملة، ما يستوجب صبرا وتحملا، وذلك الصبر، وذلك التحمل لما يكون من أخطاء الناس في معاملاتهم، مما ترتفع به الدرجات، وتحط به السيئات، لذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: "المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خيرا من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم".
وقد جبل الإنسان على أنواع وألوان من القصور، وصنوف من التقصير، لا يخلو منها بشر كائن من كان، إلا من عصمه الله من الأنبياء والرسل، ومن يسر الله له اليسرى في الأخلاق والمعاملة، وإلا فغالب حال الناس على أنواع من التقصير والقصور، ما يدخل في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
والخطأ هنا ليس في معاملة الرب -جل في علاه-، بل حتى في معاملة الخلق، فالخطأ وصف ملازم للإنسان، لا ينفك عنه، ولذلك كان أصل محاسن الأخلاق، والقاعدة الكبرى التي يتحقق للإنسان بها حسن الخلق، ما ذكره الله في محكم كتابه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
وهنا توجيه إلهي إلى ثلاث خصال، هن قواعد محاسن الأخلاق:
(خُذِ الْعَفْوَ) فلا تكلف الناس أكثر مما يطيقون.
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي في كل معروف تحسن به حالك، وحال الناس مما أمر الله -تعالى- به، أو دلت المصلحة على حسنه وطلبه.
الثالث: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أي لا تلتفت إلى إسائتهم، ولا تبتئس بما يكون منهم، فإن الاشتغال بهم يعيقك عن المسير، فإذا كان هذا وصف الإنسان هل من العقل؟ هل من الحكمة؟ هل من الرشد أن نصطنع أخطاء للنا؟
الناس فيهم ما يكفيهم من قصور وتقصير، فليس رشدا ولا عقلا ولا هدى أن تتطلب النقص الذي لم يبدو ولم يظهر.
ولهذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "أعقل الناس أعذرهم لهم".
وذلك أن عُذر الناس، هو صفح عما ما تسببه من تقصير أو إساءة، بل هو زاد على مجرد الصفح في طلب عذر لذلك القصور وذلك التقصير.
إن الاعتذار للناس، والتماس أسباب عدم مؤاخذتهم، من كمال العقل، ومن الرشد في الخلق، وهو من أكبر الشيم التي ينعم بها الإنسان، فإنه إذا ملء قلب الإنسان، بطلب الاعتذار عن إساءة المسيئين، والصفح عن خطأ المخطئين، كان من أنعم الناس قلبا، ومن أهداهم نفسا، ومن أشرحهم صدرا.
يقول شوقي -رحمه الله-:
رُزقت أكرم ما في الناس من خلق *** إذا رُزقت التماس العذر في الشيم
فالتماس العذر للناس في قصور أو تقصير هو من أعلى شيم الأخلاق، ومن أكبر محاسنها؛ لأنه يقتصر جملة منظومة من الأخلاق الفاضلة، فلا غل ولا حقد، ولا حسد ولا ضغينة، سيئة على الناس، ولا سوء ظن، بل العكس حسن ظن بالناس.
وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلا علينا في قضية وقعت في جنابه صلى الله عليه وسلم، وقضاياه في حسن الخلق كثيرة، منها ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالصدقة أن تأخذ وتجمع، فقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- منع -أي الصدقة- ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب" -أي لم يعطوا زكاة أموالهم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيرا فأغناه الله" وهذا توصيف وتشخيص بسبب الجميع أنه كان ناشء عن بخل رضي الله عنه: "وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدا، فإنه احتبس أدرعه وَأَعْتِدَهُ في سبيل الله" فليس عنده مال، كل ماله في سبيل الله، فعما يخرج؟ فالمال لا تجب فيه الزكاة إلا إذا كان مملوكا، وما كان مملوكا لله -وكلنا ملك لله- لا تجب فيه الزكاة، فالموقوف لا زكاة فيه، وقد أوقف كل ماله في سبيل الله.
وأما العباس، قيل في سبب ذلك: أن العباس قد زكاة سنتين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فهي علي ومثلها" أي أني قبضتها منه.
هذا الحديث: فيه إرشاد لما يشع من نقص، أو ما ظاهره القصور في تصرفات الناس وأعمالهم، وأنه ينبغي أن يسعى الإنسان جاهدا في طلب العذر للناس، وألا يآخذهم، لا سيما في مقام النقل والقول، لا في مقام الحكم والمطالبة، ينبغي ألا يآخذهم بالظنون، فأما إذا كان في مقام الحكم، فله شأن آخر، في مسألة التحقق والإثبات، لكن فيما يتعلق بما يشيع بين الناس من تصرفات، أو مواقف ينبغي أن تحمل على أحسن الظنون، وأن يسعى الإنسان إلى ملء قلبه بالعذر لإخوانه.
العجيب أن الناس يتطلبون الزلات في كثير من الأحيان، ويفرحون بالسقطات، وهذا سوء ظن، وعمل سيء، إذا تورط فيه الإنسان، فإنه من تطلب عورات المسلمين كشفه الله، وأوقعه في سيء أعماله، إلا تورط فيما هو مثله، أو أعظم منه.
لذلك ينبغي أن لا تفرح بخطأ المخطئ، ينبغي ألا تسر بما تسمعه من قصور أو تقصير، فإن ذلك خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، من سلامة الصدر، بل ينبغي أن تطلب له العذر، ومن أحسن ما يعينك على طلب العذر لإخوانك في مثل هذه المقامات: أن تُفعل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر".
ثم قال في ثاني خصلة يتحقق بها الزحزحة من النار إلى الجنة: "وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى" يعني عاملهم بما تحب أن يعاملوك به.
ما أحد منا إلا ويحب معاملة الإكرام والإحسان من الناس، فإذا كان كذلك، فابذل هذا للناس، واحتسب الأجر من رب الناس، فإنه لا يضيع: (عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) [آل عمران: 195].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، طهر قلوبنا من كل ما يغضبك علينا، يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده لا أحصى ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، اتقوا الله -تعالى-، فتقوى الله جالبة لكل بر، وصارفة لكل سوء، من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجره.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين.
أيها المؤمنون: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، كل فضيلة وخلق يعجبك تسمع عنه، أو تراه في غيرك، ثق تماما أنك قادر على أن تتخلق به، لكن الأمور تحتاج إلى تمرين، وإلى انتباه، وما من خصلة حسنة تراها في الناس إلا وتستطيع أن تتخلق بها، لذلك قال: "إنما العلم بالتعلم": (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل: 78].
حتى تفاوت الناس في المعارف والعلوم، وهذا التفاوت ناشئ عن جهود، لا أحد يدرك العلم براحة الجسد، ولا يدرك الغنى بكثرة النوم، ولا يدرك نجاحا في دنيا ولا في آخرة إلا ببذل، ومن ذلك محاسن الأخلاق، فإن محاسن الأخلاق تدرك بالتمرين والتعود، وإذا تخلق الإنسان بالخلق الحسن قد يخطأ في المرة الأولى، لكن ما دام أنه حريص على اكتساب هذه الخصلة، فيصل إلى مبتغاه، وسيدرك مطلوبه بالصبر والمصابرة، وإذا صدق العبد ربه، وفقه الله إلى ما يريد من الخير: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69].
إن القلب السليم النقي يحرص غاية الحرص على أن يكون سليما لإخوانه، فإن كل ظن سوء فيهم، وعلى خلافه ذات القلب الذي ملأ بالشكوك والأوهام، وأطلق للهواجس العنان، فإنه سيظن سوءً فيمن لا هو قريب من السوء، ولا هو من أهل السوء.
فلذلك ينبغي أن نطهر قلوبنا، وأن نحسن الظن بإخواننا، وأن نغالب أنفسنا، تسعة أعشار العافية في التغافل، كما قال الإمام أحمد.
والتغافل، هو أن تعرض عن الخطأ الظاهر، فكيف ونحن نطلب خطأ مشكوكا في تصرفات الناس وأعمالهم؟ فإذا قال كلمة ذهبت إلى ما هو أبعد من لفظها إلى ما يقصده وما يريده ولماذا قال؟ وماذا يريد؟ وما إلى ذلك من الظنون والأوهام.
استمع إلى هذا الخبر، فيما ذكر في سيرة الشافعي دخل عليه رجل وهو مريض -رحمه الله-، فقال له صاحبه: "قوى الله ضعفك" كلمة تكلم بها الرجل، فقال الشافعي ردا عليه: "قوي الله ضعفي لا مت" أي زاد الله في ضعفي، ومعنى: قوى الله ضعفك، أي زاده وزيادته تؤدي إلى الموت، قال الرجل: "والله ما أرادت إلا الخير" يعني خانتني العبارة، ولم أقصد من هذا إلا أن يرفع الله عنك ما نزل بك من ضعف، فماذا قال الإمام الشافعي: تلك القلوب الطاهرة المحسنة الظن بإخوانها، قال رحمه الله: "أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير!" يعني ما كان قصدك من ذلك إلا الخير.
هذه نماذج وأخلاق عالية قدم أولئك الذين صلحت قلوبهم، وزكت أنفسهم، وسمت حلقت في آفاق الفضائل، والخصال الطيبة؛ لأنهم يعاملون الله، ويرجون منه الثواب والعقبى، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم في الله" أي تصبر عليهم، وتطلب الأجر من الله لا من سواهم.
الناس في غالب أحوالهم إلا من رحم الله لا يحفظون الجميل، وقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6].
أي جحود، يجحد نعم الله عليه، فإذا كان هذا في معاملة أعظم المحسنين، في معاملة رب العالمين، فكيف بمعاملة الخلق؟!
يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: " لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً".
اللهم طهر قلوبنا، وزك أخلاقنا، أهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال، واصرف عنا سيئها، يا ذا الجلال والإكرام.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم