الاستعداد للرحيل

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الغاية من الخلق 2/الدنيا مزرعة الآخرة 3/فما هو موعد الموت؟ 4/الموت فجأة 5/من أحوال الغافلين عن الموت 6/حال السلف مع الموت

اقتباس

نسوا هادم اللذات، ومفرق الجماعات، فوقعوا في كثير من المخالفات، وارتكبوا ألوانا من المنهيات والمحرمات، وبينما أحدهم في غمرة ذلك ناسيا للموت لم يخطر له على بال، إذ هجم عليه من غير ميعاد، فلم يتمكن من إدراك نفسه من توبة صادقة، فربما لقي ربه محملا بالأوزار والآثام -نسأل الله حسن الختام-. فلنكن -عباد الله- على حذر من هذا المآل، ولنتدارك النفس قبل فوات الأوان، فكل عمل نقوم به...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

وبعد:

 

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي خير الزاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم الآزفة: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88- 89].

 

أيها الأخوة المؤمنون: إن الله خلقنا والجن لحكمة بالغة، خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملا: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2].

 

خلقنا لنعبده وحده لا شريك له ولنخلص له العبادة، وخلق الليل والنهار، وجعلهما خزائن للأعمال يحصي علينا ما لنا وما علينا: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].

 

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) [النبأ: 29].

 

وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليبين لنا طريق الحق، وطرق الضلال ورتب عليهم الثواب والعقاب ثم ترك لنا الخيار سبحانه في اختيار الطريق حتى يكتمل العدل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 3].

 

أيها المسلمون: إن هذه الدنيا مزرعة الآخرة، يفوز فيها المتقون ويخسر فيها الغافلون، وكل الناس يعلم أن الحياة الدنيا ليست لحي سكنا ولا مستقرا، فهي سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، ولقد قال الله -تعالى-: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].

 

وقد قدم الله الموت على الحياة في قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) كي يفكر الإنسان في أجله ولا يستغرق في طول الأمل.

 

نعم لقد كتب الله الفناء في هذه الدنيا على كل شيء: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88].

 

وحكم بالموت على كل حي: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27].

 

كل نفس يا عباد الله لابد أن تذوق الموت، صغيرة أم كبيرة، غنية أم فقيرة، وزيرة أو حقيرة، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 57].

 

معاشر المسلمين: إن من عظم الابتلاء أن لا يدري الإنسان متى يفاجئه الأجل، ولا أشد وأعظم على الميت وأهله من إتيان الموت له ،فجأة وهو في كامل صحته، وعنفوان قوته، وتمام نشاطه، فبينما هو يتقلب في نعيم العيش مسرورا، لم يحسب للموت حسابا، ولم يظن أهله أن ينزل به الآن، إذا هو به قد سقط ميتا، لا حراك به.

 

فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حين من الدهر

 

وهنا ينفصل أهل الغفلة ويتمايزون عن أهل المراقبة، فأهل الغفلة مقصرون مهملون في واجباتهم، لاهون عابثون، كسالى عن صلاتهم، قاسية قلوبهم، لا للدين في فكرهم وحياتهم سوى أقل القليل، آكلون لحقوق الناس، مستهزئون بأهل الخير، ظالمون بأهلهم وأولادهم ونسائهم، أمالهم طويلة، وأفئدتهم هواء.

 

أما أهل المراقبة: فهم ينعمون بحياة بلا قلق، لقد أصلحوا ما بينهم وبين ربهم قدر استطاعتهم، واستعدوا للموت بكثرة ذكرهم، وإحسان العبادة، فالله در أقوام علموا قرب الرحيل فهيئوا الزاد للسفر الطويل، فقاموا بما أمر الله، ورقت قلوبهم فتركوا ما نهى عنه جل وعلا، هونوا الدنيا فقنعوا منها بالقليل، واستوثقوا بزاد التقوى واستعدوا للسفر، وحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

 

لما احتضر سليمان التيمي، قيل له: "أبشر فقد كنت مجتهد في طاعة الله، قال: لا تقولوا هكذا فإن لا أدري ما يبدو لي من الله -عز وجل-، فإنه سبحانه يقول: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)" [الزمر: 47].

 

إن كثيرا من الناس في هذا الزمان استولى عليهم حب المال والجاه والمنصب، حتى ضيعوا حياتهم لهوا ولعبا، وظلما، فلا يتكلمون إلا في مظاهر الدنيا، ولا وقت لديهم لسماع موعظة قصيرة، لا وقت لديهم لسماع كلمة نافعة، لا وقت لديهم لسماع ما ينفعهم.

 

نسوا هادم اللذات، ومفرق الجماعات، فوقعوا في كثير من المخالفات، وارتكبوا ألوانا من المنهيات والمحرمات، وبينما أحدهم في غمرة ذلك ناسيا للموت لم يخطر له على بال، إذ هجم عليه من غير ميعاد، فلم يتمكن من إدراك نفسه من توبة صادقة، فربما لقي ربه محملا بالأوزار والآثام -نسأل الله حسن الختام-.

 

فلنكن -عباد الله- على حذر من هذا المآل، ولنتدارك النفس قبل فوات الأوان، فكل عمل نقوم به مسجل في صحيفة أحدنا يوم الجزاء والحساب، إذا جاء الديان، ونشرت الدواوين، وتطايرت الصحف، وفتحت السجلات للفصل والقضاء، فكيف يكون حال العبد الفقير؟

 

إن العاصي لو عصى مخلوقاً لجزع من لقائه، فكيف بمن يعصي خالق الكون جل جلاله؟!

 

فكيف يلقى خالقه محملاً بأوزاره وآثامه؟

 

بكى محمد بن المنكدر عند الوفاة، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئاً حسبته هيناً، وهو عند الله عظيم.

 

فكم من المسلمين اليوم مع الأسف من يجاهر بالمعاصي العظام، والكبائر الجسام، جهاراً نهاراً، بلا خوف ولا حياء من جبار الأرض والسماء.

 

ربا وزنا، ولواط ومخدرات، دخان ومسكرات، مشاهدة للمحرمات، وسماع للأغاني الماجنات، والطامة العظمى، والمصيبة الكبرى، هجران للصلوات، وعقوق للوالدين، وقطيعة للأرحام.

 

قال عبد الله بن عمر: "كان رأس عمر بن الخطاب على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال: ضع رأسي على الأرض، فقلت: ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي، فقال: لا أم لك، ضعه على الأرض، فقال عبدالله: فوضعته على الأرض، فقال عمر: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي -عز وجل-".

 

هذا عمر الفاروق -رضي الله عنه- مبشر بالجنة، ويقول ما قال، فكيف بمن لم يبلغ شيئاً يسيرا من منزلته؟

 

إن القضية عند عمر وأمثاله من الصالحين ليست قضية ذنوب وكبائر ارتكبها، إن القضية عنده هي إيمان وقر في قلبه، فجعل لله في قلبه خشية لا تعلوها خشية، ومهابة لا تعلوها مهابة، وحب لا يعلوه حب، أطغي كل هذا عليه تحقيرا في نفسه لذات الله، وتحقيرا لأعماله لذات الله، إذ هو سبب هدايته وتوفيقه ولولاه فما اهتدى.

 

وكان يخاف رضي الله عنه هو والصالحين أمثاله يخاف من قدرة الله على تعذيبه دون سؤاله، فبالرغم من عدله وصدقه من الوفاء بعدله سبحانه، فهو الملك الأحد الذي خلق كل شيء لعذب الناس كلهم ولا يبالي.

 

ولهذا قال معاوية -رضي الله عنه- عند موته لمن حوله: أجلسوني، فأجلسوه، فجلس يذكر الله، ثم بكى وقال: الآن يا معاوية، الآن جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام، أما كان هذا وغض الشباب نضير ريان.

ثم بكى وقال: يا رب، يا رب، ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرجو غيرك ولا وثق بأحد سواك، ثم فاضت روحه رضي الله عنه.

 

ودخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله واردا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشد يقول:

 

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا نحو عفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كـان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب *** لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما

فلله در العارف الندب إنه *** تفيض لفرط الوجد أجفانه دما

يقيم إذا ما الليل مد ظلامه *** على نفسه من شدة الخوف مأتما

فصيحا إذا ما كان في ذكر ربه *** وفيما سواه في الورى كان أعجما

ويذكر أياما مضت من شبابه *** وما كان فيها بالجهالة أجرما

فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما

يقول حبيبي أنت سؤلي وبغيتي *** كفى بك للراجين سؤلا ومغنما

ألست الذي غذيتني وهديتني *** ولا زلت منانا على ومنعما

عسى من له الإحسان يغفر زلتي *** ويستر أوزاري وما قد تقدما

 

هكذا كان حال الصالحين متواضعين لله، أوابين، تعلقت قلوبهم بالآخرة، وحديث نبي الله حاضر في أذهانهم، حين خط في الأرض خطوطا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب".

 

ويحضرهم وعظه صلى الله عليه وسلم لابن عمر حين أخذ بمنكبه، وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " وابن عمر كان يقول: "إذ أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

 

أنشأ أبوبكر:

 

كل امرؤ مصبح في أهله *** والموت أدني من شراك نعله

 

فلنحرص -بارك الله فيكم- على الإعداد ليوم المعاد فإنه آتي قريب، قال علي -رضي الله عنه-: "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما وطول الأمل فينسي الآخرة".

 

أسأل الله -تعالى- أن يحسن خاتماتنا.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

 

وبعد:

 

فيا عباد الله: كثيرا ما نعزي، وكثيرا ما نعزى، كثيرا ما نشيع إلى المقابر ولكن هل نعتبر؟ هل نتفكر في أمرنا؟

 

قال أبو محمد بن علي جنازة بالكوفة وخرج فيها داوود الطائي فقعد ناحيتها، وهي تدفن تلك الجنازة، فجئت فقعدت قريبا منه فتكلم، فقال: "من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آتً قريب".

 

واعلم أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور.

 

فاتقوا الله –إخواني- واستغفروه واعلموا أنكم إليه راجعون، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

 

أسأل الله -تعالى- أن يجعل خير أعمارنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقاءه.

 

 

 

 

المرفقات

للرحيل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات