عناصر الخطبة
1/ معنى الإيجابية 2/ الإيجابية في القرآن 3/ هدهد سليمان رمز الإيجابية 4/ الإيجابية في السيرة النبوية 5/ أهم ما يميز المسلم الإيجابي 6/ كيف الطريق إلى الإيجابية؟!اقتباس
الإيجابية تعني أن يكون المسلم فيضًا من العطاء قويًا في البناء، ثابتًا حين تدلهم الخطوب، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون، يصنع من الشمعة نورًا، ومن الحزن سرورًا، متفائل في حياته، شاكر في نعمائه، صابر في ضرائه، قانع بعطاء ربه له، مؤمن بأن لهذا...
الخطبة الأولى:
أعد من مشرق التوحيد نورًا *** يتم به اتحـاد العـالمينَ
وأنت العطر في روض المعالي *** فكيف تظل محتبسًا دفينًا
وأنـت نسيمه فاحمل شذاه *** ولا تحمل غبـار الخاملينَ
وأرسـل شعلة الإيمان شمسًا *** وصُغ من ذرةٍ جبلاً حصينًا
وكن في قمة الطوفان موجًا *** ومزنًا يمطـر الغيث الهتونَ
الإيجابية تعني أن يكون المسلم فيضًا من العطاء قويًا في البناء، ثابتًا حين تدلهم الخطوب، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون، يصنع من الشمعة نورًا، ومن الحزن سرورًا، متفائل في حياته، شاكر في نعمائه، صابر في ضرائه، قانع بعطاء ربه له، مؤمن بأن لهذا الكون إلهًا قدّر مقاديره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
إن المسلم يحتاج لهذه الإيجابية لأنه المسؤول عن نفسه، وسيحاسب يوم القيامة فردًا، وأنه (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء:15].
ومن الإيمان بهذا المنطلق، يجب أن ينحصر تفكير المسلم فيما يجلب له الأجر ويقربه من الطاعة دون أن يكون تبعًا، وأن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون الالتفات إلى عمل أحد من الناس، وليكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة عملية أمام عينيه، ولا يجعل الأشخاص الآخرين أيًّا كانوا مثلاً له، فقد يفتح الله عليه الهمة أكثر مما عند الآخرين، أو يوفقه الله تعالى إلى عمل يتفرد به، أو إلى فضل يؤثر فيه، فلله في خلقه شؤون، وهو المتفضل على عباده، يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء.
وحين نتأمل معنى الإيجابية في القرآن، نجد أنه تكرر بصور شتى وأساليب متنوعة، ليتأكد لدى المؤمن فردية التكليف وبالتالي ذاتية العمل، ومن ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:95].
وإذا كان كل منا سيقدم على ربه فردًا، فعليه أن يعمل ويقدم أفضل ما يملك، قال -سبحانه وتعالى-: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72،71]، وهناك على الصراط المنصوب على متن جهنم من ينجي الإنسان بعد رحمة الله، غير العمل الذي قدّمه.
وقال -جلا جلاله-: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء:84]، قال الزجاج -رحمه الله- أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالجهاد وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصر، إن تذكر المسلم بأنه مطالب بالعمل والحركة يدفعه إلى الإيجابية، مهما كانت أحواله من القوة والضعف أو الغنى والفقر.
وإذا تأملنا القرآن في قصصه وأحداثه، نجد هدهد سليمان -عليه السلام- مثلاً رائعًا في الإيجابية، ذاك الطائر الصغير في حجمه الكبير في همه، العظيم في تفكيره، وذلك حين انفرد بعمل إيجابي أدخل أمة كاملة في الإسلام، وما كان من لسليمان -عليه السلام- أن يعلم بذلك لولا حركة الهدهد التي قدرها الله -جل جلاله-، مع أنه -عليه السلام- سُخِّرت له الأنس والجن والطير والرياح والملك والسلطان، ومع ذلك، قام الهدهد بعمل إعلامي عظيم في نقل خبر ملكة سبأ؛ قال تعالى يحكي قصة الهدهد مع سليمان: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) [النمل:20].
إن سليمان -عليه السلام- يعرف جنوده جميعًا والهدهد من جنده؛ إذ كان يجلب له أخبار الماء وإن كان بباطن الأرض، فهو لا يستغني عنه، ولذلك افتقده بين جنوده (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ .... ) [النمل:20 -24].
إن المسلم أولى من الهدهد بالعمل الإيجابي والسعي وراء المصالح والبحث عن الخير، إن القرآن العظيم قص علينا خبر الهدهد في تقصيه الحقائق والأخبار ونقلها، وقص علينا خبر النمل في حركته وحرصه على قوته ومدى تعاونه، وقص علينا خبر النحل في تعاونه وتعاضده، أفلا يكون الإنسان أولى بالعمل الدؤوب والحركة المتعاقبة المثمرة.
إن الناظر في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرى الإيجابية واضحة في كل معانيها، من يوم أن كان غلامًا يتيمًا إلى حين وفاته -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا ربى أصحابه على معاني الإيجابية الفاعلة، لقد كان يقول لهم: "بادروا بالأعمال الصالحة". ويقول: "اغتنم خمسًا قبل خمس". ويقول: "استعن بالله ولا تعجز".
وكان يكره أن يرى الرجل بلا عمل، وإذا اشتكى إليه الرجل القوي قلة المال، قال له: "اذهب فاحتطب". وكان يشجع عبد الله بن عمر ويقول: "نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل". بل كان يشجع الأعمال الصغيرة ويثيب عليها، حتى تلك التي زهد فيها الناس اليوم ويرونها عملاً قليلاً، كتنظيف المسجد مثلاً، فحينما ماتت تلك المرأة التي كانت تقم المسجد وتطيبه بالبخور سأل عنها فأخبر بموتها وغضب لما لم يخبر، فذهب وصلى عليها بعد أن دفنت.
إن مقياس الخيرية في الناس ليس أن يقدم الواحد منهم عملاً عظيمًا، وإنما الخيرية حين يقدم الواحد ما هو قادر على أدائه بعد استنفاد جهده وطاقته، ولهذا نرى النبي -عليه الصلاة والسلام- يستعمل إيجابية كل صحابي بما هو قادر عليه وبما هو أهل له، حتى صار كل صحابي أمة وحده، ففي الجانب العسكري استفاد من فكر سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وخلفيته الحضارية فاقترح الخندق، والحباب بن المنذر يقترح الوقوف على الماء يوم بدر، وآخر ينصب المنجنيق في غزوة الطائف، وأبو بصير يخطط لحرب عصابات بعيدًا عن بنود صلح الحديبية، وأما الجانب الاقتصادي فنرى ذلك الصحابي الذي يؤرقه كثرة أبناء المهاجرين والأنصار، فينقل زراعة القمح إلى الحجاز، وعبد الرحمن بن عوف يصفق بالسوق حتى لا يكون عالة على غيره.
وفي جانب الفكر والتربية يسارع عبد الله بن عمرو بن العاص لتدوين الحديث، وزيد بن ثابت لجمع القرآن ويسارع في تعلم العبرانية والسريانية.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب العمل الإيجابي من كل أحد، فكثيرًا ما كان يوجه كلامه إلى الأفراد: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده"، "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"، "بلغوا عني ولو آية"، "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، "سلّم على من عرفت ومن لم تعرف".
لقد كان من النتائج المبهرة التي ورثتها هذه التربية النبوية، أن خرج القادة والخلفاء والوزراء والعلماء وخرج الجنود والمرابطون، يتسابقون في البذل والعطاء والتضحية والفداء، لعلمهم أن المرء يهيئ لنفسه مقعدًا في الجنة.
إن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- يتقدم فيقول: يا رسول الله: أسألك مرافقتك في الجنة، فيقول له: "أعني على نفسك بكثرة السجود". ويتقدم آخر فيقول: يا رسول الله: ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل؟! فيمضي يقاتل يطلب الشهادة ليستعجل دخول الجنة، ويعلن علي -رضي الله عنه- عن أشواقه وأعظم ما يتمنى فيقول: الضرب بالسيف والصوم بالصيف وإكرام الضيف، وقل مثل هذه الأشواق ما تمناه أبو بكر وعمر وعثمان وبقية صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأعمال الصالحة.
الخطبة الثانية:
إن أهم ما يميز المسلم الإيجابي جملة من الأمور:
أولاً: أنه يتعامل مع الأحداث والمواقف بحذر، فهو لا يتعجل الأحكام ولا يقدم رأيه إلا بعد تأنٍّ، ولا يصدر عن رأي العلماء، بل يزن الأمور بميزان الشرع، فما وافقها أخذ وما خالفها ترك.
ثانيًا: أنه في زمن الفتن، يمسك زمام نفسه ويلجم لسانه عن الإشاعة ويتحرى الصدق، يتأمل حكمة الله فيما قدّره وكتبه على عباده من الفتن المزلزلة، التي قدّرها لحكمة وكتبها لعلم يعلمه سبحانه.
ثالثًا: في المصائب التي منها الموت والمرض والهموم والغموم، يكل المسلم الأمر إلى الله ويحوقل ويسترجع، ولا تقعده المصيبة عن العمل، ولا تقعده الهموم عن بذل الجهد، لعلمه ويقينه أنها قدرت عليه قبل خلق السماوات والأرض، ومادام الله تعالى قد كتبها وقدرها فهي حبيبة لنفسه؛ لأن الله هو الذي كتبها عليه.
رابعًا: وأهم ما يميز المسلم الإيجابي أنه ذو همة عالية، يرمق أعلى الجنة وهو يعمل، ويتطلع إلى موافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر ونهى، ويطمع فوق ذلك كله إلى ذلك اليوم الذي يرى فيه وجه الخالق -جل جلاله-، حين يكشف الستر عن عباده، نسأل الله أن نكون منهم.
قد يقول قائل: إذا كانت الإيجابية بهذه الأهمية، فكيف يكون الطريق إليها؟! فأقول له:
أولاً: بالنية السليمة والعمل الصالح.
ثانيًا: بالعلم وهو علم الدين، وإذا أضيف له علم الدنيا كان خيرًا على خير، خاصة ونحن في عصر القوة العلمية والتقنية.
ثالثًا: الانشغال بتقوية الإيمان من ذكر وصلاة وتلاوة وصدقة وتذكر للآخرين وقيام ليل وصيام نهار.
رابعًا: الحفاظ على الهمة وهو العامل المهم في حياة المسلم، أن يحتفظ بهمته ولا يضيعها، قال الجنيد -رحمه الله- "عليك بحفظ الهمة؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء"، وقال بعضهم: "إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه".
خامسًا: النفسية المتفائلة، وهذه من أهم مميزات المسلم الداعية خاصة، فإنه في غمار الحركة يصنع من الشمعة ضوءًا، ومن المصائب مغنمًا، ومن الموت حياةً، لا ييأس إذا قنط الناس، ينظر للحياة بعين الرضا لا بعين السخط، ويدفع مكاره الحياة بالصبر والتسليم، ولا يعني هذا أنه لا يحزن ولا يتألم، بل يصيبه ذلك كله، ولكنه لا يقعد ولا يفتر عن الحركة والعمل.
يظل شعور المسلم بالعجز وافتقاره إلى الله تعالى وعونه وتسديده هو العامل المحرك لكل أسباب هذه الإيجابية، فبقدر إظهار ذله لربه تعالى واستمداد العون منه، بقدر ما ينال التوفيق والإعانة، حتى إنه ربما سن سننًا في الخير لم يسبقه إليها أحد؛ قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُو الفضل الكبير) [فاطر: 32].
نسأل المولى -جل علاه- أن يرزقنا نيةً صالحةً، وعملاً مباركًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم