التسليمُ لأوامرِ الله تعالى

خالد بن علي الغامدي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ مظاهر التسليم لأمر الله تعالى في مناسك الحج وشعائره 2/ أهمية التسليم لأمر الله ودلالته على إيمانِ العبد 3/ أفضل النماذج في التسليم للأوامرِ الإلهيَّة 4/ التسليم لأوامر الله من أسباب سلامة القلب وطهارة النَّفس.

اقتباس

إن التسليمَ لله ولُزومَ غَرزِ النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- هو عُنوانُ الصدِّيقيَّة، وقاعِدةُ الولايةِ الربَّانيَّة، والاختِبارُ الحقيقيُّ لإيمانِ العبدِ وإسلامِه.. فمَن سلَّم عقلَه وقَلبَه وجوارِحَه لفاطِرِه ومولاه -سبحانه-، رضِيَ الله عنه وأرضاه، ورزقَه الحياةَ الطيبةَ، وعاشَ في حياتِه بنُورٍ مِن الله، على هَديِ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فسَلِمَ مِن الآفاتِ والشُّرورِ والأنكادِ والهُموم؛ لأنه سلَّمَ لمولاه فسلَّمَه الله وحفِظَه وسدَّده...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي تفضَّلَ على عبادِه بمواسِمِ الخيرات وترَّم، وأسبَغَ عليه نعمَهُ ظاهرةً وباطنةً وهو بهم أبَرُّ وأرحَم، لا مُنتهَى لإحسانِه، ولا مُحصِي لنَعمائِه، ولا حدَّ لعطائِه، ولا عَدَّ لآلائِه، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه، وأُثنِي عليه وأُمجِّدُه.

 

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له جعلَ الحجَّ آيةَ التوحيدِ في خِتام العام، وزِينةَ الليالي العشر والأيام المعدُودات العِظام، ومُلتقَى المُسلمين في أعظَم اجتماعٍ سنويٍّ ليَشهَدُوا المنافِعَ والإنعام، فله الحمدُ والكمالُ ذُو الجلال والإكرام.

 

وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفِيُّه وخليلُه خيرُ مَن صلَّى وصامَ وحجَّ ولبَّى أفخَمُ الأنبياء مكانةً وقَدرًا، وأجَلُّهم منزلةً وشرَفًا، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه النُّجوم الأزاهِر، أُولِي الفضائلِ والكرائِمِ والمآثِر، وعلى التابِعِين لهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عددَ ما خلقَ الله مِن الأوائِلِ والأواخِرِ.

 

أما بعد: فأُوصِيكُم ونفسِي -حُجَّاج بيتِ اللهِ- بتقوَى الله سِرًّا وإعلانًا، حِلًّا وتِرحالًا؛ فالمُتَّقُون هُم أولياءُ الله حقًّا وصِدقًا، الذين (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62].

 

حُجَّاج بيتِ الله: كَم لله عليكم مِن نعمٍ تَتْرَى، وآلاءٍ تتوالَى، فهو الذي حرَّك قُلوبَكم حبًّا وشَوقًا إلى الحجِّ والمشاعِرِ المُقدَّسة، وهو الذي يسَّر لكم الوُصولَ إلى هذه البلاد المُبارَكة، ثم وفَّقَكم وأعانَكم على أداءِ مناسِكِكم، والوقوفُ بهذه المشاعِرِ والشعائِرِ التي هي إرثٌ مِن إرثِ الخليلَين الكريمَين إبراهيم ومُحمدٍ -عليهما الصلاة والسلام-.

 

فاشكُرُوا الله -سبحانه- واحمَدُوه على نعمة الحجِّ وأداءِ المناسِكِ، في سابغةٍ مِن السلام والأمنِ والأمانِ واليُسر والراحةِ.

 

وإن مِن شُكرِ الله: شُكرَ مَن ساهمَ مُساهمةً فاعِلةً في نجاحِ موسِمِ الحجِّ لهذا العام، وكان له الفضلُ بعد الله في تيسيرِ مناسِكِ الحجِّ للحُجَّاج، والقِيامِ على خِدمتهم وراحتِهم، وأمنِهم وسلامتِهم، وعلى رأسِهم قِيادتُنا ووُلاةُ أمرِنا، ورِجالُ الأمنِ الأوفِياء، والمسؤولُون في كل القِطاعات. فشكرَ الله لهم، وكتبَ أجرَهم، وأثابَهم مِن عندِه أجرًا عظيمًا.

 

حُجَّاج بيتِ الله: إن مِن رحمةِ الله بعبادِه المُسلمين: أن جعلَ لهم في كل عامٍ مواسِمَ للطاعاتِ والخيراتِ، يتزوَّدُون مِنها، ويقِفُون فِيها وقفاتٍ مع النَّفسِ والعقلِ والقلبِ للمُحاسبةِ والتذكيرِ والإرشاد، وليُصحِّحُوا المسارَ، ويتدارَكُوا ما فاتَ وفرَطَ مِن حياتِهم، ويتبصَّرُوا طريقَ سَيرهم.

 

وحين تشتَدُّ الهاجِرة، وتلفَحُ الوُجوهَ سُمُومَ التبديلِ والتخذيلِ، وتتألَّمُ النُّفوسُ مِن سَطوَةِ المعاصِي والأهواءِ، وينتشِرُ غُبارُ الفتنِ والمِحَنِ، فيزكُمُ الأُنوفَ، وتتغيَّرُ القُلوب، وتنتَقِضُ عُرَى الأُخُوَّة والأُلفَة، ويقِفُ الشيطانُ مُنتَشِيًا بالتحريشِ بين المُسلمين بعد أن يئِسَ أن يعبُدَه المُصلُّون؛ فإن الملجَأَ والمهرَبَ إلى الله، وسُنَّةِ رسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-، والأًصول المَتِينة والكليَّات المُحكَمة.

 

وإن الرِّيَّ والرِّواءَ، والمرتَعَ الخَصبَ والصَّفاء يكونُ في حِمَى الوحيِ الإلهيِّ، وفُسطاط التسليمِ للكتابِ والسنَّة بفَهم الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم-.

 

ولا زالَ المُصلِحُون والمُقسِطُون مِن العُلماء العامِلين والحُكَّام العادلِين يثُوبُون إلى ذلك المأرزِ المَنيعِ، ويحتَمُون بذلك الحِمَى الرَّشِيد؛ مَعًا لتطايُرِ شَرَرِ الفُرقة والنِّزاع، والتنازُلِ عن ثوابِتِ الدين، وإضلالِ الأئمةِ المُضلِّين، واستِيلاءِ فتنِ الشُّبُهات والشَّهَوات على فِئامٍ مِن الأنام، مُعتقِدِين يقينًا أنه لن يُصلِحَ آخِرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها.

 

وإن أعظمَ ما صلُحَت عليه عُقولُ وقُلوبُ أولِ هذه الأمة هو التسليمُ لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعدمُ مُعارَضَة نُصوصِ الوحيِ بشُبهةٍ أو شَهوةٍ، ولن تثبُت قدَمُ الإسلام في القَلبِ إلا على قاعِدةِ التسليم.

 

نعم .. أيها المُسلمون: إنه منهجُ التسليم لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي تربَّى عليه الحُجَّاج طِيلةَ أيام حجِّهم، وفي كل المناسِكِ والمشاعِرِ والشعائِرِ، تسليمٌ مُطلَقٌ لله تعالى، في رِضًا وطُمأنينةٍ وسَكينةٍ وفرَحٍ، بلا اعتِراضٍ ولا ضجَر، ولا ملَلٍ ولا سأَم. وهذا مِن أعظَم مقاصِدِ تشريعِ الحجِّ وغاياتِه.

 

وقد ظهرَ هذا التسليمُ القلبيُّ والعمليُّ في مناسِكِ الحجِّ في مواطِن كثيرةٍ؛ مِن وُقوفٍ بعرفة، ومَبيتٍ بمُزدلِفة ومِنَى، وطوافٍ، وسعيٍ، ورميٍ، وحَلقٍ، ونَحرٍ، وإحرامٍ، وكلُّها تشهَدُ أن أعظَمَ آثار الحجِّ وثِمارِه التي تغمُرُ المُسلمَ أن يتحلَّى بعبوديَّة التسليمِ لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-، مُتذلِّلًا لربِّه، مُعترِفًا بعَجزِه وتقصيرِه، مُفتقِرًا إلى رحمةِ الله ورِضوانِه الذي بيدِه كلُّ شيء، وإليه تُرجَعُ الأُمورُ كلُّها.

 

أيها المُسلمون: إن التسليمَ لله ولُزومَ غَرزِ النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- هو عُنوانُ الصدِّيقيَّة، وقاعِدةُ الولايةِ الربَّانيَّة، والاختِبارُ الحقيقيُّ لإيمانِ العبدِ وإسلامِه، كما قال الله - عزَّ وجل -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، وقال -سبحانه-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].

 

فمَن سلَّم عقلَه وقَلبَه وجوارِحَه لفاطِرِه ومولاه -سبحانه-، رضِيَ الله عنه وأرضاه، ورزقَه الحياةَ الطيبةَ، وعاشَ في حياتِه بنُورٍ مِن الله، على هَديِ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فسَلِمَ مِن الآفاتِ والشُّرورِ والأنكادِ والهُموم؛ لأنه سلَّمَ لمولاه فسلَّمَه الله وحفِظَه وسدَّده، (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [لقمان: 22].

 

وليس هناك أحدٌ خيرًا وأفضلَ ممَّن سلَّم لله وأسلَمَ له، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [النساء: 125].

 

واقتِرانُ ذِكرِ نبيِّ الله إبراهيم -عليه السلام- هنا مع إسلامِ الوَجهِ لله دليلٌ على أن هذه هي المِلَّة التي يرضَاها الله ويُحبُّها، وأن خليلَ الله إبراهيم هو أعظمُ الأنبِياء بعد نبيِّنا مُحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، الذين حقَّقُوا التسليمَ والاستِسلامَ لله، فاقتَرَنَ أعظمُ مطلُوبٍ بأعظَمِ نبيٍّ بعد نبيِّنا مُحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، كما شهِدَ الله له بذلك في قَولِه: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: 83، 84].

 

والتسليمُ لله كان شِعارَ أبِي الأنبياء إبراهيم، (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131].

 

وابتَلاهُ الله بكلماتٍ فأتمَّهنَّ، فجعلَه الله إمامًا للناسِ، وأمَّةً قانِتًا لله حَنِيفًا، أمرَه ربُّه بالصَّدعِ بدَعوةِ التوحيدِ، فسلَّمَ أمرَه لله، وجهَرَ بالتوحيدِ ودعَا إليه أمامَ الملأ، وحاورَهم وجادلَهم، ثم أمرَه ربُّه بأن يحمِلَ ولدَه إسماعيلَ وأمَّهُ هاجَرَ - عليهما السلام - ليضعهما هنا في مكة، في وادٍ غير ذي زرعٍ، ولا قريبٍ ولا أنِيسٍ. فسلَّمَ أمرَه لربِّه.

 

ونادَتْه هاجَرُ: "يا إبراهيم! أين تذهبُ وتترُكُنا بهذا الوادِي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيءٌ"، قالت له ذلك مِرارًا، وهو لا يَلتَفِتُ إليها، ثم قالت له: "آللهُ أمرَك بذلك؟!"، قال: "نعم"، قالت: "إذًا، لا يُضيِّعُنا الله!".
فهل ضيَّعَهم الله؟! هل ضيَّعَهم الله؟! كلا والله؛ بل أكرَمَهم ورفعَ شأنَهم، وأقبلَ إليهم بقُلوبِ الخَلق، وجعلَها تفِدُ إيهم بالوُدِّ والرحمةِ، وخلَّدَ ذِكرَهم في العالَمين.

 

ثم أمرَ الله خليلَه إبراهيم ببناءِ البيتِ، فرفعَ القواعِدَ وشيَّدَ المبانِي، وأذَّنَ في الناسِ بالحجِّ، فأتَوا مِن كل فَجٍّ عمِيقٍ، ثم كان الاختِبارُ الأصعَب، والامتِحانُ الأعظَم الذي لا يَكادُ يتحمَّلُه أحدٌ، حين أمرَه ربُّه بذَبحِ ابنِه وفلَذة كبدِه البيِّ الكريمِ إسماعيل، بعد أن شبَّ واستوَى، وبلغَ معه السعيَ، وأصبَحَ أكثرَ حاجةً إليه مِن ذِي قبل. فسلَّم إبراهيمُ لربِّه، وأضجَعَ ابنَه إسماعيل، وقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].

 

وأسلَمَا أمرَهما لله، وتلَّه للجَبينِ، ولما كادَ أن يذبَحه نادَاه ربُّه: (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) [الصافات: 104- 106].

 

نعم .. يا حُجَّاج بيتِ الله: إنه أعظمُ امتِحانٍ للتسليمِ لأمرِ الله الذي يرتَقِي في مدارِجِ الإحسانِ والكمالِ والدرجاتِ العُلَى، ولذلك جزَى الله إبراهيمَ الخليلَ أعظمَ الجزاء، وفدَى ابنَه الذَّبيحَ بكبشٍ عظيمٍ، وجعلَ ذلك سُنَّةً للمُوحِّدين إلى يوم القِيامة، وأقامَ له لِسانَ صِدقٍ في الآخرين، وجعلَه إمامًا للعالمين، (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات: 108- 111].

 

وبعدُ .. حُجَّاج بيت الله: مَن سلَّم لله أمرَه، ورضِيَ بشرعِه وقَدَرِه، ولزِمَ غَرزَ النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، واقتفَى أثَرَه، ولم يعترِض ولم يتسخَّط، فلا يخافُ الضَّيعةَ ولا يخشَى، ولا خوفٌ عليه؛ فلن يضِلَّ ولن يشقَى. وذلك كلُّه قبَسٌ مِن آثار التسليمِ لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-، الذي هو مِن أعظم مقاصِدِ تشريعِ عِبادة الحجِّ.

 

فيرجِعُ الحُجَّاج إلى دِيارِهم وقُلوبُهم مليئةٌ بعبوديَّة التسليم، بعد أن تعوَّدُوا عليها وألِفُوها طِيلةَ أيام الحجِّ، فيستقبِلُون حياتَهم مِن جديدٍ بصفحةٍ بيضاء مِلؤُها الرِّضا بالله ربًّا، ومُدبِّرًا، ومُشرِّعًا، وحاكمًا وإلهًا، والرِّضا بمُحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيًّا ورسُولًا، ويعبُدُون اللهَ على جناحَي الخَوفِ والرَّجاءِ، حُبًّا لربِّهم، وتسليمًا لأمرِه؛ حتى يأتِيَهم اليقينُ وهم على ذلك، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].

 

أقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: 1]، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسلَه الله شاهِدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعِيًا بإذنِه وسِراجًا مُنيرًا، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الأماجِدِ الذين لما رأوا الأحزابَ (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]، وعلى المُؤمنين التابِعِين لهم بإحسانٍ الذين صدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عليه (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].

 

وبعد .. أيها المُسلمون: إن التسليمَ لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم- مقامٌ عظيمٌ، ومنزلةٌ جليلةٌ، وهو دليلٌ على صِدقِ الإيمان، وخُلوص النيَّة، وطهارةِ القلبِ مِن أدرانِ الشِّرك والوثنيَّة، والبِدعةِ الرَّدِيَّة، والمعصِيةِ الدنِيَّة. وهذه الثلاثةُ هي أصولُ الشرِّ، وركائِزُ البلاء والفساد.

 

وحقيقةُ التسليم لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسعَى العبدُ سعيًا حثيثًا في تخليصِ قَلبِه مِن كل شُبهةٍ تُعارِضُ الخبرَ الإلهيَّ، أو شَهوةٍ تُخالِفُ الأمرَ والنهيَ، أو إرادةٍ تُزاحِمُ الإخلاصَ لله، أو اعتِراضٍ يُعارِضُ الشرعَ والقَدَرَ. فإذا حقَّقَ العبدُ ذلك فقد صفَا قلبُه، وصارَ قلبًا سليمًا صحيحًا، طاهرًا مِن كل مرضٍ وآفةٍ تُفسِدُه، وتُردِيه، وتُضعِفُه.

 

ولا ينجُو في الدنيا ولا في الآخرة إلا صاحِبُ القَلبِ السليمِ المُخبِتِ لله، المُطمئنِّ لأمرِه ووعدِه، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].

 

فالعبدُ المُوفَّقُ المُسدَّدُ لا يُعارِضُ خبرَ الله الصادِقَ بشُبهةٍ حائِرةٍ زائِفةٍ، أو بِدعةٍ فاسِدةٍ، ولا يُنازِعُ اللهَ في أسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه بتأويلاتٍ وتحريفاتٍ فاسِدة، ولا يُخالِفُ أمرَ الله ونواهِيَه بشهواتٍ وأهواءٍ زائِغة، ولا يُزاحِمُ إرادةَ الله والإخلاصَ له بمُراءاةِ الخلقِ والتسميعِ بأعمالِه وأفعالِه؛ لكي لا تُصبِحُ أعمالُه (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) [النور: 39].

 

ولا يعترِضُ على الله في حُكمه القَدَريِّ والشرعيِّ، فلا يتسخَّطُ ولا يَجزَع، ولا يرُدُّ شرعَ الله؛ فالتسليمُ على الحقيقةِ - يا عباد الله - هو في تخلُّص العبدِ مِن كل هذه الآفات، وتربيةِ العقلِ والقلبِ والجوارِحِ على التسليمِ لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم- تسليمًا مُطلَقًا، بلا مُنازعات، ولا مُعارَضاتٍ، ولا شُكُوكٍ، ولا تأويلاتٍ، ولا تحريفاتٍ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [الحجرات: 1].

 

أيها المُسلمون: هذا هو القلبُ السليمُ الذي سلَّم لله، فسَلِمَ مِن فتنِ الشُّبُهات والشَّهوات، فلا يَقبَلُ الفِتنَ، وإذا عُرِضَت عليه فإنه يرُدُّها ويُنكِرُها، وكلما ردَّ الفِتنَ وأنكرَها نُكِتَت في قَلبِه نُكتةٌ بيضاء، حتى يُصبِحَ قَلبُه أبيَضَ مُستنيرًا بسِراجِ الإيمانِ المُزهِر.

 

وفي مُقابِلِ هذا القلبِ السليمِ: هناك القَلبُ الميِّتُ القاسِي، المطبُوعُ عليه، الذي كلما عُرِضَت عليه فِتنةٌ مِن فتنِ الشُّبُهات والشَّهَوات قبِلَها وتشرَّبَها، فتُنكَتُ في قَلبِه نُكتةٌ سَوداء، حتى يعُودَ قَلبُه أسوَدَ مُنتَكِسًا قد خُتِمَ عليه وطُبِع، فلا يعرِفُ معروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكرًا إلا ما أُشرِبَ مِن هواه.

 

وبين هذَين القلبَين القلبِ السليمِ والقَلبِ الميِّتِ: قَلبٌ مريضٌ مُتقلِّبٌ، لا يثبُتُ على حالٍ، ولم يتمكَّن فيه الإيمانُ وصِدقُ التسليمِ لله ولرسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-، فتارةً يُجاهدُ نفسَه في التخلُّص مِن فِتنِ الشُّبُهات والشَّهَوات، فيكون مع أهلِ الإيمانِ، وتارةً يَقبَلُ الفِتنَ ويضعُفُ أمامَها، فيتخلَّقُ بأخلاقِ أهل المعاصِي والنِّفاقِ.

 

معاشِر الحَجِيج: إن مُدافعَةَ فِتن الشُّبُهات والشَّهَوات، ومُجاهَدَة النَّفس في ردِّها وإنكارِها أمرٌ ضروريٌّ ومُتحتِّمٌ لمَن أرادَ النجاةَ وسلامةَ قَلبِه، وطهارةَ نفسِه. وليس هناك أخطرُ على القَلبِ مِن استِيلاءِ فِتنِ الشُّبُهات والشَّهَواتِ عليه وامتِلائِهِ بهِما، وقَبُولِه لكلِّ فتنةٍ تُعرَضُ عليه.

 

وإن خُطورةَ تشرُّبِ القُلوبِ بفتنِ الشُّبُهات والشَّهَوات تكمُنُ في أنها تُفسِدُ على العبدِ تصوُّرَه للحقائِقِ والعُلُوم النافِعَة بالشُّبُهات والمُعارَضات والشُّكُوك، فتنحرِفُ عقائِدُه وأفكارُه، ويقَعُ في البِدعةِ والشِّركِ والإلحادِ، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة: 41].

 

وكذلك هي تُفسِدُ على العبدِ قصدَه وإرادتَه بالشَّهَوات، فيخلُدُ إلى الأرض، ويتَّبِعُ هواه وشهَوَاته، وتأسِرُه مطامِعُه ولذَّاتُه، ويكونُ كما قال الله: (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة: 38].

 

عباد الله: عرضُ الفِتن على القُلوبِ لا ينجُو مِنه أحدٌ أبدًا، ولكن ما هو الموقِفُ الصحيحُ مِن الفتن؟ وكيف النَّجاةُ مِن خطرِها؟ ثبَتَ في "صحيح مسلم" عن حُذيفةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "تُعرضُ الفِتنُ على القُلوبِ عرضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلبٍ أُشرِبَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ سَوداء، وأيُّ قَلبٍ أنكرَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تَصِيرَ القُلوبُ على قلبَين: قلبٍ أسوَدَ مُربادًّا كالكُوزِ مُجخِّيًا، لا يعرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكرًا إلا ما أُشرِبَ مِن هواه، وقَلبٍ أبيضَ مثلِ الصَّفَا، لا تضُرُّه فِتنةٌ ما دامَت السماواتُ والأرضُ".

 

عباد الله: صلُّوا على رسولِ الله؛ فقد أمَرَكُم بذلك الله؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

وثبَتَ عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرَ صلَوَات، ورفعَ له بها عشرَ درجات، وكتبَ له بها عشرَ حسنات، وحطَّ بها عنه عشرَ خطيئات".

 

فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على عبدِك ورسولِك نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا وقُدوتِنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأزواجه وذريَّاته، وصحابَتِه الكرامِ، وخُصَّ منهم: أبا بكرٍ الصدِّيقَ، وعُمرَ الفاروقَ، وعُثمانَ ذا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسَنَين، والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين.
اللهم انصُر مَن نصرَ دينَك، اللهم انصُر مَن نصرَ دينَك، واخذُل مَن خذلَ دينَك بقوَّتك يا قويُّ يا عزيزُ.

 

اللهم انصُر إخوانَنا المُسلمين المُستضعَفين في كل مكانٍ، اللهم انصُر إخوانَنا المُسلمين المظلُومين في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، وفي الشام، وفي العراق، وفي بُورما وأراكان، وفي اليمَن، اللهم انصُرهم في بُورما وأراكان بقوَّتِك يا قويُّ يا عزيزُ.

 

اللهم عليك بأعدائِك وأعدائِهم، اللهم اقتُلهم بَددًا، وأحصِهم عددًا، ولا تُغادِر منهم فَردًا بقوَّتك يا قويُّ يا عزيزُ.

اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المُرابِطِين على الحدود، اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المُرابِطِين على الحدود، اللهم كُن لهم عَونًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظَهيرًا بقُوَّتِك يا قويُّ يا عزيز.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّقه ووليَّ عهدِه لِمَا فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، واجعَلهم مفاتيحَ للخيرِ مغالِيقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

 

اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين، اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين والمُسلمات، والمُؤمنين والمُؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم تقبَّل مِن الحُجَّاج حجَّهم، اللهم تقبَّل مِن الحُجَّاج حجَّهم، اللهم اجعَل حجَّهم مبرُورًا، وسعيَهم مشكُورًا، وذنبَهم مغفُورًا، ورُدَّهم إلى أهلِهم سالِمين غانِمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجزِ كلَّ مَن ساهمَ في نجاحِ موسِمِ الحجِّ، اللهم اجزِهم جزاءً عظيمًا، اللهم تقبَّل مِنهم، واجزِهم خيرَ الجزاء، وأكملَه وأوفاه يا رب العالمين.

وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وآلِهِ وصحبِه أجمعين.

المرفقات

التسليمُ لأوامرِ الله تعالى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات