عناصر الخطبة
1/ في مرور الأيام والشهور والأعوام عبرة وعظة للأنام 2/ كيف يفرح الإنسان بانتهاء الأيام وانقضاء الأعوام؟ 3/ وجوب محاسبة النفس على ما قدمت 4/ أضرار الذنوب والمعاصي 5/ إصلاح الأفراد فيه صلاح الأمم 6/ التنبيه على بعض الأخطاء في دخول عام وخروج عام 7/ التحذير من المسارعة في نشر البدع والمحدثات 8/ لم يثبت أثر صحيح في دخول عام ولا خروج عام.اقتباس
ليفكر كل واحد منا, ماذا أودع تلك الأيام؟ وملأها بطاعة الملك العلام, كم نافس وسابق؟ كم سارع ولاحق؟ كم قربة اجتهد فيها؟ وعمل مبرور سعى إليه؟, ليفكر كل واحد منا, ما مدى حاله مع ما أوجب الله عليه؟ هل قام وأداه وأرضى مولاه؟ أم هو اتبع شيطانه وهواه؟ ماذا عن الصلوات؟ ماذا عن صيام رمضان, وزكاة الواحد المنان؟ ماذا عن حج بيته الحرام، وإطابة الشراب والطعام؟ ماذا عن بر الوالدين وصلة الأرحام؟ ماذا عن حسن الجوار وإصلاح الحال، والاستقامة على الأعمال الصالحة في كل حال؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا, وأشهد أن لا إله إلا الله, مقلب الليل والنهار تبصرةً وذكرى, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, أكرم عباد الله تقوى.
أما بعد: فاتقوا ربكم الذي خلقكم, واتقوا الذي منّ وسخر لكم الليل والنهار.
عباد الله: إن الله جعل في الليل والنهار عِبَرا, وفي المساء والصباح فِكَرا, وجعل تقلب الليالي والأيام والشهور والأعوام عبرة وعظة للأنام، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44].
ومن عبرها: أنها تطوي الأعمار, وتنهي الآجال, فالعمر محدود, والزمان معدود, فالدنيا ساعة، فاجعلها طاعة.
ألا إنما دنياك ساعة *** فاجعل الساعة طاعة
واحذر التقصير فيها *** واجتهد مقدار ساعة
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
قال أبو الدرداء: "إنما أنت أيام, كلما مضى يوم مضى بعضك".
قال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره؟ وشهره يهدم سنته؟ وسنته تهدم عمره؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله؟ وحياته إلى موته؟".
أليس من الخسران أن لياليًا *** تمر بلا نفع وتحسب من عمري؟
إن الإنسان –إخوتي في الله- يفرح بمرور الأيام, وتمام الأعوام, لينال مُرتبًا أو جُعلًا أو رَزقًا أو عطاءً أو دينًا أو قسطًا, أو علاوة أو أجرة أو بيعًا أو شراء, يفرح ومن حقه أن يفرح فيما أباح الله له, ولكن السؤال هو أن الفرح في الحقيقة, فرح بانتهاء الأيام وانقضاء الأعوام.
نجد سرورًا بالهلال إذا بدا *** وما هو إلا السيف للحد ينتضى
إذا قيل تم الشهر هو كناية *** وترجمة عن شطر عمر قد انقضى
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضي يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخسران في العمل
أيها المسلمون: كم قربت الأيام بعيدًا؟! وكم أدنت قريبًا؟! كم كبّرت صغيرًا وأهرمت كبيرًا؟! وذلّت عزيزًا وعزت ذليلا؟! كم أفقرت غنيًا وأغنت فقيرًا؟! (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140], فسبحان مَن كل يوم هو في شأن, إن الذي تمضي به الأيام كالذي يعبر الأسفار, ويقطع الفيافي والقفار, يقرّب من مراده، ويبعد عن وطنه وأحبابه, فهكذا الأيام تقرّب في كل لحظة من الآخرة, وتباعد من الدنيا, والليل والنهار يقربان البعيد, ويبليان الجديد.
أيا ويح نفسي من نهار يقودها *** إلى عسكر الموتى وليل يذودها
فالسعيد من بادر الزمان, وسارع إلى إرضاء الرحمن, وتاب وأناب, واستعد ليوم الحساب.
أيها الإخوة المسلمون: نحن مسافرون, نعم، وسوف نستقر إلى سفر بلا عودة, منذ أن خرجنا من بطون أمهاتنا, فنحن مسافرون.
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر
ولابد للإنسان من حمل عدة *** ولاسيما إن خاف صولة قاهر
إنكم عباد الله في هذه الأيام, تودعون عامًا شاهدًا عليكم, وتستقبلون عامًا جديدًا مقبلًا إليكم, تمر الأسابيع، وتمضي الشهور والأعوام, وتطلع شمس وأقمار وتغيب، وتزهر نجوم وتنير، وتأفل وتغور, فإذا العام قد انقضى، عام جديد حل, وعام مضى, قال الفضيل بن عياض لرجل أتت عليه ستون سنة, قال: "فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك, يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل: أتعرف تفسيرها؟ قال: لا. قال: من عرف أنه لله عبد, وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف, ومن علم أنه موقوف, فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول, فليعد للسؤال جوابًا. فقال الرجل: فما الحيلة؟. قال: يسيرة. قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بقي، يغفر لك فيما مضى, فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي".
فالعاقل الناصح الموفق، من استعد لما أمامه، وأخذ من شبابه لهرمه, ومن فراغه لشغله, ومن حياته لموته, ومن غناه لفقره, ومن صحته وعافيته لسقمه ومرضه.
والتأني في كل عمل محمود, إلا في عمل الآخرة, فهو غير محمود, فالمرء لا يدري ما يعرض له من موت, أو عائق, أو حائل بينه وبين العمل الصالح, فقد تتغير الحال, ودوام الحال من المحال, وتنقلب الأمور، وتنعكس ما في الصدور, ليفكر كل واحد منا, ماذا في عمر أمضاه, وشباب أبلاه؟, ماذا في عام خلّفه, وأيام تركها؟
أحلام نوم أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع
ليفكر كل واحد منا, ماذا أودع تلك الأيام؟ وملأها بطاعة الملك العلام, كم نافس وسابق؟ كم سارع ولاحق؟ كم قربة اجتهد فيها؟ وعمل مبرور سعى إليه؟, ليفكر كل واحد منا, ما مدى حاله مع ما أوجب الله عليه؟ هل قام وأداه وأرضى مولاه؟ أم هو اتبع شيطانه وهواه؟ ماذا عن توحيده لربه والتوكل عليه, وعبادته حق عبادة، وإخلاص العمل له؟ ماذا عن الصلوات؟ هل هو من المحافظين للجمع والجماعات؟ ماذا عن صيام رمضان, وزكاة الواحد المنان؟ ماذا عن حج بيته الحرام، وإطابة الشراب والطعام؟ ماذا عن بر الوالدين وصلة الأرحام؟ ماذا عن حسن الجوار وإصلاح الحال، والاستقامة على الأعمال الصالحة في كل حال؟
عباد الله: بالأمس المرء صغيرًا حقيرًا, وبالأمس شابًّا طريًا, وبالأمس قويًا معافى, وبالأمس صحيحًا نضيرًا, واليوم تبدلت الأحوال، وتغيرت تلك الأيام, فهل تغانمنا تلك الأحوال؟ فطوبى ثم طوبى لمن أودع يومه عملًا صالحًا قبل غروب شمسه, من علم ودعوة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر, وذكر واستغفار, وتلاوة لكلام الواحد القهار, طوبى لمن قام الليل وصام النهار, وزار مريضًا, وشيع جنازة, وأطعم الطعام, وبذل السلام, وهكذا من سلسة للخير, وأبوابه يصعب حصرها، ونوافذ للبر والتقرب مفتوح بابها.
إخوة الإيمان، أمة ولد عدنان: لا بد أن ينظر الإنسان في عمله, ويتأمل حاله, كيف قضى عامه؟ وفيم صرف أوقاته؟ لا بد من كشف حساب, يضعه المرء بين يديه, ويحاسب نفسه, كما يحاسب الشريك شريكه, من حاسب نفسه الآن, أمن يوم الفزع الأكبر والعرض على الرحيم الرحمن, المرء محاسب ومسئول، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8], (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
عند الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد –رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بالعبد يوم القيامة, فيقال: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا, وسخرت لك الأنعام والحرث, وتركتك ترأس وتربع, فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟. فيقول: لا. فيقول: اليوم أنساك كما نسيتني".
عباد الله: إن عامنا يمضي, وذنوبنا تزداد, وأيامنا تنقضي، ونحن في غفلة عن الاستعداد, فالمعاصي تلاحق الإنسان في سوقه ومتجره, في عمله وبيته, والذنوب مجالاتها واسعة, لاسيما في هذا الزمان, فالفتن والشكوك تتبع المرء أينما حل, والمعاصي تملأ البيوت, والقنوات الفاسدة, تفسد الأولاد, وتهدم الأسر، وتنشر الخزي والفضيحة، وتزيّن الباطل, وتسيء الأخلاق والقيم, وتسبب الفوضى, وتسهل الفاحشة.
إن الذنوب والمعاصي تفسد الديار, وتهلك الثمار، وتجلب الدمار, تنزع البركات والخيرات والثروات، من الأعمال والأعمار, والأوقات والدرهم والدينار, فهل ندرك أننا مازلنا في غفلة؟ جاء قوم إلى إبراهيم بن أدهم في سنة أمسكت فيها السماء وأجدبت الأرض, فقالوا له: استبطأنا المطر، فادع الله لنا. فقال: تستبطئون المطر، وأنا أستبطئ الحجارة!.
الذنوب والمعاصي تورث الأمة الذل والهوان, فانظر إلى الحال, وقلب صفحات الأوراق، والعجب أن كل فرد منا ومن الأمة الإسلامية, يتأسف لواقع أمته, ويتحسر ما تعيشه الأمة, ولو تأملت لوجدت السبب هو أن إصلاح الأفراد فيه صلاح الأمم, وأن فسادهم فيه فسادها, إذا أصلح المرء نفسه ومن تحت يديه, وربى ذريته، واتقى الله في جميع أحواله, صلح الحال بإذن الكبير المتعال
المشكلة: كل واحد يرمي باللائمة على غيره, ويلقي العهدة إلى مجتمعه, والسؤال: ماذا قدم؟ ماذا فعل؟ ماذا أصلح؟ فلابد أن ننتصر على أهوائنا وشهواتنا ونرفع هممنا وأنفسنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين.
أما بعد: هذا: واعلموا عباد الله، واسمعوا يا رعاكم الله، ونحن على عتبات نهاية عام, وبداية عام, فلا يفوت أن ننبه على بعض الأخطاء في دخول عام وخروج عام, مما انتشر وفشا، في هذه الأيام تكثر الوسائل الجوالية, والمقاطع اليوتيوبية, والرسائل الواتسية, والتواصلات الاجتماعية:
فمنها: التهنئة بالعام الجديد. فلم أجد فيما أعلم دليلًا صحيحًا، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه, لكن إن هنّأك أحد فهنئه وأجبه وإلا فلا.
ومنها: التحسر والتكدر على العام الماضي. وفتح ملفات سوداء، ويأس وقنوت وأسى, وحزن وكدر وعنا, والتعزية بالأيام الماضية، وهذا مما لا دليل عليه ولا سنة.
الثالث: ما ينتشر في الرسائل والوسائل, أن صحيفة العمل تطوى عند نهاية العام. وفتح صحيفة جديدة لا دليل عليه, وصحيفة كل إنسان تطوى إذا مات, وتعرض بعد الممات, (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10]، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء: 13].
الرابع من التنبيهات -أيها الإخوة والأخوات-: أن الأعمال ترفع في نهاية العام. وهذا لا دليل عليه.
والخامس: الاحتفالات برأس السنة الهجرية، أو ذكر الهجرة النبوية. فذاك محدثة بدعية.
والسادس: ما ينتشر في رسائل الواتس من طلب العفو والمسامحة. والتجاوز والمغفرة, وطلب الحل والتغاضي، عن الهفوات والمناهي.
والسابع -أيها الأخ السامع-: فتح العام الجديد بعبادة. كصلاة, أو ذكر, أو صوم, أو دعاء, أو ثناء, أو استغفار, أو صدقة, أو عمرة, أو جلوس في المسجد ومواصلة, أو طلب عفو, وصفح, وصلة, أو ختم العام المنصرم بذلك, فهذا كله من البدع المحدثة التي لا دليل عليها ولا سنة.
والثامن -أيها المؤمن الآمن-: تحديد استغفار, أو صلاة على النبي المختار.
والتاسع -بوأك الله كل خير نافع-: اعتقاد أن الهجرة وقعت في بداية محرم. وهذا لا دليل عليه, بل كانت في شهر ربيع.
والعاشر من التنبيهات: تخصيص محاسبة النفس في هذه الأوقات. والعبد مأمور أن يحاسب نفسه في كل وقت، وفي جميع الحالات.
وكذا: اعتقاد أن صفائح الأعمال تعرض وترفع في محرم. أو فتح صفة جديدة بيضاء مشرقة.
ومثل ذلك: أن هذه آخر جمعة من عامك الماضي، فتخصص بما لا دليل عليه. كالاستغفار والذكر والجلوس والصدقة.
فالحذر من الرسائل، ووسائل التواصل، والنسخ واللصق والقص، وإعادة التغريدات، وريتويت النص, ونشر ذلك عبر الجوالات والواتس, والتعاون على الإثم والعدوان, ونشر البدع والمحدثات ورسائل [القربات], فإذا جاءتك رسالة, فاحذر إعادتها، حتى تعلم حكمها، ومصدرها وصحتها, أو اردد على صاحبها: ما هو دليلك فيها؟ ومن قال بها؟
فلو تثبتنا وسألنا, لقلت البدع وقلت المنكرات وسلمنا, ولكن البعض ينشر البدع وهو لا يشعر, فيرسل وينسخ، ويقص ويلصق.
فاحذر أن تنشر البدع والمحدثات, فتبوء بالإثم والخطيئات, فاجعل شعارك التثبيت, أو اسأل عما ترسل قبل أن ترسل, فلنحارب البدع وانتشارها, وفشوها وإظهارها, ولا نتعبد لله إلا بما جاء عن رسول الله, فهذه التواصلات سهّلت ترويج البدع والمخالفات, ويسرت سبل البحث والمقالات, فلا تنظر إلى روعة اللفظ, ورونقة العبارة, وجميل الكلمة, وسجع الألفاظ والدعوات, أو قول فلان وفلان من أهل العلم الثقات, أو أن المرسل محل ثقة وثبات, حتى يحملك ذلك على الإرسال والترويج، والقص [والتفويت], بل تثبت, وتريث, وتأمل, وتدبر.
ولنعلم -عباد الله- القاعدة في هذا الباب: أنه لم يثبت في دخول عام ولا خروج عام, شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
يا من بحثت عن العطور جميلها *** ليكون عطرك في الأنام نسيما
هل لي بأن أهديك عطرًا فاخرًا *** وهو الدواء إذا غدرت سقيما
وقول رب الخلق في قرآنه *** صلوا عليه وسلموا تسليما
والله أعلم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم