التاجر الصدوق الأمين

الشيخ هلال الهاجري

2023-02-24 - 1444/08/04 2023-03-02 - 1444/08/10
عناصر الخطبة
1/تحريم الغش والتحذير منه 2/من صفات البائع المؤمن 3/حاجتنا اليوم إلى البائع السمح 4/فضل التجاوز عن المعسر

اقتباس

اليومَ نَحنُ في أَشدِّ الحاجةِ في أسواقِنا إلى التَّاجرِ الأمينِ الصادقِ، الذي قالَ فيه النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"، وواللهِ إن الصدقَ في البيعِ والشراءِ من أعظمِ أسبابِ البركةِ في الرزقِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ تَعاظمَ ملكوتُه فاقتدرَ، وتَعالى جبروتُه فقهرَ، رفعَ وخفضَ وأعزَّ ونصرَ، وهو العليمُ بما بَطنَ وظهرَ، أحمدُه -سبحانَه- وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، أحلَّ الحلالَ وبيَّنَ طريقَه، وبالطيباتِ أمرَ، وحرَّمَ الحرامَ وأوضحَ سبيلَه، وعن الخبائثِ زَجرَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أرحمُ الخلقِ بالخلقِ، وأنصحُ الناسِ للناسِ، وأشفقُ العبادِ بالعبادِ، فصلى اللهُ وسلم َوباركَ عليه، وعلى آلِ بيتِه ذكوراً وإناثاً، وأصحابِه السادةِ الغُررِ، والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ، ما ليلٌ أدبرَ، وصبحٌ أسفرَ، وأَذَّنَ مؤذنٌ اللهُ أكبرُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْواهُ، والتَّعَرُّضِ لِعَفْوِهِ ورِضَاهُ؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

 

فمن أوائلِ الأحاديثِ التي سمعناها ونحنُ أطفالٌ، ولا أعلمُ لماذا لا يزالُ يدورُ في البالِ، لعلَّه لأنَّ الجميعَ كانَ يُردِّدُهُ، في المدرسةِ، وفي البيتِ، وفي المسجدِ، وفي خُطبةِ الجمعةِ، فَرَسخَ في الأذهانِ، وأصبحَ منهجَ حياةٍ عندَ أهلِ ذلكَ الزَّمانِ، فما هو الحديثُ؟، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟"، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ، فَلَيْسَ مِنِّي".

 

سُبحانَ اللهِ! طعامٌ مبلولٌ من ماءِ المطرِ، ليسَ فاسداً، وإلا لما جازَ بيعُه ولو كانَ فوقَ الطَّعامِ، أُمرَ صاحبُه أن يجعلَه فوقَ الجافِّ من الطَّعامِ حتى يراهُ المُشتري؛ فيكونُ على بصيرةٍ أن في الطَّعامِ مبلولٌ وجافٌّ، ولا يشعرُ المشتري بأي غِشٍّ أو استخفافٍ، فإذا كانَ الغِشُّ يقعُ في البَللِ والجَفافِ من طَعامٍ واحدٍ، في صُرةٍ واحدةٍ، من مزرعةٍ واحدةٍ، في جودةٍ واحدةٍ، فماذا عسى أن يُقالَ فيما يدورُ في أسواقِنا اليومَ من أحوالٍ؟!.

 

اليومَ نَحنُ في أَشدِّ الحاجةِ في أسواقِنا إلى التَّاجرِ الأمينِ الصادقِ، الذي قالَ فيه النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"، وواللهِ إن الصدقَ في البيعِ والشراءِ من أعظمِ أسبابِ البركةِ في الرزقِ، كما جاءَ في الحديثِ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"، فَإليكَ يَا مَن يَشتكي مِن قِلَّةِ البَركَةِ في مَالِهِ.

 

أَمرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَولاهُ أن يَشتريَ له فَرساً، فاشترى له فَرسَاً بثلاثمائة درهمٍ، وجَاء به وبصاحبِه ليَنقُدَه الثمنَ، فَقالَ جَريرٌ لصاحبِ الفَرسِ: "فَرسُك خيرٌ من ثلاثمائة درهمٍ"، فقالَ البائعُ: أتشتريهُ بأربعمائةِ درهمٍ؟، قال له: "فَرسُك خيرٌ من ذلكَ"، فقالَ البائعُ: أتشتريهُ بخمسمائةِ درهمٍ؟، قال له: "فَرسُك خيرٌ من ذلكَ"، فما زالَ يزيدُ في السِّعرِ، وهو يقولُ له: "فَرسُك خيرٌ من ذلكَ"، حتى بلغَ ثمانمائة درهمٍ، فاشتراهُ بها، فَقيلَ له في ذلكَ فقالَ: "إني بايعتُ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- على النُّصحِ لكلِّ مسلمٍ".

 

اللهُ أكبرُ! صدقَ واللهِ؛ "فَالدِّينُ النَّصِيحَةُ"، ودينُه أعظمُ عندَه من الدِّرهمِ والدِّينارِ، فما فائدةُ الرِّبحِ مع غضبِ العزيزِ الجبَّارِ؟، وكيفَ يرضى الخديعةَ لإخوانِه المسلمينَ الأبرارِ؟، أما سمعَ ذلكَ قولَ المصطفى المُختارِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- الكثيرُ المِدرارُ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".

وكأني بكم تنظرونَ نظرَ المُستغربِ وتقولونَ: هل هذا حقيقةٌ أم خيالٌ؟! وهل هذا قد يقعُ من التَّاجرِ والدَّلَّالِ؟، فنقولُ: لا يَزالُ في النَّاسِ خيرٌ وعافيةٌ، ولا زالتْ بذرةُ الإيمانِ في القلوبِ باقيةٌ، ومن يعلمُ عاقبةَ الصِّدقِ، لا تخدعُه دنيا فانيةٌ؛ (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119].

 

أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكَفانا بفضلَه عَمَّنْ سِواه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ولا نَعبدُ إلا إياه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ومُصطفاهُ، صَلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن والاهُ، وسَلمَ تَسليماً كثيراً.

 

أمَّا بَعدُ: نحتاجُ اليومَ مَعَ غَلاءِ الأسعارِ إلى التاجرِ السَمْحِ، سَهلاً في بيعِه، لَيِّناً في شرائِه، وهذه من أسبابِ رحمةِ اللهِ -تعالى-، كما قالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى"، نحتاجُ من يَتجاوزُ عن الفقيرِ، ويُنظرُ المُعسرَ، فعن حُذيفةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟، قَالَ: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي"، اللهُ أَكبرُ! شَيءٌ عَسيرٌ عَلى النَّفسِ، ولكنَّهُ يَسيرٌ على مَن يَسَّرهُ اللهُ لَهُ.

 

أين ذلك التَّاجرُ الذي قد فتحَ بابَه للناسِ؛ يُطعمُ مسكيناً، يُعطي فقيراً، يَكفلُ يتيماً، يُنظرُ مُعسراً، يُساعدُ مُحتاجاً، يُوظفُ عاطلاً، يُزوِّجُ أعزباً، يَقضي دَيْناً، يُعينُ أخرَقاً، يُغيثُ ملهوفاً، يَكشِفُ همَّاً، يَعولُ أُسرةً، ويُنَفِّسُ كُربةً، فهذا من أفضلِ الناسِ عندَ اللهِ -تعالى-، كما قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ"، ومن كانَ هذا حالُه فإنه ممدوحٌ هو ومالُه على لسانِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- كما جاءَ في الحديثِ: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"، فلا إلهَ إلا اللهُ، كَم مِن إنسانٍ كَانَ مَالُهُ هو سَببَ دُخولِهِ الجَنَّةِ!.

 

اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ إنا نسألُك عَيْشاً قارّاً، ورِزقاً دارّاً، وعملاً بارّاً، اللَّهُم إِنَّا نسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضبِ وَالرِّضَا، وَنسْألُكَ الْقَصدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَنسْألُكَ نَعيماً لا يَنْفَدُ، وَقُرًّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَنسْألُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَنسْألُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنسْألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَنسْألُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةً، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

 

المرفقات

التاجر الصدوق الأمين.doc

التاجر الصدوق الأمين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات