التربية بالعقوبة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ التربية بالعقوبة منهج قرآني نبوي 2/التدرج في الوسائل قبل العقاب 3/يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن 4/أثر غياب العقوبة في المجتمع 5/اللين لا يصلح مع كل أحد.

اقتباس

اقتضت إرادة الله -عز وجل- أن يخلق للناس طباعا مختلفة، وأمزجة متباينة، واستجابات متفاوتة، فبعضهم تكفيه القدوة البينة، وبعضهم يستجيب للموعظة اللينة، وبعضهم إذا عصى لا تنفعه إلا العصا، فليس من الحكمة في شيء أن نتجاهل وجود مثل هؤلاء المنحرفين...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، بعث رسله مبشرين ومنذرين بمواعظ الدين، ترغيباً وترهيباً لقلوب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد أفصح لساناً وبياناً لمواعظ الدِّين، أرسله الله رحمةً للعالمين، وداعياً بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: حديثنا اليوم عن موضوع هام، نذكر به أنفسنا وآباءنا، إنه موضوع التربية بالعقوبة,

إن الطفل الصغير، بسجيته وفطرته، يقلد أبويه في كل شيء ومن ذلك تقليده له في الصلاة، وهذا مشاهدٌ محسوس، ثم إنه لو لم يفعل؛ يوعظ ويؤمر بها عندما يبلغ السابعة، ثم يستمر الأب في أمره ووعظه وترغيبه ثلاث سنوات كاملات، فإن لم يستجب الطفل لكل هذا تأتي التربية بالعقوبة، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ" [ أحمد (6756)].

 

فالعقوبة ليست هي الخاطر الأول للمربي، بل هي الأخير بعد التدرج في الأساليب التربوية من الأمر والوعظ.

 

إن التربية بالعقوبة هي الأسلوب التربوي السديد الذي تقوم به الأسرة، وتصبح به بمَنْجَىً من التفكك والتحلل ,كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء : 34].

 

فالتربية بمعاقبة المفسدين، بعد التربية بالقدوة والوعظ، هو المنهج الذي أقر به القرآن الكريم وأمر به، فكانت ثمرة هذا المنهج أن قامت الدولة الإسلامية الرائدة الراشدة, ومن ثمارها اليوم، انتشار الطهر والعفاف والفضيلة في دول الإسلام، إذ يقتدي المسلمون بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وبسلفهم الصالح، ويستجيبون لموعظة القرآن الكريم، وما شذ البعض عن هذه القاعدة وانحرفوا إلا لانعدام العقوبة في بعض الأمكنة.

 

تأمل القرآن الكريم وهو يأمر باتخاذ الحكمة والموعظة سبيلاً: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : 125], ثم الصبر على انحراف النفوس لعلها تستجيب (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) [المزمل : 10] ؛ ثم اتخاذ أيسر التهديد (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل : 10], ثم التهديد بغضب الله صراحة (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : 279], ثم التهديد بالعقاب في الدنيا ( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [التوبة : 74], ثم العقاب على أولئك الذين لم ينتفعوا بكل هذا (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : 2]، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة : 38].

 

حتى لا يُفسد هؤلاء المنحرفون القلائل على بقية الناس عيشهم، ولا يكدروا صفوهم، كان من العدالة أن يرتعدوا من العقوبة، ويرتدعوا بها، هذا ما يقوله العقل السليم، وما يفهمه أولو النهى والألباب (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : 179].

 

وفي  القتلى  لأجيالٍ  حياةٌ  ***  وفِي الأسرَى فِدىً لهُمُ وعِتْقُ

 

وما سادت الجماعة الإسلامية الأولى وأقامت الحق والعدل؛ إلا بذلك المنهج التربوي، الموعظة أولاً، ولقد استجابت لها أنفس، واحتملت الأذى في ذلك، مقتدية بالرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

ثم جاء الأمر بالصبر والتقوى، فظل هذا دأبهم،  إلى أن اقتدى بهم خلق كثير واستجابوا لهم، وبقيت الرجرجة والرعاع والدهماء والسفهاء يحاربون الدين، ويظلمون المؤمنين، فأنزل الله تعالى قوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج : 39]، فصار المؤمنون صفا واحدا خلف قائدهم وقدوتهم -صلى الله عليه وسلم-، مستجيبين لمواعظ ربهم -جل وعلا-، فأزالوا عن طريق الحق الطغاة الجبارين، وأزاحوا وأدبوا العصاة المتمردين، ونشروا الحق والرحمة والخير والدين.

 

قالوا غزَوتَ، ورسْلُ اللهِ ما بُعِثَتْ  *** بقتل نفسٍ، ولا جاءوا بسفْكِ دمِ

إفْكٌ، وتضليلُ أحلامٍ، وسَفْسَطَةٌ   ***  فتحْتَ بالسيف بعد الفتح بالقلم

لمَّا أتى لك عفواً كلُّ ذي حسَبٍ  ***  تكفَّلَ  السَّيْفُ  بالجُهَّالِ  والعَمَمِ

والشرُّ إن تلقَهُ بالخير  ضِقْتَ به    ***  ذرعاً، وإن تلقَهُ  بالشرِّ   ينحسِمِ

 

إن النفوس المنحرفة الشاذّة في غاية الشقاء، لا تتعظ بالقرآن الكريم، ولا حتى بالموت، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كفى بالموت واعظا" [ شعب الإيمان للبيهقي (10072) ].

 

عجِبْتُ من آمِلٍ وواعظُهُ المو ***  تُ فلم يتَّعِظْ ولم يَكَدِ

 

فمثل هذه النفوس الشهوانية المنحرفة تردعها العقوبة الماسة لها مباشرة:

 

لا ترجِعُ  الأنفُسُ  عَنْ  غَيِّهَا  *** حَتَّى يُرَى، منِهَا، لها واعِظُ

 

جاء في البداية والنهاية لابن كثير عن مناقب المعتضد، قال رجل إنه كان له على أميرٍ مال فرفض إعطاءه، ولم يستطع الأعيان الذين استغاث بهم نفعه، فدله رجلٌ على خيَّاطٍ رقيق الحال، وأخبره أنه لا يُردُّ له مطلب, قال: فذهبت وأنا متشكِّكٌ مرتاب، فأتيته، فاستصحبني لدار الأمير، فما إن رآه حتى أعطاني حقي، ثم إني أعطيته مالا فرفض وقال: لو أردت لكان لي منه الكثير.

 

فألححت عليه ليقص أمره، فقال: إن أميراً تركياً رأى امرأة فراودها عن نفسها فاستعصمت واستغاثت، وأتيت لإنقاذها فشجني، فرجعت وصليت بالناس العشاء وأخبرتهم، فأتينا لإنقاذها فآذانا غلمانه فرجعنا خائبين.

 

ثم إن هذا الأمر أّذهب النوم عني، فقررت أن أؤذن في الناس بالفجر حتى يظن ذلك السفيه طلوعه فيطلق سراح المرأة، فأذَّنت، وظللت مترقباً فإذا بفرسانٍ ورجال أتوني سائلين عن الذي أذن، فأخبرتهم، فقالوا: أجب الأمير، فأدخلوني عليه فسألني وأمَّنني فقصصت عليه الأمر، فاستشاط غضباً وأحضر الأمير فقيده وعذبه, ثم قال لي: "كلما رأيت منكراً ولو على هذا، وأشار إلى صاحب الشرطة، فأعلمني". قال: فلهذا لا آمر أحدا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه خوفا من المعتضد.

 

وروي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

 

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا يستجاب لها.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر. وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم، رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر.

 

اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.

 

إن الغربيين لم يستجيبوا لمواعظ دياناتهم التي تحرم الزنا، ولا لمواعظ مربيهم التي تجرِّم تشريد الأبناء؟، ما ذنب أربعمائة ألف طفل يخرجون على ظهر الأرض في أقل من عقد من الزمان، بلا أب حان لتتناوشهم أعاصير الزمان، في مجتمع مادِّيٍّ قاسٍ لا يرحم؟.

 

إن ذنبهم أن آباءهم نشأوا في مجتمع لم يتخذ العقوبة وسيلة تربوية، واكتفى باتخاذ الموعظة الباهتة وحدها وسيلة للتربية! فانعدمت القدوة التي تنفع، والعقوبة التي تردع؛ لأن لأي خطيئة عقاباً، وهؤلاء الأطفال سيعانون الشقاء والحسرة مدى حياتهم:

 

وجُرْمٍ جرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ *** وحَلَّ بغير جارِمِه العِقابُ

 

لقد ذكر الباحثون أن الجيل الذي أريد له أن يتربى بلا عقوبة في الغرب جيل منحل، شديد الميوعة، متفكك الكيان؛ وما كان له إلا أن ينشأ كذلك، فالعقل والمنطق يحتمان تعدد وسائل التربية، بدءً بالقدوة والموعظة، وانتهاء بالعقاب!.

 

وواقع الحال أيضا يعلن هذا في صراحة وينادي به، فقد اقتضت إرادة الله -عز وجل- أن يخلق للناس طباعا مختلفة، وأمزجة متباينة، واستجابات متفاوتة، فبعضهم تكفيه القدوة البينة، وبعضهم يستجيب للموعظة اللينة، وبعضهم إذا عصى لا تنفعه إلا العصا، فليس من الحكمة في شيء أن نتجاهل وجود مثل هؤلاء المنحرفين.

 

إن التربية الحانية كثيراً ما تفلح لدى الأطفال، أما إذا تجاوزت الرقة والحنو والعطف حدودها، فإنها ستضر ضرراً بالغاً، لذا قال الشاعر الحكيم:

 

وَقَسَا لِيَزْدَجِرُوا، وَمَنْ يَكُ رَاحِمَاً   ***  فَلْيَقْسُ أَحْيَانَاً عَلى مَنْ يَرْحَمُ

 

لهذا يجب علينا أن نعلم أن التربية بالعقوبة أسلوب تربوي فعال ومفيد، ولابد منه في تعاملنا مع أبنائنا وطلابنا، فإن النفوس لا تصلح في بعض الأحيان إلا بذلك ولن ترعوي إلا به.

 

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

 

 

 

المرفقات

بالعقوبة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات