الإيماء إلى آثار المراء

عمر بن عبد الله المقبل

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ رغبة الإنسان في الانتصار لنفسه 2/ كثرة المعارك الكلامية والمنازلات الفكرية، والمراشقات اللفظية 3/ مساوئ كثرة الجدال بالباطل ومفاسده 4/ حث الشريعة على تجنب الجدال 5/ درر من كلام السلف في ذم الجدال 6/ من صور الجدال والمراء المذمومة عند السلف.

اقتباس

يا الله! ما أعظم كلامهم! وما أدقه وما أعظمه وقعًا على النفس! وما أشد تصويرهم لواقع الحال! قالوه وهم في ذلك الزمن .. فكيف لو رأوا زماننا هذا، الذي تسلق فيه أناسٌ لا أقول: ممن ينتسب للعلم! بل ليسوا منتسبين له أصلاً! تجد أحدهم قرأ خلافًا في جريدة، أو سمع حواراً في قناة فضائية، ثم جاء إلى مواقع التواصل - تويتر أو الفيسبوك – أو غيرها، ثم تحدّث بهذه المسائل وكأنه أحد الأئمة! وإنما غاية ما عنده: التشغيب على الناس، وتلبيس دينهم عليهم!! وأشدّ من هذا –أيها الأحبة- أن يكون المراء والجدال قنطرةً وسُلّماً لتقرير البدع ونشرها!

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

فلقد جُبل الله الإنسان على الأنَفةِ، والرغبةِ في الظهور بمظهر المنتصر دوماً، ومن ذلك ما يقع في المطارحات الكلامية؛ في المجالس والمنتديات.. وعلى الشبكات العالمية أو في البيوتات.

 

واليوم - ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي صيَّرت من اللاشيءِ شيئاً، وجرَّأت السفهاء على العقلاء، وأصبح لكل شخص منبرًا يتحدث منه - زادَ أوار هذه المعارك الكلامية، والمنازلات الفكرية، والمراشقات اللفظية، وعُرضتْ في قوالب من المراءِ يُسْتخرجُ بها الغضب، وتُترجمُ بسيئ العبارات، تنتهي تلكم المنازلات بوحشة في النفوس، وتفرقٍ في القلوب، وفرحةٍ للشيطان؛ حين حقق هؤلاء أحبّ وظيفة له بين الناس! وهي التحريش بينهم.

 

ويزداد الأسى حين يقع هذا في وقت تخوض فيه البلاد حرباً شرسة على حدودها، ويرابط رجال جيشها وأمنها على بقية الثغور في البلاد!

 

أيها المسلمون:

لقد جاءت الشريعة بالحث على ترك المراء وإن كان الإنسان مُحقًّا، فكيف إذا كان مُبطلاً؟! ففي سنن أبي داود - بسند لا بأس به بمجموع طرقه - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه»(سنن أبي داود ح4800)، والبيت هنا: القصر، والزعيم هو الضامن المتكفل(ينظر: معالم السنن: 4/ 110).

 

ولما كان للمراء والجدال العقيم آثار سيئة على النفس والدين؛ فلقد كثرت وصايا العقلاء من هذه الأمة - وعلى رأسهم سلفنا الصالح - بالبعد عنه.

 

يقول ابن أبي ليلى: "ما ماريت أخي أبدًا؛ لأني إن ماريته إما أن أُكذِبه، وإما أن أغضبه" (الأثران في الآداب الشرعية: 1/18).

 

وهذا الإمام الأوزاعيُّ -رحمه الله- يقول: "إذا أراد الله بقومٍ شرًّا فتح عليهم الجَدَلَ ومنعهم العملَ" (سير أعلام النبلاء: 7/ 121).

 

وقال بعض السلف -رحمه الله- موصيًا أخاه: "دع المراء والجَدلَ، فإنَّه لن يُعجِز أحد رجُلين: رجلٌ هو أعلم منك، فكيف تعادي وتُجادل مَن هو أعلمُ منك؟ ورجلٌ أنت أعلمُ منه، فكيف تعادي وتُجادِل من أنت أعلمُ منه ولا يُطيعُك؟"(هو وهب بن منبه، ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 549).

 

والمتأملُ -أيها الإخوة- يجد أن ساعةَ الجدلِ والمراء ساعةٌ يحضر فيها الشيطان، ويَكبُر فيها حظ النفس، ولهذا قال بعض السلف: "إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته" (الصمت لابن أبي الدنيا: ص100)، وقال آخر: "إذا سمعتَ المراء فأقصر". (قالها عمر بن عبد العزيز، كما في الصمت لابن أبي الدنيا، ص: 101).

 

ويقول البَضْعَةُ النبوية؛ محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-: "الخصومة تمحق الدين، وتثبت الشحناء في صدور الرجال".

 

ويقول مالكٌ - إمام دار الهجرة، رحمه الله-: "الجِدال في الدِّين يُنشئ المِراءَ، ويذهبُ بنورِ العلم مِن القلب ويقسِّي، ويُورث الضِّغن"( سير أعلام النبلاء: 8/ 106).

 

ومن دقيق فقه السلف -رحمة الله علهم- أنهم ربَّوا طلابهم الذين يسألونهم في مسائل العلم؛ ربّوهم على إغلاق الباب، إذا لمحوا أن مقصود السائل هو ذات المراء أو ذات تشقيق المسائل وليس طلب العلم أو توقع النوازل؛ ففي صحيح البخاري أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر، فقال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبّله» قال: قلت: أرأيت إن زُحمت، أرأيت إن غُلبت، قال: «اجعل أرأيت باليمن، رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبله» (صحيح البخاري ح1611).

 

ومن صور الجدال والمراء المذمومة عند السلف -رضي لله عنهم-: "ما بُلي بعض المبتدئين في طلب العلم، من التنقيب عن غرائب المسائل وشذوذاتها، بغية التعلق بها ليُعرف ما عنده من غريب العلم، وليس من العلم! فلله درُّ الإمام الأوزاعي حين وصف هذا النوع من الناس فقال: إنّ الله إذا أراد أن يحرم عبده بركةَ العلم ألقى على لسانه المغاليط - أي التنقيب عن المسائل الغريبة -، فلقد رأيتهم أقلّ الناس علمًا". (جامع العلوم والحكم: 1/ 247).

 

وقال بعض السلف: "شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل، يُعمونَ بها عباد الله" (جامع العلوم والحكم: 1/ 247).

 

يا الله! ما أعظم كلامهم! وما أدقه وما أعظمه وقعًا على النفس! وما أشد تصويرهم لواقع الحال! قالوه وهم في ذلك الزمن .. فكيف لو رأوا زماننا هذا، الذي تسلق فيه أناسٌ لا أقول: ممن ينتسب للعلم! بل ليسوا منتسبين له أصلاً! تجد أحدهم قرأ خلافًا في جريدة، أو سمع حواراً في قناة فضائية، ثم جاء إلى مواقع التواصل - تويتر أو الفيسبوك – أو غيرها، ثم تحدّث بهذه المسائل وكأنه أحد الأئمة! وإنما غاية ما عنده: التشغيب على الناس، وتلبيس دينهم عليهم!!

 

وأشدّ من هذا –أيها الأحبة- أن يكون المراء والجدال قنطرةً وسُلّماً لتقرير البدع ونشرها!

 

واسمعوا لهذا الموقف العجيب، الذي رواه تلميذ الإمام مالكٍ -رحمه الله-؛ معنُ بن عيسى القزاز، حيث يقول: "انصرف مالك بن أنس - رحمه الله - يومًا من المسجد، وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل - كان يُتَّهم ببدعة من البدع - فقال: يا أبا عبدالله، اسمع مني شيئاً أكلّمك به وأحاجُك، وأُخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتّبعْني! قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا، فغلبَنا؟ قال: نتبعه! فقال مالك -رحمه الله تعالى- كلمات تكتب بماء الذهب -: "يا عبدالله! بعث الله -عزَّ وجلَّ- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بدينٍ واحد، وأراك تنتقل من دِين إلى دِين! وقد قال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقُّل"(الشريعة للآجري: 1/ 438).

 

وهذا - كما هو معلوم - ليس هروبًا من الإمام مالك -رحمه الله- عن مناظرة المبتدعة، ولكنه أراد أن يربيه أن لا يجعل دينه عُرضة للخصومات، وإلا فالمناظرة مع أهل البدع، بل مع الكفار واجبة إذا توفرت شروطها، وانتفت موانعها.

 

أيها المسلمون..! ويزداد ذمّ هذا الجدَل والمراء إذا وقع في بيتٍ من بيوت الله، أو مجلس علم، قال أبو مصعب الزهري رحمه الله: "رأيت مالكاً وقوماً يتجادلون عنده، فقام ونفضَ رداءه، وقال: إنما أنتم حرب" (ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/ 39).

 

ويستفاد من هذا كله - أيها الأحبة -: أن العاقل إذا رأى أن الحوار والنقاش خرج عن المقصود منه -وهو بيان الحق- إلى الانتصار للنفس، وارتفع فيه صوتُ الإنسان على صوت الحُجة والبيان؛ فهذا علامة للجدال المذموم، يجب أن يُقفل أو يغادر صاحبُه المجلس، ويقفل نقاشه، سواء كان هذا بين الزوجين أو الصديقين،  أو الزميلين في العمل، أو كان هذا في موقع التواصل على الشبكة العالمية.

 

وللحديث بقية .. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

 أما بعد: فقد يتساءل المؤمنُ: ما المنهج إذن في هذا الباب؟

فيقال: المنهج في هذا بيّن وواضح، ويلتمس هذا مما سبق تقريره في الخطبة الأولى.. وأضيف هاهنا قول الحسن البصري -رحمه الله- حيث قال: "المؤمن لا يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله -عز وجل وعلا- وبعد هذا فأكره الجدال والمراء" (الشريعة للآجري: 1/ 477).

 

ويوضح هذا أكثر قول الإمام مالك لما سُئل: "الرجل له علم بالسنة، يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبل منه وإلا سكت" (جامع العلوم والحكم: 1/ 248).

 

وكل ما سبق - أيها الفضلاء - ليس دعوة لإلغاء الحوار النافع، والنقاش الذي تراعى فيه أصولُ الحوار والجدال! كأن يتفق المتحاوران على النقطة في موضع النقاش، وأن يجعلا مرجعيتهما محددة، وأن يقتصرا على توضيح الفكرة دون الإلزام بها.. ما لم يكن في ذلك نص بيَّن، إلى غير ذلك من آداب الحوار المرعيّة..

 

ليس هذا إلا دعوة إلى مراعاة هذه الأصول والقواعد والضوابط، وليس إلغاء للحوار والنقاش..كيف وقد قال الله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت: 46].

 

اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل.

 

 

 

المرفقات

إلى آثار المراء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات