الاستعجال وصوره

د. منصور الصقعوب

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
صاحب العجلة -يا كرام- إن أصاب فرصته لم يكن محمودًا، وإن أخطأها كان مذمومًا، والعجِل لا يسير إلّا مناكبًا للقصد، منحرفًا عن الجادّة، يلتمس ما هو أنكد وأوعر وأخفى مسارًا، كي يصل بأخصر الطرق...

اقتباس

صاحب العجلة -يا كرام- إن أصاب فرصته لم يكن محمودًا، وإن أخطأها كان مذمومًا، والعجِل لا يسير إلّا مناكبًا للقصد، منحرفًا عن الجادّة، يلتمس ما هو أنكد وأوعر وأخفى مسارًا، كي يصل بأخصر الطرق...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

معشر الكرام: طَبَعَ الله المرء على خلال حسنة، وأخرى دون ذلك, وفي ابن آدم خصال حميدة، وأخرى ذميمة, والمرء في حياته يسعى لتكميل قصوره، وتهذيب أخلاقه, وتتميم مكارم شيمه, ونبذ ذميم تصرفاته, وهو في ذلك مأجور على كل خلق حسن يتمثله.

 

وهاهنا خصلة في ابن آدم وردت في معرض الذم, ومع هذا فالمرء مفطورٌ عليها, يتفاوت الناس فيها, غير أن كل امرئ له منها نصيب, نراها من أنفسنا فنعذّر لأنفسنا مرددين الآيات التي فيها, ونراها من غيرنا فنلومهم عليها؛ إنها العجلة والاستعجال, وهي فعل الشّيء قبل وقته اللّائق به, هي خلاف البطء والتؤدة والروية, وقرينة الإسراع, وصنوة الاستحثاث.

 

وفي القرآن: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37].

 

(وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11] أي طبعُه العجلةُ, فيعْجَلُ بسؤال الشّرّ كما يعجل بسؤال الخير، ويؤثر العاجلَ وإن قلّ على الآجل وإن جلّ.

 

وقد قيل: إن العجول قد يفوته خير التؤدة, وثمرة التروي وغنيمة الرفق, وما رأيت امرءًا استعجل في أمرٍ قبل أوانه إلا وندم, ولا أحدًا تروى وتأنى إلا أفلح وغنم, فالزلل من العَجِل قريب.

 

لا تعجلنّ فربّما *** عجل الفتى فيما يضرّه

ولربّما كره الفتى *** أمراً عواقبه تسرّه

 

قال ابن حبان البستي: "كان يقال: لا يوجد العجول محمودًا، ولا الغضوب مسرورً، ولا الملول ذا إخوان".

 

صاحب العجلة -يا كرام- إن أصاب فرصته لم يكن محموداً، وإن أخطأها كان مذموماً، والعجِل لا يسير إلّا مناكباً للقصد، منحرفاً عن الجادّة، يلتمس ما هو أنكد وأوعر وأخفى مساراً، كي يصل بأخصر الطرق, وقد قال الأولون: العَجِل تصحبه النّدامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة أمّ النّدامات, وقال المهلب بن أبي صفرة: "أناة في عواقبها درك, خير من عجلة في عواقبها فوت".

 

وحين تُذكر العجلة والاستعجال في القرآن فلا تحسبن لها صورة واحدة, بل صورها عديدة, يتجلى معها مغبة العجلة, وغنيمة التؤدة.

 

فمن ذلك: أن يستعجل البعض نصرة الإسلام, ولربما استطال الطريق فأدى به ذلك إلى انتكاسٍ أو فتور, أو ربما تجاوز الحد وفعل مالا يجوز له, ولو تروى وما استعجل لأدرك أن تغيير الواقع السيء ربما يحتاج لبناء سنوات.

 

ها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُبعَث والأصنام تملأ جوف الكعبة، وتحيط بها من كل جانب، لم يقم بإزالتها مباشرة, حتى وطّن التوحيد في القلوب, ونزعها من النفوس, فجاء في العام الثامن مَن كانوا يعظمونها وبأيديهم كسّروها.

 

أي أنها بقيت منذ بُعث, إلى يوم تحطيمها عشرين سنة؛ ليقينه بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم، قبل أن تُحَطّم من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع، وأشنع، فيعظم الإثم، ويتفاقم الضرر، لذلك تَرَكها، وأقبل يُعِدُّ الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب, حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة، ويزيل الأصنام، مردداً: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81].

 

وها هو صلى الله عليه وسلم يخاطب عائشة -رضي الله عنه- قائلاً: "لولا حدثان قومك بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم" [متفق عليه].

 

لقد امتنع صلى الله عليه وسلم من تجديد الكعبة، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى منكر أكبر، وهو الفرقة والشقاق، بدليل قوله في رواية أخرى: "ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم" [متفق عليه].

 

إنه درس نحتاجه في واقعنا -أيها الكرام- أن نعمل لنصرة الإسلام, وندع النتائج للأيام, فإن أدركنا ذلك فخير, وإن رحلنا فيكفي أننا بذرنا.

 

وفي المنكرات كذلك ليس المطلوب منا أن نبادر لإنكار المنكر بأي طريقة, إنما المطلوب تغيير المنكر, وذاك قد يستدعي أحياناً طول نفس, وحكمةً في توجيه القلوب لاستنكاره, ليُنزع من القلوب, حينما نُزيله من الأرض.

 

عباد الله: والاستعجال في الدعاء صورة أخرى, ترى ذلك الرجل يرفع يديه إلى الكريم يدعو, ثم لا يرى إجابة قريبةً فيكسل, ويتحسّر إذ تعجّل, ويدع الدعاء, وما درى أن لله حكماً لا تُحصى في تأخير إجابة الدعاء, فليرض امرؤٌ بما قدر الله وقضى, وفي الصحيح: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ, قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاِسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: "يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِى فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ".

 

عباد الله: وعجلة أخرى ليست من كمال أدب الدعاء, حين يبدأ الطلب والسؤال قبل تقديم الثناء لذي الجلال, وأدبُ الدعاء أن يثني على الله, ثم يسأل ما شاء, وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم رأى داعياً بدأ بالمطلب أول ما بدأ، فقال: "عَجِلَ هَذَا" ثُمَّ قال لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِي, ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ".

 

أيها الكرام: والاستعجال والتسرع في التصدر والإفتاء مزلّة قدم, وربما وقع المرء فيما لا يحسنه, فتعاظم أن يُظهِر جهله, فقال ما لا يعلمه, كي لا يُقال إنه لا يعلم, فيجيب بما اتفق كي يخرج من حرج سائله, وينسى أن يجد لنفسه مخرجاً عند لقاء ربه.

 

ومثله -يا مباركُ- الإفتاء بما لم تتضح معالمه من السؤالات, وكم سؤالٍ يُعرَضُ على مفتٍ فلا يتضح له, وربما اختلف توصيف الواقع, والحق أن لا تفتي إلا بما تتيقنه كالنجم الساطع, قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: "العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق, وكان يقال التأني من الله والعجلة من الشيطان".

 

ولم يكن السلف يفتون بأمر إلا وقد وقع, قال الشعبي: سئل عمار عن مسألة، فقال: كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم".

 

وقال معاذ بن جبل: "لا تعجّلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال وُفق وسُدد، وإنكم إن استعجلتم بالبلية قبل نزولها ذهب بكم السبل ها هنا، وها هنا".

 

عباد الله: والاستعجال في الكلام والحديث صورة من العجلة لا تحسن, ذلكم لأن العجلة في الحديث مظنة عدم فهم الكلام على وجهه من لدن المستمع، ولذا كان كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا عجلة فيه, يفهمه من جلس إليه، وفي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحدث حديثاً لو عدَّه العاد لأحصاه".

 

وفي رواية: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يسرد سردكم هذا, يتكلم بكلامٍ بينه فصلٌ يحفظه من سمعه".

 

قال ابن حجر: أي لا يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض، لئلا يلتبس على المستمع.

 

عبد الله: والاستعجال في طلب الرزق صورة من العجلة, والأرزاق كُتِبَت وستأتي, لكن من استعجل ربما طلبه من وجه محرم, ولو صبر لجاءه رزقه من وجه مباح.

 

وقد قيل:

 

لا تعجلنّ فليس الرّزق بالعجل *** الرّزق في اللّوح مكتوب مع الأجل

فلو صبرنا لكان الرّزق يطلبنا *** لكنّه خلق الإنسان من عجل

 

عباد الله: والعجلة في أداء الصلاة، والإسراع في أداء أركانها، وفقدان الطمأنينة في أدائها، صورة من العجلة المذمومة, والنبي أمر من أساء في صلاته أن يعيدها، وقال له: "صل فإنك لم تصل".

 

فاذكر -يا مؤمن- أن ركن الصلاة الطمأنينة فيها, بتأنٍ بلا عجلة, وروية بلا سرعة, ذاكرًا في كل ركن أذكاره, مستكملاً أداءه.

 

عباد الله: والعجلة في المشي والمراكب, والسيارات, صورة من العجلة مذمومة, كم أودت بروح, وخلفت من جروح, واغتالت من طموح, تهورٌ في القيادة, وسرعةٌ وإلقاء باليد للتهلكة, ولو تأمل المرء في حاله لوجد أن عجلته ربما أورثته ندماً, وتأخراً, وربما موتاً, فعلام الاستعجال, والقضايا من حولنا شاهداتٌ أنه ما خاب من تأنى, وأن من سار على الدرب وصل, وأن تصل متأخراً خير من أن لا تصل.

 

تلك أمور -معشر الفضلاء- لا تظنوا أن التنبيه لها من مهمات جهة وإدارة معينة, فلسنا في مناسبة لذلك, ولم يأت توجيه بهذا, لكن ديننا يأمرنا بالرفق, وبالتؤدة, وينهانا عن المجازفة وعن العجلة, وفي صفات عباد الرحمن: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان: 63]، فما نصيبنا من هذه الصفات؟

 

اللهم صل على محمد.

 

 

الخطبة الثانية:

 

وحين تأتي الفتن الملهمات, والأحداث المتلاطمات, يتأكد التنويه على عدم الاستعجال في المواقف والقرارات, وعدم المسارعة في المستجدات, فكم من امرئ رُفع له علمٌ فما تبينه, ونُدب لرأي وفِعلٍ في زمن التباس الأمور وما استثبته, فولج في هذا الباب فندم على القرار, وتمنى لو كان بينه وبين ما بُلي فيه بُعد المشرقين, لكنها الفتن تصيب كل من أعطى لها طَرَفاً ليناً, قال قتادة بن دعامة: "قد رأينا والله أقوامًا يُسرعون إلى الفتن، وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبةً لله، ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفسًا، وأثلج صدورًا، وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها، وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازاتٍ على قلوبهم كلما ذكروها، وَايمُ اللهِ! لو أن الناس يعرفون من الفتنة إذا أقبلت كما يعرفون منها إذا أدبرت، لعقل فيها جيل من الناس كثير.

 

ولما جيء إلى مطرف بن عبد الله زمن فتنة ابن الأشعث ولامه البعض على التباطؤ في المشاركة قال: "لئن آخذ بالثقة في القعود، أحب إلي من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير".

 

وستجد أسعد الناس في الفتن من تجبنها وأبطأ فيها, وفي السنن بسند حسن: "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر".

 

فإذا ما دعاك الناس لاتخاذ موقفك من أمر وأنت لم تتضح لك معالمه, فلست بذلك ملزماً, ولأن تُلام على سكونك وسكوتك وتأخرك أهون من أن تلام على ولوجك واستشرافك, وقد جاء القوم إلى سعد بن أبي وقاص زمن ما وقع بين علي ومعاوية فقال لهم: "مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء, فبينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجّاجة، فضلوا الطريق، والتبس عليهم, فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين, فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا, وقال آخرون: الطريق ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا, وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فننيخ, فأناخوا فأصبحوا فذهبت الريح وتبين الطريق, ونحن نلزم ما فارقنا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نلقاه ولا ندخل في شيء من الفتن, لعمر الله فقه ما أبدعه, وعلم ومنطق ما أروعه, وأناة ما أحوجنا لها.

 

عباد الله: وإذا كانت العجلة فيما مضى تذم, فإنها قد تحمد وتطلب, وبها يرغّب, حين يكون الخيارُ هو طاعةُ الله أو الكسل, فاعجل لطاعة المولى, ولا ملامة حينها ولا ذم, وفي الحديث: "التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة".

 

ففي طاعة ربك سارع إلى الجنات, سابق إلى المغفرة, استبق الخيرات, وقل بفعلك وقولك: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طـه: 84]، فزد ما قدرت, وأسرع ما استطعت, واعجل لربك مكنتك، وحين يحين الرحيل سيحمد السابقون, المكثرون المبادرون, وسيعلم الذين ظلموا وفرطوا أي منقل ينقلبون.

 

تلكم -يا كرام- إلماحات وإشارت في موضوع الاستعجال, استعجلت في ذكرها, لضيق المقام, ولعل هذا الاستعجال مما يحمد كي لا أطيل, نفع الله بذلك, ورزقنا قلوباً للخير مسرعة, وعن الشر مبطّئة, تمشي على الأرض مشياً هوناً, وتسير إلى ربها بالطاعات عجلى.

 

اللهم صل على محمد...

 

 

المرفقات

وصوره

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات