التحذير من الاغترار بالدنيا

ناصر بن محمد الأحمد

2015-03-23 - 1436/06/03
التصنيفات: الحياة الدنيا
عناصر الخطبة
1/تحذير القرآن من فتنة الدنيا 2/الدنيا لا تذم لذاتها وإنما يذم فعل العبد فيها 3/التحذير من الركون إلى الدنيا 4/ذم القرآن للمؤثرين للدنيا على الآخرة 5/بعض صور ومظاهر إيثار الناس للحياة الدنيا على الآخرة 6/أحاديث نبوية في ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها 7/حذر الصحابة من التنعم في الدنيا 8/قصر الأمل في الدنيا 9/معنى حديث: \"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل\".

اقتباس

عباد الله: حلال هذه الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، ولا يركن إليها إلا من فقد الرشد والصواب، فكم من ذاهب بلا إياب ؟ وكم من حبيب قد فارق الأحباب، وترك الأهل والأصحاب، وصار إلى ثواب أو عقاب ؟ إنها رحلات متتابعة إلى...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

يقول الله -جل وعلا-، وهو يناديكم في محكم كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5 - 6].

 

أيها المسلمون: يناديكم ربكم، ويؤكد لكم، أنه لا بد من وقوع ما وعدكم به من البعث والنشور، والجزاء على أعمالكم بالثواب أو العقاب، ويحذركم من فتنتين عظيمتين: البعد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، هما: فتنة الدنيا، وفتنة الشيطان.

 

وكم في كتاب الله من التحذير من الاغترار بهذه الدنيا وذمها، وبيان سرعة زوالها، وضرب الأمثال لها؛ ما يكفي بعضه زاجراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟

 

وإن الدنيا -أيها الإخوة- في الحقيقة أنها لا تذم لذاتها، فهي قنطرة أو ممر إلى الجنة أو إلى النار، وإنما يذم فعل العبد فيها، من اشتغاله بالشهوات، والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، وإلا فالدنيا مزرعة الآخرة، ومنها يؤخذ زاد الجنة، وخير عيش ناله أهل الجنة، إنما كان بما زرعوه في الدنيا.

 

عباد الله -أيها المسلمون-: كيف آثرتم الحياة الدنيا على ما عند الله ؟ كيف شغلتكم أموالكم وأولادكم عن ذكر الله ؟

 

مهما عشت -أيها الإنسان- وجمعت من المال، فإنك راحل، وما في يديك زائل، ولا يبقى لك إلا عملك، إنك خرجت إلى الدنيا ليس معك شيء، وستخرج منها ليس معك منها إلا العمل، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) [الأنعام: 94].

 

إنك مررت بالدنيا في طريقك إلى الآخرة، وأُتيحت لك الفرصة لتأخذ منها زاداً لسفرك، فأنت بمنزلة المسافر الذي هبط إلى السوق ليأخذ منه زاداً يبلغه في مسيره، فليس لك من هذه الدنيا إلا ما تزودت به للآخرة.

 

عباد الله: حلال هذه الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، ولا يركن إليها إلا من فقد الرشد والصواب.

 

فكم من ذاهب بلا إياب ؟ وكم من حبيب قد فارق الأحباب، وترك الأهل والأصحاب، وصار إلى ثواب أو عقاب ؟

 

إنها رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة لا تغتر، يذهب فيها أفراد وجماعات وآباء وأمهات، وملوك ومماليك، وأغنياء وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرار وفجار، كلهم يذهبون إلى الآخرة، ويودعون في القبور، ينتظرون البعث والنشور، والنفخ في الصدور: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج: 43 - 44].

 

أتأمل في الدنيا تجدُ وتعمر *** وأنت غداً فيها تموت وتقبر

تلقح آمالاً وترجو نتاجها *** وعمرك مما قد ترجيه أقصر

فهذا صباح اليوم ينعاك ضوءه *** وليلته تنعاك إن كنت تشعر

ورزقك لا يعدوك إما معجل *** على حالة يوماً وإما مؤخر

فلا تأمن الدنيا وإن هي أقبلت *** عليك فما زالت تخون وتغدر

وشمر فقد أبدى لك الموت وجهه *** وليس ينالُ الفوز إلا المشمر

فلا بد يوماً أن تصير لحفرة *** بأثنائها تطوى إلى يوم تُنشر

 

إن الله -سبحانه وتعالى- ذم الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة في كثير من الآيات، قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة: 86].

 

وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) [القيامة: 20 - 21].

 

وقال تعالى: (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الإنسان: 27].

 

وقال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16 - 17].

 

وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 39].

 

إن إيثار الدنيا على الآخرة يظهر جلياً على تصرفات الناس، والناس يزدحمون على أبواب المتاجر، ولا يزدحمون على أبواب المساجد، والناس يزدحمون على طلب الدنيا، ولا يزدحمون على طلب العلم النافع، الناس يصبرون على تحمل المشاق الصعبة في طلب الدنيا، ولا يصبرون على أدنى مشقة في طاعة الله، الناس يغضبون إذا انتقص شيء من دنياهم، ولا يغضبون إذا انتقص شيء من دينهم.

 

كثير من الناس -لشدة حبه للدنيا- لا يقنع بما أباح الله له من المكاسب، فيذهب يتعامل بالمعاملات المحرمة، والمكاسب الخبيثة، من الربا والرشوة والغش في البيع والشراء، بل يفجر في خصومته، فيحلف بالله كاذباً، أو يقيم شهادة زور، ليستولي على مال غيره بغير حق، وهو يسمع قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278 - 279].

 

وقول الله -تعالى-: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 188].

 

وقوله جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77].

 

كثير من الناس استولى عليه حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة، حتى شغل كل أوقاته بجمعها، ولم يبق وقتاً لآخرته، فالصلوات المفروضة يؤخرها عن أوقاتها، أو لا يحضرها مع الجماعة، وحتى في أثناء صلاته، يكون قلبه منصرفاً إلى الدنيا، يفكر فيها، ويعدد ماله، ويتفقد حسابه، ويتذكر ما نسي من معاملاته في صلاته.

 

كثير من الناس، حمله إيثار الدنيا على الآخرة، على البخل والشح بالنفقات الواجبة والمستحبة، حتى بخل بالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام.

 

أيها المسلمون: أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدنيا لو ساوت عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام أن مثلها في الآخرة، كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه في البحر.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أنها سجن المؤمن وجنة الكافر.

 

وأمر عليه الصلاة والسلام العبد: أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل.

 

وأمر عليه الصلاة والسلام العبد إذا أصبح: أن لا ينتظر المساء، وإذا أمسى أن لا ينتظر الصباح.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن الدنيا حلوة خضرة، وأنها تأخذ العيون بخضرتها والقلوب بحلاوتها.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أنه ليس لأحد من هذه الدنيا، سوى بيت يسكنه، وثوب يلبسه، وقوت يقيم صلبه.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أنه يتبع الميت أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أنه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن غنى العبد في نفسه لا في كثرة ماله.

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن من كانت الدنيا أكبر همه، جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.

 

عباد الله: لقد كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، يحذرون من التنعم في الدنيا، ويخافون أن تعجل لهم بذلك حسناتهم، ففي الصحيحين عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- قتل يوم أحد وترك بردة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها".

 

وفي صحيح البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: "أتي عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- بطعام وكان صائما، فقال قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفّن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة -رضي الله عنه- وهو خير مني، فلم يوجد له كفن إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام".

 

أيها المسلمون: تأملوا حالكم، وما بسط عليكم من الدنيا، كم تأكلون من أصناف الطعام ؟  كم يعرض أمامكم من أنواع الفواكه؟ كم تلبسون من فاخر الثياب ؟ وماذا تسكنون من البيوت المشيدة؟ وماذا ترقدون عليه من الفرش الوثيرة ؟ وماذا تجلسون عليه من المقاعد الناعمة، وتتكئون عليه من الأرائك اللينة ؟ ماذا ترصدون من الأموال، ثم انظروا ماذا تقدمون للآخرة ؟

 

إن ما بسط على هؤلاء الصحابة، الذين سمعتم كلامهم عن الدنيا، قليل جداً بالنسبة إلى ما بسط عليكم منها، وما قدموه للآخرة من الأعمال الجليلة، ليس عندكم منه إلا أقل القليل، ومع هذا خافوا هذا الخوف، أن تكون حسناتهم عجلت لهم، فبكوا حتى تركوا الطعام، فجمعوا رضي الله عنهم، بين إحسان العمل والخوف من الله.

 

ونحن جمعنا -نسأل الله العافية- بين الإساءة وعدم الخوف من الله، نتمتع بنعم الله، ونبارز الله بالمعاصي، كأننا لم نسمع قول الله -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].

 

يقول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول عن الدنيا:

 

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها

فلم أرها إلا غروراً وباطلاً *** كما لاح في ظهر الغلاة سرابها

وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها

إذا انسد باب عنك من دون حاجة *** فدعها لأخرى ينفتح لك بابها

فإن تراب البطن يكفيك ملؤه *** ويكفيك سوآت الأمور اجتنابها

فطوبى لنفس أوطنت قعر بيتها *** مغلقة الأبواب مرخي حجابها

فما تخرب الدنيا بموت شرارها *** ولكن بموت الأكرمين خرابها

 

كم نرى الناس يتراكضون لطلب الدنيا، مسرعين يخافون أن تفوتهم، ونراهم يقعدون ويتأخرون عن حضور المساجد لأداء الصلوات الخمس، التي هي عمود الدين؟

 

كم نراهم يجلسون في الشوارع والدكاكين، الساعات الطويلة، وقد يقاسون شدة الحر أو البرد، لطلب الدنيا، بينما لا نراهم يصبرون على الجلوس دقائق معدودة في المسجد، لأداء الصلاة أو تلاوة كتاب الله؟

 

كم نرى كثيراً من شباب المسلمين، يتسابقون إلى ملاعب الكرة، ويدفعون الدراهم للحصول على تذاكر الدخول، ثم يحتشدون فيها ألوفاً مؤلفة، وربما يقضون النهار ويسهرون الليل واقفين على أقدامهم، شاخصة أبصارهم، ناصبة أبدانهم، مبحوحة أصواتهم، يتحملون كل هذه المتاعب في سبيل الشيطان، وإذا دعوا إلى حضور الصلوات في المساجد، ب"حي على الصلاة، حي على الفلاح" عموا وصمّوا، وولوا وأعرضوا، كأن المؤذن يدعوهم إلى سجن، أو كأنه يطلب منهم مذمة ؟ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات: 48 - 49].

 

وقال تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم: 42 - 43].

 

أيها المسلمون: هذه حالة الكثير منا اليوم، إقبال على الدنيا وإدبار عن الآخرة، لا نعتبر بمن سبقنا، ولا ننظر إلى من حولنا، لا نتأثر بموعظة، ولا ننتفع بذكرى -فإنا لله وإنا إليه راجعون-.

 

فنسأل الله –عز وجل- أن يمن علينا بالتوبة، ويوقظ قلوبنا من الغفلة، إنه سميع مجيب.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ * وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 34 - 41].

 

بارك الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله:

 

أما بعد:

 

أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وتذكروا مصيركم، وانظروا ماذا قدمتم له من أعمالكم: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].

 

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل".

 

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"[رواه البخاري].

 

فهذا الحديث -يا عباد الله- أصل في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي له أن يكون فيها، كأنه على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها".

 

أيها المسلمون: إن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

 

أي: كن فيها على أحد حالين: إما أن تكون كأنك مقيم في بلد غربة، همك التزود للرجوع إلى أرض الوطن، أو تكون كأنك في مواصلة للسفر غير مقيم أصلاً، بل تسير دائماً إلى بلد الإقامة.

 

وفي كلا الحالين، لا تنشغل بالدنيا.

 

ووصية ابن عمر التي في آخر الحديث: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء".

 

مأخوذة من أصل الحديث، ومعناها: أن الإنسان يقصر أمله، فإذا أدرك أول الليل، لا ينتظر آخره، وإذا أدرك أول النهار، لا ينتظر آخره، بل يتوقع أن أجله يدركه قبل ذلك.

 

ولهذا -أيها الإخوة- أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابه الوصية عند النوم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" [متفق عليه].

 

زاد مسلم: قال ابن عمر: "ما مرت ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك، إلا وعندي وصيتي".

 

وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام، قال لأهله: "أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها".

 

أسألكم -أيها الإخوة- كم منا من يطبق هذه السنة، ويمتثل أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا ينام إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ؟!

 

قليل منا يفعل ذلك؛ لأن غالبنا -نسأل الله العافية-، كأنه يضمن أن يقوم من الغد، وليس هذا، إلا من طول أملنا في هذه الدنيا، وكأن بيننا وبين الموت مسافات شاسعة.

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون- والله إنه ليس بينكم وبين الموت، إلا خروج الروح، وهذه تحصل في ثوان بأمر الله -عز وجل-.

 

ولهذا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- في آخر الحديث: "خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

 

أي: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها المرض، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت، فكم من مريض يتمنى الصحة لكي يحج إلى بيت الله الحرام؛ لأنه لم يؤدِ فريضة الحج إلى الآن ؟ وكم من إنسان تشاهدونه بأنفسكم، يصاب بمرض قبل شهر رمضان، فيحرم لذة الصيام مع المسلمين، ولذة صلاة التراويح ؟

 

فبادروا -أيها الإخوة- بالأعمال الصالحة، قبل أن لا تقدروا عليها، ويحال بينكم وبينه إما بمرض أو موت، وإياكم إياكم بالانهماك في الدنيا، فإنها دنية.

 

وإياك والدنيا الدنية إنها***هي السحر في تخييله وافترائه

متاع غرور لا يدوم سرورها ***وأضغاث حُلم خادع ببهائه

فمن أكرمت يوماً أهانت له غداً ***ومن أضحكت قد أذنت ببكائه

ومن تُسقه كأساً من الشهد غدوة *** تجرعه كأس الردى في مسائه

ومن تكس تاج الملك تنزعه عاجلاً ***بأيدي المنايا أو بأيدي عدائه

ألا إنها للمرء من أكبر العدا ***ويحسبها المغرور من أصدقائه

فلذاتها مسمومة ووعودها ***سراب فما الظامي روى من عنائه

وكم في كتاب الله من ذكر ذمها ***وكم ذمها الأخيار من أصفيائه

فدونك آيات الكتاب تجد بها ***من العلم ما يجلوا الصدا بجلائه

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 9 - 11].

 

اللهم إنا نسألك رحمة ...

 

اللهم اجعل قلوبنا مملوءة بحبك، وألسنتنا رطبة بذكرك، ونفوسنا مطيعة لأمرك.

 

 

المرفقات

من الاغترار بالدنيا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات