الاختلاط (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2010-09-18 - 1431/10/09
التصنيفات: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/ تعظيم الشريعة والامتثال لأوامر الله من دلائل الإيمان 2/ ترويج الإعلام للاختلاط والتمرد على أوامر الشرع 3/ تغير قيم الأسرة تبعًا لتأثير الإعلام 4/ مزاعم المروجين للاختلاط 5/ الشريعة أوصدت كل الأبواب المؤدية للاختلاط 6/ الجرائم الأخلاقية المنتشرة دليل على مفاسد الاختلاط 7/ نصوص شرعية تحذر من الاختلاط 8/ تدابير واقية من الوقوع في فتنة الاختلاط

اقتباس

إنَّ الخطَأ خطأ ولو كثر الواقعون فيه، وإنَّ المنكر لا ينقلب إلى معروف بمجرد انتشاره، وهكذا الباطل يبقى باطلاً ولو زينه المزورون بزخرف القول، وروجوه بالدعاية، والواجب على أهل الإسلام إنكار المنكر ولو كان المتجافي عنه غريبًا في الناس، كما يجب عليهم إحقاق الحق ولو أعرض عنه أكثر الناس، فانتشار الباطل وانتشاء أهله، وغربة الحق وضعف حملته لا يسوغ السكوت والتخاذل ..

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: من دلائِل صِدقِ إيمانِ العَبد، وسلامةِ قلبِه لله تعالى، الاستسلام لأمرٍه -سبحانه- في الأُمور كلِّها، وتعظيم نُصوص الشَّريعَة، والوُقُوف عِندها، وتقديمِِها على أقوال الرِّجال مهمَا كانوا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون) [النور: 51، 52].

وإنَّما تقع الرِّدة والضَّلال، ويتَأصَّل الزَّيغ والنِّفَاق في قلبِ العبد إذا عارَض شرع اللهِ تعَالى تقليدًا لغيرِِه، أو لرأيٍ أَحْدَثَهُ، مُتبعًا فيه هَواه، مُعرضًا عنْ شرعِ الله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) [النور: 63].

ومع عظيم الأسى وشديد الأسف، فإنَّ الإعلام المُعاصر في أكثر فضائِياته وإذاعاته، وصُحُفِه ومَجلاَّته، يُربِّي المتلقين عنه على التَّمرُّد على أوامِر الله تعالى، وانتِهاك حُرُماته، والاجتِراء على شريعتِه في كثير من القضَايا التي يلقيها على النَّاس، من سِياسيَّة واقتِصاديَّة، واجْتماعيَّة وثقافيَّة، ولا سيَّما إذا كان الحديث عنِ المرأة وقضَاياها.

لقدِ اعتاد المتلقون عنِ الإعلام وبشكلٍ يومي، بل وفي كلِّ ساعة ولحظَة، اعتادوا على مُشاهدة سُفور النِّساء، وظُهُورِهنّ بأبَهى حُلَّة وأَجمَل زِينَة، مُتكشِّفَات مُبتسِمات، مُختلِطات بالرِّجال، تجلِس المرأة بجِوار الرجل وتُمازِحه وتُضاحِكه، أمام ملايين المُشاهِدين والمُشاهِدات، ولا هيَ قريبتُه ولا هو محرم لها، وليس بينهما رباط إلاَّ رِباط الإعلام والشَّيطَان، ولا يكاد يخلو برنامج أو فقرة من رجل وامرأة في الأخبار والحِوار والرِّياضة والسِّياسة، والأزيَاء والطَّبخ، بل حتَّى برامِج الأطفَال لا بُد فيها من فتى وفتاة، وهذه الصورة المُتكرِّرة في كُلِّ لحظَة تَهُوّن هذا المُنكر العَظيم في نُفُوس المُشَاهدين، وتُحَوِّلُهُ مِن مَعصِية وعَيب إلى لا شَيء.

وتِلك -والله- مِن الفِتَن التي يُرقِّق بعضُها بعضًا كما جاء في الحديث، واعتياد النَّاس لهذه المَشاهد الآثِمة يجعل إنكارهم لها وانصرَافهم عنها ضعيفًا جدًّا، بل لرُبَّما أنَكَر أكثرهم على من ينكرها، أو ينكر على من يُشَاهدها، فانقلبت مِن كونِها مُنكرًا وباطلاً إلى معروف وحق لا يجوز أنْ يُجَادل فيه أحد.

وهذا التَّهوين للمُنكَر بالفِعل والصُّورة الذي يتَكرَّر في كُلِّ سَاعة ولَحظة، يُصاحِبه تسويغ له بالكلمة والمَقالة، فينبري أجهل النَّاس بالشَّريعة، وأضعف الخلق ديانة، لمناقشة مسائل الحِجَاب والسُّفُور والخَلوَة والاختِلاط، وسَفَر المَرأة بِلا مَحَرم، وليس نِقاشهم عِلمِيًّا موضوعيًّا لإحقاق حق وإبطَال باطِل، وإنَّما هو نسف للشَّريعة، وإبطَال للقُرآن والسُنَّة، وإلغَاء لما سَارت عليه الأُمَّة المُسلمَة في قُرونها السَّالفة، وإحلال للقوانين والعَادات الغَربية محل شريعة الله تعالى في التَّعظيم والطَّاعة والامتِثال، باسم الانفِتاح والرُّقي والتَّقدُّم.

ومِن آثار هذا التجييش الإعلامي للباطل، ونشر تلك الرَّذائِل على أوسع نطاق، نرى تَغَيُّرًا مستمرًا في كثيرٍ منَ بُيوتِ المُسلمين، يَتجلَّى في مَظاهر عِدَّة، وأخلاقِ بدِيلة لم يكُن المُسلمُون يعرفونَها قبل هذا الغَزو الإعلامي، من التَّساهل بالحِجَاب، وسَفَر الفتاة للدِّراسَة بِلاَ مَحَرَم، ومُزَاحمة المرأة للرِّجال في العمل، واختلاطِها بِهِم في كَثير مِنَ المجالات والأعمال، بلا خجل ولا حياء، وأهل الفساد يوسعون دائرة الإفساد ليجتاح الأمة بأكملها، ويأتي على البيوت والأسر كلها، وإذا لم يَسْعَ المسلمون لإيقاف هذه الأمراض التي تفتك بالمجتمعات، ولم يأخذوا على أيدي دعاة الرذيلة وناشري الفساد، فإنه سيأتي اليوم الذي يفقد فيه الرجل سلطانه على نسائه وبناته، فيخرجن متى أردن، ويصاحبن من شئن، ويفعلن ما يحلو لهن، كما وقع في كثير من بلاد المسلمين التي غزاها شياطين الإنس بأفكارهم، ودمروها بمشاريعهم التغريبية التخريبية، وحينها لا ينفع ندم ولا بكاء على عفة فقدت، وقد كانت من قبل تستصرخ أهل الغيرة ولا مجيب لها، ونعيذ بالله تعالى بلاد المسلمين أن يحل بها ذلك.

إنَّ الخطَأ خطأ ولو كثر الواقعون فيه، وإنَّ المنكر لا ينقلب إلى معروف بمجرد انتشاره، وهكذا الباطل يبقى باطلاً ولو زينه المزورون بزخرف القول، وروجوه بالدعاية، والواجب على أهل الإسلام إنكار المنكر ولو كان المتجافي عنه غريبًا في الناس، كما يجب عليهم إحقاق الحق ولو أعرض عنه أكثر الناس، فانتشار الباطل وانتشاء أهله، وغربة الحق وضعف حملته لا يسوغ السكوت والتخاذل، وإلا غرق المجتمع كله في حمأة الباطل، وطوفان الرذائل.

واختلاط المرأة بالرجال هي القضية الأساس التي يسعى المفسدون لنشرها في المجتمع، ويستميتون في إقناع الناس بها، ويوجدون لها المسوغات، ويجعلونها من الضرورات، ويعزون كل بلاء في الأمة وتخلف وانحطاط إلى ما ساد من عزل المرأة عن الرجل في التعليم والعمل وغير ذلك، ويعلم المفسدون في الأرض أنهم إن نجحوا في نشر الاختلاط وقهر الناس عليه بقوة القرارات المحلية والدولية، والتَّخويف بالدول المستكبرَة، واستغلالِ نفوذِهم في بلادِ المسلمين، والتفافهم على أصحابِ القرارَات والتوصيات، ما يجعلهم قادرين على إلجاء الناس إليه عمليًّا في العمل والدراسة، وفرضه بقوة النظام، وهو ما يسعون إليه بجد وقوة، فإن ما بعد الاختلاط من الإفساد يكون أهون، والنساء إليه أسرع، كالخلوة المحرمة، وسفر المرأة بلا محرم، وسفورها وتبرجها، وعرض زينتها، وغير ذلك من الإثم والضلال، وانتهاك حرمات الكبير المتعال، ولن يوقف ذلك إلا إنكار الناس عليهم، ورفضهم لمشاريعهم التغريبية، وكشف خططهم ومآربهم لعامة الناس، والأمر يعني الجميع، ولا يختص بأحد دون أحد، ومن حق الناس أن يسعوا إلى ما فيه حفظ بيوتهم وأسرهم، وبناتهم ونسائهم، من أسباب الفساد والانحراف، وأن يأخذوا على أيدي المفسدين والمفسدات، من أتباع الغرب وعُبَّاد الشهوات.

ومَنْ نظر في شريعة الله تعالى يجد أنها أوصدت كل الأبواب المؤدية إلى الاختلاط، وسدّت الذرائع لذلك، وحمت المجتمع من الفاحشة والرذيلة بتشريعات ربانية تبقي على المجتمع عفته وطهارته ونقاءه، واستقامة أُسره، وصلاح بيوته، ما دام أفراده قائمين بأمر الله تعالى، ممتثلين لشرعه، مستسلمين لنصوص الكتاب والسنة، ولم يسمحوا للمفسدين أن ينخروا ذلك السياج الرباني بين الرِّجال والنِّساء.

أيها المسلمون: الاختلاط باب للشر عظيم, وحبل من حبائل الشيطان، يزين به للفتاة الشر, ويلبس عليها بأنه شيء صغير, فتندفع إليه الفتيات الغافلات عن شروره، ولقد منع الإسلام الاختلاط، وامتنع منه المسلمون، فجعلوا للنساء حريمًا، وسموا المرأة: حرمة، من التحريم، وهو غاية في التكريم؛ إذ معناه أن لها حرمة بالغة لقيمتها عندهم، فلا تمس من أجنبي، ولا تختلط به؛ لأنهم لا يرغبون في إفساد فرشهم وأعراضهم وضياع أنسابهم.

وقد حذرنا الله تعالى من الانجراف وراء كيد الشيطان الذي يزين لنا الاختلاط فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 21].

اختلاط النساء بالرجال أمرٌ خطير, وشر مستطير، والمفاسد والأضرار التي تعاني منها المجتمعات التي طبقته وجربته خير دليل وأصدق برهان على ذلك، اختلاط النساء بالرجال تعاني منه المجتمعات التي جرّبته أشد المعاناة، فقد قوّض أمنهم, وهدم أخلاقهم، وزعزع استقرارهم، وفكك روابطهم، فسَطّرت أقلام بعضهم ذكر شيء من أضراره، وبيان شيء من أخطاره، ناصحة لبني قومها، ومحذرة في الوقت نفسه غيرها أن تحذو حذوها، فيصيبها ما أصابها.

الحال الآن أن الاختلاط بين الرجال والنساء في ديار الكفار لم يزد الناس إلا شهوانية حيوانية، وسعارًا بهيميًّا، فارتكاب الفواحش وهتك الأعراض في ازدياد وارتفاع، وهذا الواقع يرد على من يقول: إن الاختلاط يكسر الشهوة، ويهذب الغريزة، حيث زاد الاختلاط من توقد الشهوة, وزاد من الفساد, ومثله مثل الظمآن يشرب من ماء البحر فلا يزيده شربه إلا عطشًا على عطش, يقول سيد قطب -رحمه الله-: "ولقد شاع في وقت من الأوقات أن الاختلاط تنفيس وترويح, وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية رأيت بعيني في أشد البلاد إباحةً وتفلتًا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية ما يكذبها, وينقضها من الأساس، نعم، شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينتهِ بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها، إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع". اهـ.

إن العاقل لا يقول: لنلقي إنسانًا وسط أمواج متلاطمة, ثم نطلب منه أن يحافظ على ثيابه من البلل، وهو لا يقول: لنلقي إنسانًا وسط نيران متوقدة، ثم نطلب منه أن يحافظ على جسمه من الاحتراق، إذا كان لا يقول ذلك لعلمه باستحالته، فهو كذلك لا يقول لتختلط النساء بالرجال في الوظائف والأعمال ودور التعليم والجامعات، ليقينه أن العفة لا تجتمع مع مثيراتها، ومن مثيراتها الاختلاط بين الرجال والنساء، ولذا فإن الداعين لاختلاط النساء والرجال من بعض أبناء جلدتنا ممن يتكلمون بلغتنا, وينتسبون لديننا، سواء أكان ذلك على جهة التعريض أم التلميح، بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر, ومتطلبات الحضارة, إنما يحملون من خلال هذه الدعوة معاول هدم لأمن أوطانهم، وسعادة مجتمعاتهم, وترابط أسرهم، وكرامة نسائهم، وغيرة رجالهم، إن العقلاء في البلاد التي جربت الاختلاط بعد أن شاهدوا آثاره المضرة, ومساوئه المتعددة, نادوا بقوة بمنع اختلاط النساء بالرجال في بلادهم، بعد أن أحسوا أنه يهددهم في قوتهم.

أيها المسلمون: لقد توافرت النصوص الشرعية في الحرص على تباعد الرجال عن النساء درءًا للفتنة؛ فقد جاءت الأدلة الشرعية بالأمر بقرار المرأة في بيتها، وأن لا تخرج إلا لحاجة، ولو كانت الشريعة ترغب في كثرة لقاء الرجال بالنساء لما جاء الأمر بقرارها في بيتها، كما جاءت الشريعة بالنهي عن الدخول على النساء، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والدخول على النساء"، ولو كانت الشريعة ترغب في كثرة اللقاء بينهما لما جاء النهي عن ذلك.

ولماذا لم تُلزم الشريعةُ المرأةَ ما يلزم الرجل من الواجبات الاجتماعية؟! فعلى سبيل المثال: أجمع العلماء على أن صلاة الجمعة لا تجب على المرأة، ولا يجب عليها الجهاد في سبيل الله، وأسقط عنها الشرع النفقة، وكل هذه الأعمال تحتاج إلى الخروج من المنـزل وكثرة احتكاكها بالرجال، وهذا يبيّن حرص الشريعة على بعد الجنسين عن بعضهما، وقد جاء الأمر بتخصيص باب خاص للنساء في المسجد، فيا ترى لماذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فلو كان -صلى الله عليه وسلم- يرغب في كثرة احتكاك الطرفين بعضهما ببعض لما أمر بذلك، ولجعلهما يخرجان من باب واحد.

ثم -أيها المؤمنون- لماذا جاءت الأدلة بالأمر بغض البصر؟! فيا ترى كيف يغض بصره من كان يعمل في مكتب فيه موظفة؟! أو في مستشفى فيه طبيبة أو ممرضة؟! ولماذا فضلت الشريعة صلاة المرأة في بيتها على صلاة الجماعة؟! بل تفضيل صلاتها في بيتها على صلاتها في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أن الصلاة فيه مضاعفة؟! وكيف نجمع بين نفسين تميل بعضهما إلى بعض؟! والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". ويا ترى ما الداعي لأن يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتريث الرجال في الانصراف من المسجد حتى تخرج النساء؟! ولو كان الأمر مستويًا في الشريعة هل كان يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يتريث الرجال لتنصرف النساء؟! ولو كان الاختلاط سائغًا لماذا جعل خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها؟! ألا يدل ذلك على تأكيد الشريعة انفصال الرجال عن النساء؟! يقول الإمام النووي -رحمه الله-: "وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم، ثم رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك. والله أعلم". انتهى.

أيها المؤمنون: لقد تتابعت أقوال العلماء في بيان حرمة الاختلاط وضرره العظيم على المجتمع، ومن هنا يتبين أن هناك صورًا كثيرةً من صور الاختلاط أفتى العلماء بحرمتها، فمن تلك الصور: الاختلاط في دور التعليم كالمدارس والجامعات والمعاهد، والاختلاط من خلال ما يسمى بالدروس الخصوصية في البيوت، واختلاط الخدم بالنساء في المنازل، أو اختلاط الخادمات بأهل البيت الذكور، والاختلاط في الوظائف وأماكن العمل، كالمستشفيات والمصانع والشركات والمؤسسات ونحوها، والاختلاط في المحاضرات الطبية أو المؤتمرات أو المنتديات الاقتصادية ونحوها، والاختلاط في المناسبات والزيارات بين الجيران والأعراس والحفلات، ويتساهل أقوام بهذه الصورة مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قيل له: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! قال: "الحمو الموت". والاختلاط في أماكن الترفيه والمتنزهات والمطاعم والتي تسمى اليوم بالأماكن العائلية، واختلاط الأولاد الذكور والإناث -ولو كانوا إخوة- بعد التمييز في المضاجع، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتفريق بينهم في المضاجع.

أيها المسلمون: عزل الرِّجال عنِ النِّساء، واختصاصهنّ بأعمالِ المنـزل وحضانة الأطفال، واختصاص الرِّجال بالعمل والاكتساب هي الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، وسارت عليها البشريَّة طوال تاريخها في الشَّرق والغرب وعند سائر الأمم، قبل أن تأتي الحضارة المعاصرة بهذا الضَّلال، ومن قرأ تواريخ الحضارات والأمم السَّالِفة أيقن بحقيقة ذلك، ونزلت شرائِع الله تعالى على أنبيائِه ورسله عليهم السَّلام بما يوافِق هذه الفطرَة.

لقد أجمعت الشَّرائع كلها على حفظ النَّسل من الاختلاط، وعلى حفظ المجتمعات من الفساد والانحلال، ولذا كان الزِّنا محرمًا على لسان كل المرسلين -عليهم السلام-، ويجمع كل العقلاء من البشر على أن الاختلاط أكبر سبب للزِّنا، كما يجمع البشر على أنَّ الزِّنا سبب للأمراض والطَّواعين التي تفتك بالنَّاس، والواقع يدل على هذه الحقائِق، ولا يماري في شيء من ذلك إلاَّ جاهل أو مكابر، فمن دعا للاختلاط ورضيه فهو يدعو للزِّنا وانتشار الفواحش، وهو يدعو كذلك لنشر الطَّاعون في النَّاس، وإهلاكِهم به، شاء ذلك أم أبى؛ إذ إنَّ هذه الأمراض الخبيثة هي نتاج دعوته الخبيثة.

وإن تعجب فعجب لأناس يدعون للاختلاط، وينشرون الرَّذيلة في النَّاس، ثمَّ يحذرون من انتشار مرض الإيدز، فهل هم صادقون في تحذيرهم؟! وهل يعقلون ما يقولون وما يفعلون؟! وهل هم إلاَّ كمَن يسقي الإنسان سمًّا ثم يصيح به محذرًا إيّاه أنْ يموت ممَّا سقاه!!

إنَّه لن تجدي المُؤتمرات والنَّدوات والتَّوعية الصِّحيَّة والاجتماعيَّة في التَّخفيف من الأمراض المستعصية، النَّاجمَة عن الممارسات الجنسيّة المُحرَّمة، إذا كان المفسدون يخلطون بين الرجال والنساء، ويوسعون دائرة الاختلاط يومًا بعد يوم، وينشرون في إعلامهم ما يثير الشَّهوات، ويدعو إلى الرَّذيلة، ولذا نوصيهم أن لا يكذبوا على النَّاس ويخدعوهم، لأنَّهم أكبر سبب من أسبابه حين شرعوا للاختلاط، وأفسدوا الإعلام، وفرضوا على الناس آراءهم الفكرية الشهوانية. يقول العلاَّمة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ولا ريب أنَّ تمكين النِّساء من اختلاطهنّ بالرِّجال أصل كل بليَّة وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامَّة، كما أنَّه من أسباب فساد أمور العامَّة والخاصَّة، وهو من أسباب الموت العام والطَّواعين المهلكة. ولمَّا اختلط البغايا بعسكر موسى -عليه السلام-، وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفًا، والقصة مشهورة في كتب التفسير، فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية قبل الدين لكانوا أشد شيء منعًا لذلك". اهـ.

نفعني الله وإياكم بهدي...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: إنّ فتنة النساء من أشد الفتن على الرجال وأضرها، وهي أول فتنة بني إسرائيل، قال -عليه الصلاة والسلام-: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". رواه مسلم. وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". رواه البخاري ومسلم. فكيف يأتي بعد هذه الأدلة الصريحة الصحيحة مسلم عاقل فيجمع بين الفاتن والمفتون في مكان واحد؟! لقد خلقنا الله -سبحانه وتعالى- ولم نكُ شيئًا، وهو أعلم بما ينفعنا وما يضرنا، ولهذا ارتضى لنا دينًا مبنيًّا على قاعدة عظيمة، وهي تحقيق المصالح وتكثيرها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأيّ مصلحة تُرجى من زجّ الشباب والفتيات في مكان واحد وتحت سقف واحد جنبًا بجنب؟!

أيها المسلمون: على كل من ابتلي بالعمل مع النساء وليس له قدرة على تغيير هذا الوضع فعليه ما يلي:

أولاً: أن يبادر بالانتقال إلى مكان آمن، فسلامة الدين لا تعدلها سلامة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنك لن تدع شيئًا لله -عز وجل- إلا بدَّلك الله به ما هو خير لك منه". رواه الإمام أحمد.

ثانيًا: إذا اضطُرّ إلى أن يُخاطب امرأة في مجال العمل فعليه بالوسائل الشرعية الآمنة: كالهاتف أو البريد الإلكتروني.

ثالثًا: إذا جاءت هي بنفسها إليه في مكتبه فعليه مراعاة ما يلي:

- أن لا تكون هناك خلوة؛ فقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يخلونَّ رجل بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرَم". رواه البخاري ومسلم.

- أن لا يكون الكلام خارجًا عن موضوع العمل، وأن يختصر ما أمكن.

- أن يغضّ البصر أثناء الكلام؛ لقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون) [النور: 30]. وعن جرير قال: سألت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة فقال: "اصرِفْ بَصَرَكَ". رواه أبو داود.

- أن تؤمن الفتنة، فلو تحركت شهوته بالكلام أو صار يتلذّذ به حرُم عليه، وهذا يحدث حينما تخضع المرأة بالقول، والله -عز وجل- يقول: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) [الأحزاب: 32].

ومن العجيب -رغم توافر الأدلة وظهور حدود الإسلام في التعامل بين الذكور والإناث- أن تنهض دعاوى تطالب بالاختلاط، مدعية أن فيه تنفيسًا وترويحًا وإطلاقًا للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت ومن العقد النفسية، لكنها في الحقيقة فروض نظرية، ليس لها آثار إيجابية، ولو نظرنا إلى واقع المجتمعات المختلطة فعلاً لوجدنا أن في أمريكا مثلاً الآن حملات قوية للدفاع عن الزواج، وإقامة مدارس غير مختلطة، فمتى يعي اللاهثون المغفلون؟!!

اللهم...
 

  

 

 

المرفقات

(1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات