الترغيب في صيام شعبان والنهي من الاحتفال بذكرى الإسراء

عبد القادر بن محمد الجنيد

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ عبادة الصيام وفضل الصيام في شعبان 2/ غفلة الناس وتكاسلهم عن صيام التطوع 3/ بعض فضائل صيام التطوع 4/ نعمة الاقتداء بالأنبياء والصحابة 5/ حكم الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج وأقوال العلماء في ذلك

اقتباس

اعلموا أن من أعظم ما تقرب به المتقربون إلى الله ربهم، وأوصلهم المنازل العالية، وهذّب نفوسهم وأخلاقهم، ورقق قلوبهم وأصلحها، وأعف عن الحرام فروجهم وألسنتهم، عبادة الصيام، تلك العبادة التى صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في شأنها...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ذي الفضل العظيم، والإحسان الكثير، والبر الواسع العميم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه، وفق من شاء من عباده لتحصيل المكاسب والأجور، وجعل شغلهم بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، يرجون تجارة لن تبور.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك الكريم محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فاتقوا الله في السر والعلن، وراقبوه مراقبة أصحاب القلوب الخاشية، وإياكم والأمن من مكره، والقنوط من بِره، وتعرضوا لأسباب رحمته ومغفرته، واعملوا كل سبب يوصلكم إلى رضوانه وفضله العظيم، ويقربكم من جنته، ويباعدكم عن ناره، فإن رحمة الله قريب من المحسنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18- 19].

 

واعلموا أن من أعظم ما تقرب به المتقربون إلى الله ربهم، وأوصلهم المنازل العالية، وهذّب نفوسهم وأخلاقهم، ورقق قلوبهم وأصلحها، وأعف عن الحرام فروجهم وألسنتهم، عبادة الصيام، تلك العبادة التى صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في شأنها: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي".

 

وثبت عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مُرْنِي بِعَمَلٍ لِعَلِيِّ أَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ" فَمَا رُئِيَ أَبُو أُمَامَةَ وَلَا امْرَأَتُهُ وَلَا خَادِمُهُ إِلَّا صِيَامًا، فَكَانَ إِذَا رُئِيَ فِي دَارِهِ الدُّخَانُ بِالنَّهَارِ قِيلَ: اعْتَرَاهُمْ ضَيْفٌ".

 

عباد الله: إنكم على مقربة من شهر شعبان، وما أدراكم ما شهر شعبان؟ إنه شهر ترفع فيه أعمال العباد إلى ربهم -عز وجل-، فهنيئاً لمن رفعت له فيه أعمال صالحة، فقد ثبت عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تَصُومُ فِي شَعْبَانَ صَوْمًا لَا تَصُومُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّهُورِ، إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ، وَشَهْرِ رَمَضَانَ، تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ النَّاسِ، فَأُحِبُّ أَنْ لَا يُرْفَعَ لِي عَمَلٌ، إِلَّا وَأَنَا صَائِمٌ".

 

وصح عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سُئلت عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقالت: "وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا".

 

فبادروا -سددكم الله وقواكم- إلى الاقتداء بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- بالصيام في شهر شعبان، والإكثار منه، حتى إذا رفعت أعمالكم إلى ربكم -جلا وعلا- رفعت وأنتم صائمون.

 

عباد الله: لقد تكاسل وتشاغل أكثرنا عن صيام التطوع، رغم ما ورد في شأنه من الأحاديث الكثيرة المبينة لأنواعه، والمرغبة فيه، والمعددة لثماره الجليلة، وما فيه من الحسنات الكثيرة، والأجور الكبيرة، والمكاسب الطيبة التي تنفع العبد في دنياه وأخراه.

 

ولما كانت النفس تتوق وتتشوق لما له فضائل، فدونكم -سلمكم الله- جملة من فضائل صيام التطوع، والتنفل بالصيام.

 

فمن هذه الفضائل: أنه من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، حيث صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ".

 

ومن هذه الفضائل: أنه من أسباب البعد والعفة عن الحرام، حيث صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".

 

ومن هذه الفضائل: أنه يُسَدُّ به يوم القيامة النقصَ والخلل الذي وقع من صاحبه في صيام الفريضة، حيث ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى نحو ذَلِكَ".

 

ومن هذه الفضائل: أنه من أسباب نيل العبد محبة ربه -جل وعلا- له، حيث صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاغفر لنا ربنا وارحمنا واعف عنا وتجاوز، وأنت خير وأرحم الراحمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله المنعم على من شاء من خلقه بمتابعة سيد ولد آدم أجمعين، وصحابته المكرمين، والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وأصحابه والمتبعين لهم بإحسان في كل ناحية وحين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: فإن من أعظم نعم الله ومننه على كثير من عباده توفيقهم للإقتداء بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- في القول والفعل والترك، وسيرهم على ما كان عليه سلفهم الصالح من أهل القرون الثلاثة الأولى، وعلى رأسهم الصحابة -رضي الله عنهم-.

 

ولا ريب عند كل ذي دين وإيمان أن من وافقهم في الترك أو الفعل كان مصيباً وعلى الحق، ومن خالفهم كان على خطأ وضلال.

 

وليلتنا المقبلة قد تكون هي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، وقد جرت عادة جموع من المسلمين في بقاع شتى على الاحتفال فيها بذكرى ليلة الإسراء والمعراج، حيث يعتقدون أن حادثة الإسراء والمعراج قد حصلت فيها.

 

فلا هذا الاحتفال مشروعاً في دين الله -تعالى-؛ لأنه لم يرد في نصوص القرآن والسنة، ولا فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أصحابه -رضي الله عنهم-، ولا أحد من أئمة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، والخير كله والأجر والسلامة في متابعتهم، ولعل من ابتدأ هذا الاحتفال وأتى به هم الشيعة الرافضة، فبئس القدوة، وبئس التشبه.

 

والعلماء العارفون بنصوص القرآن والسنة ومذهب السلف الصالح يحكمون على ما كان هذا حاله من الاحتفالات بأنه بدعة، والبدعة من أشد المحرمات، وأغلظها جرماً، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يحذر منها في خطبه، فيقول: "وَخَيْرُ الْهُدَي هُدَي مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ".

 

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للناس في خطبته الوداعية محذراً: "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ".

 

وثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "وَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا, أَلَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ, وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

 

ولا ريب عند الجميع بأن ما وصِف بأنه شر، وأنه ضلالة، وتُوعِّد عليه بالنار، يدخل في المحرمات والسيئات، والمنكرات والخطيئات، والآثام والأوزار.

 

ولا ليلة السابع والعشرين من رجب هي ليلة الإسراء والمعراج، وقد اختلف العلماء والمؤرخون في تاريخ وقوعها على عشرة أقوال أو أكثر، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي -رحمه الله- في كتابه: "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، بل اختلفوا في سنة وقوعها، وشهر حصولها، ويوم حدوثها، ولا يصح في تحديد وقتها حديث ولا أثر، لا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم-.

 

وقد قال الإمام تيمية الدمشقي -رحمه الله-: "لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به".

 

وقال الشريف محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني -رحمه الله-: "هي ليلة معينة، لم يرد بتعيينها سُنَّة صحيحة".

 

وقال العلامة ابن باز -رحمه الله-: "وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بالحديث".

 

ومن أضعف الأقوال قول من قال: إن هذه الحادثة العظيمة كانت في شهر رجب، في ليلة السابع والعشرين منه.

 

وقد قال المحدث أبو الخطاب الأندلسي المالكي -رحمه الله-: "وذكر بعض القُصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب".

 

وقال أيضاً: "وقيل: كان الإسراء في رجب، وفي إسناده رجال معروفون بالكذب".

 

وقال الفقيه ابن العطار الشافعي الدمشقي -رحمه الله-: "وقد ذكر بعضهم أن المعراج والإسراء كان فيه، ولم يثبت ذلك".

 

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي البغدادي -رحمه الله-: "ورُوي بإسنادٍ لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره".

 

وقال العلامة العثيمين -رحمه الله-: "يظن بعض الناس أن الإسراء والمعراج كان في رجب، في ليلة سبعة وعشرين، وهذا غلط، ولم يصح فيه أثر عن السلف أبداً، وأهل التاريخ اختلفوا في هذا على نحو عشرة أقوال".

 

هذا وأسأل الله الكريم أن يجنبني إياكم الشرك والبدع، اللهم ارزقنا لزوم التوحيد والسنة والاستقامة عليهما إلى الممات، وطهر أقوالنا وأسماعنا وجوارحنا عن كل ما يغضبك، واشرح صدورنا بالسنة والاتباع، وآمنا في مراكبنا ومساكننا ومساجدنا وأعمالنا وأسفارنا، وأصلح ولاتنا وأهلينا وأولادنا، وثبتنا في الحياة على طاعتك، وعند الممات على قول: "لا إله إلا الله"، وفي القبور عند سؤال منكر ونكير.

 

اللهم لين قلوبنا قبل أن يلينها الموت، واجعلها خاشعة لذكرك وما نزل من الحق.

 

اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، اللهم ارفع عنهم القتل والاقتتال، وأزل ما بهم من  خوف وجوع، وقهم الأمراض والأوبئة، وأعذهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

 

اللهم قاتل النصيريين والحوثيين والخوارج ومن عاونهم وساندهم، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، ومزقهم في الأرض كل ممزق، واخذلهم في العالمين، إنك سميع الدعاء.

 

 

المرفقات

في صيام شعبان والنهي من الاحتفال بذكرى الإسراء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات