عناصر الخطبة
1/ اكتمال الدين وتمامه 2/ إنكار السلف البدع ونبذهم أهلها 3/ البِدع شَر الأمور 4/ سبب انتشار البدع 5/ ألوان من البِدع 6/ بِدع شهر رجباقتباس
كان أحد المؤذنين في عهد الإمام الجليل إمام دار الهجرة مالك بن أنس، كان ذلك المؤذن إذا أذن نادي في الناس بعبارات من عنده يحثهم فيها على التبكير للصلاة، وكانوا يسمون هذه العبارات بالتثويب؛ فلما سمعه الإمام مالك أرسل إليه فجاءه فقال له مالِك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردتُ أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل. لا تُحدِث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه ..
أيها المسلمون: حج نبينا -صلى الله عليه وسلم- تلك الحجة التي ختم الله بها ما تبقى من شرائع الدين وأحكام الإسلام.
تلك الحجة التي ودَّع فيها الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وقال لهم: "لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، فكان ما أخبر به حقاً فلم يلقهم بعد ذلك العام، بل لم يمكث بعد حجته إلا أقل من ثلاثة أشهر.
وكان مما بلغَّه للناس وأعلمهم به ذلك الحدث العظيم، ألا وهو إكمال الدين، فلا زيادة ولا نقصان، فدين الله قد كمل، فضلاً من الله ونعمه.
أخبرهم بذلك عندما تلا عليهم تلك الآية التي قيل عنها إنها آخر سور القرآن نزولاً: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
فأكمل الله دينه الذي ارتضاه لعباده، فما على الناس إلا اتباع هذا الدين الكامل، ومن أراد زيادة أو نقصاً فقد اتهم دين الله بالنقص، ورسوله بعدم التبليغ.
ومنذ ذلك الزمان أصبح علماء الإسلام من الصحابة من بعدهم، أصبحوا يأخذون أحكام هذا الدين من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يستنبطون منهما، ويبنون قواعدهم عليهما، وينبذون ما سوى ذلك، ويعيبون على كل من خالف الكتاب والسنة أو حاد عنهما.
واستمر الناس ينعمون باتّباعهم للدين الحق المبني على الكتاب والسنة، استمرت حالهم على ذلك مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، غير أن ذلك لم يستمر طويلاً، فظهرت بدعة الخوارج، وبدعة الروافض، ثم ظهرت بدعة القدر والاعتزال والتجهم فأنكر ذلك سلف هذه الأمة اشد الإنكار بل لقد قاتل علي -رضي الله عنه- الخوارج وقتل الروافض لما زعموا إلهيتة فأوقد لهم ناراً وأحرقهم فيها وعلى ذلك اتفقت كلمة الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يناصبون أهل البدع العداء، بل لقد هجروا مَنْ كلَّمَهم أو مشى معهم في طريق. قال أحدهم: كنت أمشى مع عمرو بن عبيد فرآنى ابن عون، فأعرض عنى شهرين. وقال يحيى بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر! وعن حماد بن زياد أن يحيى بن عبيد قال: لقيني رجل من المعتزلة فقام فقمت، فقلت: إما أن تمضي وإما أن أمضي، فإني إنْ أمشِ مع نصراني أحب إليَّ من أمشي معك.
ولا عجب في إنكار السلف للبدع ونبذهم لأهلها، فإن الجُرم الذي اقترفه أهل البدع لا يعدله جرم، ذلك بأنهم أدخلوا في دين الله ما ليس منه افتراءً على الله، وزعموا أن هذه الأعمال التي ابتغوها أنها تقربهم إلى الله، وحاشا لله أن تكون كذلك! بل هي أعمال ضالة مردودة على مَن عمِلها.
أخرج الشيخان من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌ"، وفي رواية لمسلم: "مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌ".
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن البدع إنما هي شر الأمور، وأنها ضلالات لا تزيد صاحبها إلا بعداً عن الحق، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته يوم الجمعة: "فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" أخرجه مسلم في الصحيح.
وصاحب البدعة قد شرع شِرْعة من عند نفسه لم يأذن بها الله، وقد حذر الله من ذلك في قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى:21].
ولقد عرف السلف خطورة البدع وضررها على الدين، فأنكروها أشد من إنكارهم على المعاصي وأصحابها.
هذا أحدهم بل ومن كبارهم: أبو إدريس الخولاني يقول: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع أن أطفيها أحبُّ إليّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
ولم يقتصر إنكارهم على البدع المنتشرة، بل عم إنكارهم حتى على ما يصدر من أوساط الناس، بل ومن جهالهم، فلم يعذروا الجاهل لجهله، ولم يجعلوا له الحبل على الغارب يبتدع ما يستحسنه عقله، ويخترع ما تزينه له نفسه، فقمعوا كل بدعة في أوانها وإن صغرت، فحمى الله بهم دينه وسنة نبيه.
كان أحد المؤذنين في عهد الإمام الجليل إمام دار الهجرة مالك بن أنس، كان ذلك المؤذن إذا أذن نادي في الناس بعبارات من عنده يحثهم فيها على التبكير للصلاة، وكانوا يسمون هذه العبارات بالتثويب؛ فلما سمعه الإمام مالك أرسل إليه فجاءه فقال له مالِك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردتُ أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل. لا تُحدِث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه؛ قد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا البلد عشر سنين، وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ، فلم يفعلوا هذا. فلا تُحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. فكف المؤذن عن ذلك.
ولما رأى عمر -رضي الله عنه- الناس يذهبون إلى الشجرة التي وقعت عندها بيعة الرضوان، ورآهم يتبركون لها ويصلون حولها رأى أنه لا حل لهذه البدعة إلا قلعها من أساسها، فاجتث الشجرة واقتلعها من مكانها، فأزال الله بذلك عن المسلمين شراً عظيماً.
وفعله -رضي الله عنه- هو غاية الحكمة، فإن التبرك بالآثار وتعظيمها سببٌ لشرور كثيرة وبدع عظيمة ابتُلي بها المسلمون، ولا أدل على ذلك مما يحصل عند مقام إبراهيم وزمزم من التمسح بأشياء لم يرد السنة بالتمسح بها ولا التبرك بها، كحديد المقام، وأعواد المنبر؛ وما ذلك إلا للجهل الذريع الذي يعيشه المسلمون.
ثم انتقِلْ إلى المسجد النبوي تجدْ الناس أكواماً أمام قبره -صلى الله عليه وسلم- يحاولون جهدهم أن يظفروا بمسحة أو التزام، هذا مع ما يرددونه من التوسلات الشركية، والعبارات البدعية، يفعلون ذلك خُفْيَةً خوفاً من رجال الأمن والحسبة.
ثم اخرُجْ من الحرم تجد طائفة من أهل البدع يدعون الناس إلى زيارة الآثار والمساجد القديمة، والتعبد فيها والتبرك بها، وهذا كله من الباطل، ومما اخترعته عقول أهل الخرافة؛ فليس للمساجد السبعة ولا لمسجد الغمامة ولا القبلتين، ليس لتلك المساجد مزية على غيرها؛ بل شأنها شأن غير من مساجد المسلمين.
سُئل ابن كنانة عن الآثار التي بالمدينة فقال: أثبتُ ما عندنا في ذلك قبا، إلا أن مالكاً كان يكره مجيئها خوفاً من أن تتخذ سنة.
وكلما كثر الجهل في الأمة كلما فشت البدع وازدادت، ووجد أصحابها متنفساً لبثِّ بدعهم وخرافاتهم، ذلك أن الأمة المتعلمة لا تقبل ما جاءها إلا بدليل وحجة وبرهان.
إذن فدواء البدع نشرُ العلم بين الناس حتى لا يقبلوا إلا الحق والصواب.
وفي هذا العصر، ونتيجةً لبعد الأمة عن دينها، واشتداد الجهل فيها انتشرت البدع في بلدان المسلمين، فأصبح كثير منهم يعتقدون في القبور، يدعون أصحابها، ويطوفون حولها، ويقدِّمون عندها الهدايا، ويذبحون القرابين؛ وهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام، لا يقبل الله من صاحبه صرفاً ولا عدلاً.
واعتقد كثير من الناس في الأنبياء والأولياء والصالحين حتى إن الرافضة تلك الفرقة الضالة المارقة ليعتقدون أن أئمتهم معصومون وأنهم أفضل من الأنبياء والمرسلين ومن الملائكة المقربين.
وغلت طوائف من المبتدعة في شيوخها حتى سألوهم الحاجات، وتفريج الكربات، مع أنهم في بطون القبور من الأموات!.
وأكبر دليل على انتشار بدعة الغلو في الصالحين ما نسمعه من الغلو في النبي الكريم، إمام المتقين، وسيد ولد آدم أجمعين، محمد -صلى الله عليه وسلم-، فتسمع من يدعو ويرجوه، وكثيراً ما تسمع من يحلف به، مع أن ذلك شرك بالله تبارك تعالى.
ومما أحدثه الناس الاحتفال بذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم-، وهذا وإن كان شائعاً كثيراً في كثير من الأقطار الإسلامية فهو بدعة وضلالة لم يشرعها الله ولا رسوله، ولم يفعلها الصحابة ولا من تبعهم.
وكذلك كل الاحتفالات بالأعياد المحدثة فهو من هذا الضرب، سواءً كانت أعياداً عامة أو أعياداً خاصة، كعيد الميلاد وغيره، كل ذلك من البدع.
فلنطَّرح كل ما لم يأمر به شرعنا ففي، الشرع غُنية عن ابتداع المبتدعين، وظلال المخرفين.
ولو أن المسلمين تمسكوا بعقيدتهم، وسألوا أهل العلم فيهم عن كل ما يجدّ ويحدث لما انتشرت البدع، ولما راجت الخرافات.
فاحذر -يا عبد الله- أن تكون مخترعاً لبدعة، أو داعيا إليها، أو محافظاً عليها، فإنك بذلك تسهم في هدم الإسلام، وإحلال مظاهر الشرك والخرافة.
أسأل الله الكريم أن يظهر بلادنا من البدع والشرك، وأن يزيل عن بلاد المسلمين كافة ما بها من الفساد والشر، إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إن مما أحدثه الناس في دين الله تخصيص بعض المواسم بقربات وطاعات ما أنزل الله بها من سلطان، فجعلوا لبعض المواسم فضائلَ ومزايا لكي يحثوا الناس على اغتنامها والحرص على العمل فيها.
من ذلك ما ورد في فضائل شهر رجب، والترغيب في صيامه وقيامه، وقد بين علماء الإسلام أن رجب كغيره من الشهور لا يجوز تخصيصه بمزيد عبادة، ولا إحداث قربة؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء من الأحاديث.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ولم يرد في رجب على الخصوص سنّةٌ صحيحة، ولا حسنة، ولا ضعيفةٌ ضعفاً خفيفاً، بل جميع ما روي فيه على الخصوص إما موضوع مكذوب، أو ضعيف شديد الضعف. اهـ كلامه. وعلى هذا فلا يجوز تخصيصه بشيء من القربات، بل ذلك بدعة محدثة.
ومما يجب التنبيه عليه غلط بعض الناس في إقامة الاحتفالات بمناسبة ليلة الإسراء والمعراج، فهم يظنون أنها في ليلة السابع والعشرين من رجب، وهذا ظن لا دليل عليه؛ قال سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز وفقه الله: وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا في غيره، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها انتهى كلامه رحمه الله.
فاللهَ اللهَ -يا أيها المسلمون- عليكم بالاتباع وترك الابتداع، فلا خير في قربة لم ترد في شرع الله، بل الخير كله في ما شرعه الله لعباده، فدعوا البدع، واحرصوا على تعلم الدين الصحيح الموصل إلى رحمة الله ورضاه.
اللهم أجعلنا هداة مهتدين لا ضالين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم