الاقتداء بالعلماء والأولياء

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2021-01-22 - 1442/06/09 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الاقتداء بورثة الأنبياء 2/لماذا نقتفي أثر العلماء ونسير على خطى الأولياء؟ 3/بعض صور الاقتداء بالعلماء والأولياء 4/أثر الاقتداء بالعلماء والأولياء ومنافعه5/خطر إسقاط القدوات على الأفراد والمجتمعات.

اقتباس

إِنَّ خَيْرَ مَنْ يَتَصَدَّرُ الْمَشْهَدَ الْيَوْمَ، وَيَأْخُذُ بِزِمَامِ الْمُبَادَرَةِ هُمُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، وَالدُّعَاةُ النَّاصِحُونَ، وَالْأَوْلِيَاءُ الصَّالِحُونَ؛ فَهُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ وَالنَّصِيبُ الْأَكْبَرُ فِي الظَّفَرِ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ؛ فَهُمْ صِمَامُ أَمَانِ الْأُمَّةِ مِنَ الزَّلَلِ، وَسَدُّهَا الْمَنِيعُ مِنَ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: غَيْرُ خَافِيَةٍ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ حَاجَةُ النَّاسِ الْمَاسَّةُ إِلَى الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ، وَالْأُسْوَةِ النَّاجِحَةِ، الَّتِي تَحُثُّهُمْ إِلَى الْأُمُورِ الْعَالِيَةِ، وَتَحُضُّهُمْ عَلَى إِدْرَاكِ الْمَنَازِلِ السَّامِيَةِ، وَتَأْخُذُ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَدَارِجِ السَّالِكِينَ، وَتَرْتَقِي بِهِمْ فِي مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، بَلْ صَارَتِ الْقُدْوَةُ الْيَوْمَ حَاجَةً مُلِحَّةً وَضَرُورِيَّةً، فِي زَمَنٍ انْدَثَرَتْ فِيهِ مَعَالِمُ الْقُدُوَاتِ، وَانْطَمَرَ فِيهِ بِنَاءُ القَادَاتِ، وَتَصَدَّرَ فِيهِ الْإِمَّعَاتُ، وَصَارَ الشَّبَابُ يَأْخُذُونَ أَخْلَاقَهُمْ مِمَّنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، وَيَتَعَلَّمُونَ دِينَهُمْ مِمَّن لَا دِينَ لَهُ، حَتَّى أَضْحَى وُجُودُ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ الْيَوْمَ أَمْرًا ضَرُورِيًّا لَا بُدَّ مِنْهُ، تِلْكَ الْقُدْوَةُ الَّتِي تَسْتَحِثُّ الْهِمَمَ، وَتَرْفَعُ مُسْتَوَى الِاعْتِزَازِ بِالدِّينِ، وَالِانْتِمَاءِ لِلْأُمَّةِ، وَتَبْنِي الْأَخْلَاقَ، وَتُؤَسِّسُ الْقَادَةَ، وَتَدْعَمُ الْخَيْرَ.

 

وَإِنَّ خَيْرَ مَنْ يَتَصَدَّرُ الْمَشْهَدَ الْيَوْمَ، وَيَأْخُذُ بِزِمَامِ الْمُبَادَرَةِ هُمُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، وَالدُّعَاةُ النَّاصِحُونَ، وَالْأَوْلِيَاءُ الصَّالِحُونَ؛ فَهُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ وَالنَّصِيبُ الْأَكْبَرُ فِي الظَّفَرِ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ؛ فَهُمْ صِمَامُ أَمَانِ الْأُمَّةِ مِنَ الزَّلَلِ، وَسَدُّهَا الْمَنِيعُ مِنَ الْغَوَايَةِ، بَلْ هُمْ خَطُّ الدِّفَاعِ الْأَوَّلِ ضِدَّ مَوْجَةِ التَّغْرِيبِ الْجَارِفَةِ، وَدَرْعُهَا الْحَصِينُ ضِدَّ تَجْرِيفِ الْهُوِيَّةِ.

 

عِبَادَ اللهِ: الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرِثُوا عَنْهُمْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، بَلْ وَرِثُوا عَنْهُمْ عِلْمًا وَفِقْهًا، وَخَيْرًا وَصَلَاحًا، وَعَقِيدَةً وَمَنْهَجًا، وَخُلُقًا وَسَمْتًا، وَحَمَلُوا عَنْهُمْ مَشَاعِلَ الْبَلَاغِ، وَمَفَاتِيحَ الدَّعْوَةِ؛ فَمَنْ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ بِحَظٍّ وَافِرٍ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَضَّلَهُمُ اللهُ وَرَفَعَ قَدْرَهُمْ، وَأَعْلَى مَنْزِلَتَهُمْ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة : 11]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الزمر : 9]، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْعِلْمِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى النَّمْلَةِ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتِ لِيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ"(رواه الترمذي).

 

فَأَيُّ فَضِيلَةٍ تَتَحَصَّلُ بَعْدَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ؟ وَأَيُّ مَكْسَبٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الْمَكْسَبِ؟ بَلْ جَعَلَ اللهُ تَوْقِيرَهُمْ وَإِجْلَالَهُمْ وَاحْتِرَامَهُمْ مِنَ الشَّرْعِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). وَقَالَ طَاوُوسٌ: "إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَوْقِيرَ الْعَالِمِ".

 

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "الْعُلَمَاءُ هُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ؛ بِهِمْ يَهْتَدِي الْحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ".

 

عِبَادَ اللهِ: لِمَاذَا نَقْتَفِي أَثَرَ الْعُلَمَاءِ، وَنَسِيرُ عَلَى خُطَى الصَّالِحِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ؟ وَلِمَاذَا نَقْتَدِي بِهِمْ، وَنَهْتَدِي بِهُدَاهُمْ؟

وَالْجَوَابُ: مَا يَلِي: أَوَّلًا: أَنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَهُمْ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ، وَقَادَةً لِلْعَالَمِينَ؛ وَذَلِكَ لِصَبْرِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24]؛ فَبِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ، وَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ لَزِمَ اتِّبَاعُهُ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَالسَّيْرُ عَلَى نَهْجِهِ، وَاقْتِفَاءُ أَثَرِهِ.

 

ثَانِيًا: أَنَّ طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَامْتِثَالَ أَمْرِهِمْ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِمَا، قَالَ اللهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء:59]. وَقَدْ فَسَّرَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ –تَعَالَى-: (وَأُوْلِي الأَمْرِ) بِأَنَّهُمُ: الْأُمَرَاءُ، وَالْعُلَمَاءُ. فَطَاعَتُهُمْ تَبَعٌ لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

ثَالِثًا: أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ يُرَدُّ إِلَيْهِمُ الْأَمْرُ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ؛ لِمَا خَصَّهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ، وَفَهْمِ الْأُمُورِ، وَإِرْجَاعِهَا إِلَى نِصَابِهَا، قَالَ اللهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 83].

 

رَابِعًا: أَنَّ شَهَادَتَهُمْ قُرِنَتْ بِشَهَادَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْمَلَائِكَةِ؛ فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18]، وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ.

 

وَلَقَدْ ضَرَبَ لَنَا التَّارِيخُ أُنْمُوذَجًا عَظِيمًا فِي الْعَالِمِ الْعَامِلِ، وَالْقُدْوَةِ الصَّابِرِ، وَهُوَ إِمَامُ السُّنَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، يُرْوَى أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيَّ صَاحِبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عِنْدَمَا أَخْبَرَ بِحَمْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْمَأْمُونِ فِي الْأَيَّامِ الْأُولَى لِفِتْنَةِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ؛ عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْخَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا هَذَا أَنْتَ الْيَوْمَ رَأْسٌ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ أَجَبْتَ إِلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ لَيُجِيبَنَّ بِإِجَابَتِكَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تُجِبْ لَيَمْتَنِعَنَّ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ، وَمَعَ هَذَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ –يَعْنِي: الْمَأْمُونَ- إِنْ لَمْ يَقْتُلْكَ فَأَنْتَ تَمُوتُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ؛ فَاتَّقِ اللهَ، وَلَا تُجِبْهُمْ إِلَى شَيْءٍ. فَجَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَبْكِي وَيَقُولُ: مَا قُلْتَ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: مَا شَاءَ اللهُ، مَا شَاءَ اللهُ.

 

وَتَمُرُّ الْأَيَّامُ عَصِيبَةً عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَيُمْتَحَنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ امْتِحَانًا عَظِيمًا، وَيُبْتَلَى ابْتِلَاءً شَدِيدًا، وَلَمْ يَنْسَ نَصِيحَةَ الْأَنْبَارِيِّ.

 

دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ؛ فَقَالَ لَهُ: يَا أُسْتَاذُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[النساء: 29]. فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يَا مَرْوَزِيُّ، اخْرُجْ، انْظُرْ أَيَّ شَيْءٍ تَرَى!! قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى رَحْبَةِ دَارِ الْخَلِيفَةِ، فَرَأَيْتُ خَلْقًا مِنَ النَّاسِ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ، وَالصُّحُفُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَالْأَقْلَامُ وَالْمَحَابِرُ فِي أَذْرُعَتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَرْوَزِيُّ: أَيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ؟ فَقَالُوا: نَنْظُرُ مَا يَقُولُ أَحْمَدُ فَنَكْتُبُهُ، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: مَكَانَكُمْ. فَدَخَلَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ –رَحِمَهُ اللهُ- فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ قَوْمًا بِأَيْدِيهِمُ الصُّحُفُ وَالْأَقْلَامُ يَنْتَظِرُونَ مَا تَقُولُ فَيَكْتُبُونَهُ، فَقَالَ: يَا مَرْوَزِيُّ أُضِلُّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ؟! أَقْتُلُ نَفْسِي وَلَا أُضِلُّ هَؤُلَاءِ". قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْخَبَرِ: "هَذَا رَجُلٌ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ؛ فَبَذَلَهَا، كَمَا هَانَتْ عَلَى بِلَالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَفْسُهُ، قَالَ خُبَيْبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ:

فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَال شَيْلٍ مُمَزَّعِي".

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ لِلِاقْتِدَاءِ بِالْعُلَمَاءِ وَالتَّأَسِّي بِالْأَوْلِيَاءِ آثَارًا حَمِيدَةً، وَفَوَائِدَ جَلِيلَةً، مِنْ أَهَمِّهَا:

تَرْغِيبُ النَّاسِ فِي دِينِ اللهِ، وَتَحْبِيبُهُمْ فِي شَرْعِهِ؛ فَالْقُدْوَةُ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنَ الْوَسَائِلِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَجَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ فَكَمْ مِنْ أَرْضٍ كَانَتْ خَرَابًا لَا يُرْفَعُ فِيهَا أَذَانٌ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهَا إِسْلَامٌ، وَلَا تُقَامُ فِيهَا شَرِيعَةٌ، كَانَ الْعَالِمُ الْقُدْوَةُ سَبَبًا فِي انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَقْطَارِهَا، وَارْتِفَاعِ الْأَذَانِ فِي أَرْجَائِهَا، بِسَبَبِ أَخْلَاقِهِ الْحَسَنَةِ وَأَفْعَالِهِ الْحَمِيدَةِ.

 

وَمِنْ أَثَرِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي بِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُمْ بِمَا يُثِيرُونَهُ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالْإِعْجَابِ بِأَعْمَالِهِمْ وَعِلْمِهِمْ؛ يُهَيِّجُونَ دَوَافِعَ الْغَيْرَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَالْمُنَافَسَةِ الشَّرِيفَةِ؛ فَيُسَارِعُ النَّاسُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَالتَّأَسِّي بِنَهْجِهِمْ.

 

وَمِنَ الْآثَارِ كَذَلِكَ: أَنَّهُمْ يَحْفَظُونَ لِلنَّاسِ دِينَهُمْ فِي وَقْتِ الْمِحَنِ، وَيَدْعُونَهُمْ لِلثَّبَاتِ فِي وَقْتِ الْإِحَنِ، فَبِثَبَاتِهِمْ تَثْبُتُ الْأُمَّةُ، وَبِصُمُودِهِمْ يَصْمُدُ النَّاسُ.

 

وَمِنَ آثَارِ الِاقْتِدَاءِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ: انْتِشَارُ الْفَضَائِلِ، وَتَعْمِيمُ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ بِمَا يُعْطُونَهُ مِنْ قَنَاعَةٍ بِأَنَّ بُلُوغَ الْفَضَائِلِ الْعَالِيَةِ، وَالْأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ أَيُّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ فِعْلَهَا، وَالتَّأَسِّيَ بِهَا.

 

وَمِنَ الْآثَارِ كَذَلِكَ: أَنَّ وُجُودَ الْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالْمُصْلِحِينَ الْعَامِلِينَ بَرَكَةٌ عَلَى مُجْتَمَعَاتِهِمْ؛ فَهُمْ كَالْغَيْثِ أَيْنَمَا حَلَّ نَفَعَ، وَكُلَّمَا وُجِدُوا فِي مَكَانٍ وُجِدَتْ مَعَهُمُ الْأُلْفَةُ وَزَادَتْ مَعَهُمُ الْمَحَبَّةُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ قُلُوبُ النَّاسِ.

 

عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّ مِنْ أَخْطَرِ الْحُرُوبِ الْمُعْلَنَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ حَرْبَ إِسْقَاطِ الرُّمُوزِ، وَالسَّعْيِ فِي تَقْزِيمِ وَتَشْوِيهِ الْقُدُوَاتِ، ابْتِدَاءً مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَانْتِهَاءً بِالْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ؛ فَأَعْدَاءُ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ لَا يَدَّخِرُونَ جُهْدًا فِي هَذِهِ الْحَرْبِ الشَّعْوَاءِ الَّتِي يَسْعَوْنَ مِنْ وَرَائِهَا إِلَى التَّشْكِيكِ فِي نَقَلَةِ الدِّينِ، وَحَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَحُمَاةِ الْمِلَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ الطَّيِّبِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالدُّعَاةِ الصَّادِقِينَ. لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، مُسْتَخْدِمِينَ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ لِغَايَاتِهِمْ شَتَّى السُّبُلِ وَالْوَسَائِلِ، وَالْغَايَةُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَتْبَاعِ وَالْقِيَادَةِ، وَالتَّهْوِينُ مِنَ شَأْنِ الْقُدُوَاتِ؛ فَإِذَا تَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ أَصْبَحَتِ الْأُمَّةِ لَا قَادَةَ لَهَا، فَتَشَرْذَمَتْ، وَتَمَزَّقَتْ، وَتَبَعْثَرَتْ، وَصَارَتْ ذَلِيلَةً، لَا يَجْمَعُهَا جَامِعٌ، وَلَا يَلُمُّ شَعَثَهَا لَامٌّ.

 

وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَنَّ أَعْدَاءَ الْأُمَّةِ قَدْ عَلِمُوا تِلْكَ الْمَكَانَةَ الَّتِي يَتَصَدَّرُهَا الْعُلَمَاءُ، وَيَتَبَوَّؤُهَا الْفُضَلَاءُ، فَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي تَصْوِيبِ سِهَامِهِمْ نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْقُدُوَاتِ؛ لِيُسْقِطُوهُمْ مِنْ مَكَانَتِهِمْ، وَلِيَسْتَبْدِلُوهُمْ بِسَقَطِ الْمَتَاعِ؛ فَكُلَّمَا بَرَزَ عَالِمٌ أَوْ نَجَحَ مُصْلِحٌ اسْتَشَاطَ هَؤُلَاءِ غَضَبًا، فَأَخَذُوا يَتَصَيَّدُونَ أَخْطَاءَهُ، وَيَجْمَعُونَ زَلَّاتِهِ، وَكُلَّمَا وَجَدُوا لَهُ هَفْوَةً طَارُوا بِهَا، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ اخْتَلَقُوا لَهُ زُورًا، وَاتَّهَمُوهُ بَاطِلًا، وَصَنَعُوا لَهُ بُهْتَانًا.

 

وَلَكُمْ أَنْ تَتَصَوَّرُوا -أَيُّهَا الْأَفَاضِلُ- كَمْ هِيَ الْمُعَانَاةُ الَّتِي سَتَعِيشُهَا الْأُمَّةُ إِذَا تَمَّ التَّمَرُّدُ عَلَى رُمُوزِهَا الَّذِينَ يَسْعَوْنَ جَاهِدِينَ إِلَى جَمْعِ شَمْلِ الْأُمَّةِ، وَتَوْحِيدِ صَفِّهَا، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهَا، وَحَثِّهَا عَلَى الِالْتِفَافِ حَوْلَ قِيَادَاتِهَا، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ نَبِيِّهَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ!

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعُلَمَاءِ خَرْقٌ فِي الدِّينِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: "وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ -أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفَقْهِ وَالنَّظَرِ- لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ، فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ". 

 

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: "مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْأُمَرَاءِ ذَهَبَتْ دُنْيَاهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْإِخْوَانِ ذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ".

 

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ الْأَذْرَعِيِّ: "الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ -وَلَا سِيَّمَا أَكَابِرُهُمْ- مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ".

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَجِبُ عَلَيْنَا إِبْرَازُ دَوْرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُصْلِحِينَ، وَتَسْلِيطُ الضَّوْءِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَنَشْرُ الْوَعْيِ فِي الْمُجْتَمَعِ بِأَنَّ الْقُدْوَةَ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ لَا فِي الشَّرِّ، وَفِيمَا يَنْفَعُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، لَا فِيمَا يَضُرُّ مَصَالِحَهُمَا، وَفِيمَنْ يَسْعَى لِلنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ دِينًا وَدُنْيَا، لَا فِيمَنْ يَسْعَى إِلَى تَحْطِيمِهَا وَخَلْخَلَتِهَا.

 

وَعَلَيْنَا أَنْ نُسَانِدَ الْإِعْلَامَ الْهَادِفَ الَّذِي يُحَافِظُ عَلَى صُورَةِ الْقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ، وَيَنْشُرُ مَزَايَاهَا، وَيُظْهِرُ مَحَاسِنَهَا، وَيَذُبُّ عَنْهَا، وَيُدَافِعُ عَنْ أَعْمَالِهَا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

المرفقات

الاقتداء بالعلماء والأولياء.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات