الإنصاف

زيد بن مسفر البحري

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ مفهوم الإنصاف 2/ أنواعه ودلالاته 3/ قصة في إنصاف الله ليهودي ومع هذا اليهود لا ينصفون 4/ السبيل إلى تحصيله 5/ وجوب إنصاف العلماء وإعطائهم قدرهم ولو أخطأوا

اقتباس

أن تحمل كلامهم على أحسن المحامل، ربما تصدر كلمة من أخيك المسلم قد تنبئ شرا؛ بل شرورا، ويمكن أن تحمل على محمل واحد حسن؛ فعليك أن تحملها على المحمل الحسن حتى يكون قلبك صافيا؛ ولذلك كونك تُخَطِّئ نفسك في هذا المقام أفضل من أن تظلم أخاك المسلم، وبهذا الإنسان يكون ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن الله -جل وعلا- لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الجائرة الظالمة".

 

بالعدل -عباد لله- قامت السماوات والأرض، العدل نزل به الرسل، قال -عز وجل-: (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]، وقال -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [الشورى:17].

وللعدل -عباد الله- شقيق، وحديثي ليس عن العدل وإنما هو عن شقيق العدل، ما هو شقيق العدل؟ إنه "الإنصاف"؛ فما الإنصاف؟ الإنصاف -في مجمله- أن تعطي غيرك مثلما تحب أن يكون لك، سواء كان هذا المُعطى عدواً أو صديقاً، محبوباً أو مكروهاً، سواء كنت في حالة غضب أو في حالة رضا.

 

ذكر ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" أن الإنصاف أنواع شتى، وأول هذه الأنواع -كما قال رحمه الله-: "أن ينصف العبد نفسه".

 

كيف ينصف العبد نفسه؟ أن تنصف نفسك من نفسك؛ كيف؟ يقول -رحمه الله-: "ألّا يدَّعي لنفسه ما ليس لها، وألّا يدنسها بالذنوب بل يرفعها ويكبرها بطاعة الله -عز وجل-؛ إذ كيف ينصف غيره مَنْ لم ينصف نفسه؟!".

 

حقيقة مَنْ لم ينصف نفسه؛ كيف ينصف غيره؟! ولذا تجد أن الإنصاف يدل على علو الهمة، لا يمكن لأحد أن يصل إلى مرتبة الإنصاف ودرجته إلا من كان عالي الهمة، مُريدا إبراء ذمته، مُريدا اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل.

 

النوع الثاني من أنواع الإنصاف: أن تنصف الله -جل وعلا- من نفسك.

 

كيف؟ يقول -رحمه الله-: "ألّا يرى العبد ربه إلا محسنا، ولا يرى العبد نفسه إلا مسيئا مذنبا، فإذا رأى ما يسره فليعلم أنه من فضل الله، وإذا رأى العبد ما يسوؤه فليعلم أنه من تلقاء نفسه، ومن جراء ذنوبه".

 

النوع الثالث: أن تنصف النبي -صلى الله عليه وسلم- من نفسك.

 

كيف؟ يقول -رحمه الله-: "بالقيام بحقه -عليه الصلاة والسلام-، وأن تقدم محبته -عليه الصلاة والسلام- على محبة ما سواه، وألا تخالف أمره، وألا تتعدى حدوده، وذلك لأنه لم يصل إلى أحد خير إلا من طريقه"، صلوات ربي وسلامه عليه.

 

النوع الرابع: أن ينصف العبد العباد من نفسه.

 

وهذا هو محط حديثي عن أنواع الإنصاف، كيف؟ يقول -رحمه الله-: "أن تعطي الناس حقوقهم حتى ولو كان هذا الشخص من الناس مخالفا لك في الرأي أو في الدين"، ولذا يقول -رحمه الله-: "أن تؤدي حقوقهم، وألا تكلفهم فوق وسعهم، وألا تطالبهم بما ليس لك".

 

سبحان الله! الإنسان مع الشخص القريب، الأخ من النسب أو من الدين، هذا شيء قد جبلت عليه النفوس والطبائع، لكن كونك تنصف غيرك ممن هو يخالفك في الدين، هذا لا يمكن لأحد إلا من تربى على مائدة الإسلام.

 

ولذا أذكر لكم هذه القصة العجيبة التي تنبئ عن عظمة هذا الإسلام: كان هناك رجل اسمه طعمة بن أُبَيرِق، هذا الرجل فيه شيء من النفاق، بل انطبع بالنفاق، سرق ذات يوم درعا في جِراب، هذا الجراب فيه دقيق سرقه من رجل يقال له قتادة بن النعمان، فأخذ هذا الجراب بما فيه من الدرع والدقيق، وقدر الله -جل وعلا- أن يكون هذا الجراب مشقوقا فتناثر الدقيق أثناء سيره، فذهب طعمة إلى رجل يهودي وأعطاه هذا الجراب.

 

فلما أصبح قتادة شكا الأمر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا يُعلَم السارق، فتتبعوا آثار الدقيق فوجدوا أنه وصل إلى بيت هذا اليهودي، فأتوا إليه وقالوا: سرقت متاع هذا الرجل، فقال: لم أسرقه، وإنما أتى به طعمة بن أُبيرق، فلما أُحضر طعمة بن أبيرق قال: لم آخذه، وحلف أنه لم يأخذه، فتوجهت سهام التهمة إلى هذا اليهودي، ولذا أتت قبائل طعمة من أجل أن تقف مع صاحبهم، فكأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بناء على أنه عبد لا يعلم الغيب أراد أن يثبت التهمة على هذا اليهودي، ولكن أتى القرآن العظيم بتسع آيات تظهر براءة هذا اليهودي، وتكشف نفاق هذا الرجل المسمى طعمة، ولذا قال الله -عز وجل- في سورة النساء: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً) [النساء:105-107]، إلى آخر ما ذكر الله -عز وجل- في هذه القصة.

 

سبحان الله! أين اليهود من هذا الموقف العظيم؟ وأين موقفهم الآن، وما يجرونه على إخواننا المسلمين المستضعفين في فلسطين من التجويع؟ من إظهار أمارات الموت عليهم صباح مساء؟ أين هذا الموقف من مواقفهم اللعينة؟!.

 

ونعجب من فشل المفاوضات التي تحدث، ولا بد أن تفشل، حتى ولو ظهرت مفاوضات فإنها لو قامت فقاعدتها هشة؛ لم؟ لأن اليهود قَعَّدوا قاعدة وهي قاعدة الغدر والخيانة، ولو أظهروا لك الود والمعاهدة فإنهم سرعان ما يروغون، كأننا في معزل عن القرآن! (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم) [البقرة:100]، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120]، (وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ) [المائدة:13].

 

فهذه حقيقة يجب أن تكون ثابتة في الأذهان: هؤلاء قد طبعوا وتربوا على الغدر والمراوغة، فسبحان الله! مع أنهم أشد الناس عداوة، كما قال -عز وجل- ... في سورة المائدة، ومع ذلك أنصفهم الله -عز وجل- وأنصف هذا اليهودي، وكشف هذا الرجل الذي أظهر الإسلام لكن في قلبه النفاق، كشف الله -عز وجل- الحقيقة، ولذا قال الله -عز وجل-: (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:159]، هذا هو الإسلام، وهذا هو الإنصاف في أروع صوره ومقاماته.

 

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- مبينا أن المسلم يجب عليه أن يكون منصفا بقطع النظر عن أي حال يكون فيها سواء كان مظلوما أو ظالما، سواء في حالة غضب أو في حالة رضا، يقول -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: "هذا؛ وإني لفي سعة صدر ممن تعدى حدود الله فيَّ بأن كفَّرني أو بدَّعني أو فسَّقني".

 

لا تعجب مما يجري الآن في القنوات الفضائية من الطعن في ذات شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- فقد جرى له مثل هذا فيما سبق، لا لأن شيخ الإسلام مقدوح في ذاته، كلا، فهم لم يعاملوه ولم يعاصروه، ولكنهم، أتوا إلى سيرة وذات شيخ الإسلام -رحمه الله- لأنه يحمل المعتقد السليم.

 

ولذلك فإن هذه التهم وهذه الملصقات التي تلصق بالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- في بعض القنوات الفضائية امتداد لما يحصل لشيخ الإسلام -رحمه الله-؛ لأنه حمل هذا المعتقد السليم الذي هو معتقد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

ومع ذلك لا عجب! سبحان الله! بينهم وبينه أكثر من سبعمائة سنة ومع ذلك يحدث الطعن في هذا الرجل، فيقول -رحمه الله-: "هذا وإني لفي سعة صدر ممن تعدى حدود الله فيّ بأن كفرني أو بدعني أو فسقني، ولكنني لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقول وأفعله وأزنه بميزان العدل".

 

يقول ابن القيم -رحمه الله- مبينا أن ابن آدم في أصله خطَّاء، وهذا مصداق الأحاديث الواردة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول -رحمه الله-: "لو كان كل من أخطأ تُرِكَ لما بقي أحد"، إي والله! لو أن أحدنا رأى الآخر في رؤية مظلمة قاتمة بسبب فعل أو قول لما بقي أحد، أهناك أحد يسلم من الخطأ؟ لا يمكن، ولذلك يقول -رحمه الله-: "لو كان كل مَنْ أخطأ تُرك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها".

 

ولذا؛ الإنصاف -أيها الأحبة في الله- من الضرورة بمكان أن يسير عليه المسلم، لأنك مسلم ترجو الله والدار الآخرة، وستحاسب أمام رب العالمين، وسينتصف الله -عز وجل- من الظالمين.

 

ولذا؛ إذا أردت السبل التي تسهل لك -بإذن الله- أن تكون رجلا منصفا، فعليك أن تتخذ ما يأتي:

 

أولا: أن تتجرد في ذاتك وفي قلبك، وأن تتحرى القصد حينما تتكلم عن المخالفين، يعني حينما تتكلم عن أحد فلا بد من أن تكون متجردا من شحنائك، من بغضائك. ثم إني لا أعجب من البعض لأن البعض نصَّب نفسه حاكما على الناس، تجد أنه في المجالس يقول: فلان فعل، فلان صنع.. يا أخي! أنت لست بحكم، أنت في عافية فاحمد الله -عز وجل-، بل أعجب لأني أرى أن أناسا يجمعون حسنات ثم ينثرونها ويوزعونها على الناس؛ وذلك بسبب عدم سلامة قلوبهم!.

 

ثانيا : من الأشياء التي تعينك على أن تنصف الآخرين من نفسك، أن تتثبت حينما تصدر الأحكام: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ) [النساء:94]، وفي قراءة سبعية: (فتثبتوا).

 

سليمان -عليه السلام-، ماذا قال للهدهد لما قال له: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل:22-23]؟ قال: (قَالَ سَنَنظُرُ)، من باب التثبت، (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [النمل:27].

 

ولذلك يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن وقَّاف حتى يتبيَّن"، ليس كل ما تسمعه يكون صحيحا، وليس كل ما ينقل في المجالس وفي المنتديات وفي الأماكن الخاصة والعامة يكون صحيحا؛ فعليك أن تتقي الله -عز وجل-.

 

ثالثا: أن تحمل كلامهم على أحسن المحامل، ربما تصدر كلمة من أخيك المسلم قد تنبئ شرا؛ بل شرورا، ويمكن أن تحمل على محمل واحد حسن؛ فعليك أن تحملها على المحمل الحسن حتى يكون قلبك صافيا؛ ولذلك كونك تُخَطِّئ نفسك في هذا المقام أفضل من أن تظلم أخاك المسلم، وبهذا الإنسان يكون قلبه صافيا سليما على إخوانه، فلو سمعت كلمة فلا تقل: ربما أنه أراد كذا، لا هو أراد كذا، دع القلوب وما فيها لله الواحد القهار، احكم على الناس بالظاهر، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قد قالها؟"، فدع القلوب لله -عز وجل-، ولذا يقول بعض السلف: "إذا سمعت من أخيك المسلم كلمة تحتمل شرا فاحملها على المحمل الحسن ما وجدت إلى ذلك سبيلا".

 

في السنن جاء أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما سئل عن الخدم، كم يغفر لهم في اليوم؟ قال: "سبعين مرة"، يعني لو أخطأ سبعين مرة، من المرة الأولى إلى السبعين يتجاوز عنه فيها ويغض الطرف عنه فيها، هذا من باب إبقاء القلب صافيا.

 

ولذا؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- لما صنع وحشي ما صنعه في حمزة بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصلاة والسلام- وأسلم وحشي، النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد ألّا يظلمه لأنه فعل فعلة شنيعة، ومع ذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا وحشي، لا أريد أن أرى وجهك"، فكان وحشيّ إذا جلس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجلس كان خلفه، من أجل ماذا؟ من أجل أنه -عليه الصلاة والسلام- لا يريد أن يتذكر تلك الصورة البشعة التي فعلها وحشي، فلربما -والإنسان بطبعه ضعيف- حصل ما حصل، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يبقى قلبه صافيا سليما أبيض -عليه الصلاة والسلام-.

 

رابعا : من الأشياء التي تعينك على أن تكون منصفا للآخرين ألّا تقتصر على نشر سيئاتهم، لأن البعض لا يرى إلا صورة قامتة سوداء، بل إن البعض -وللأسف! نسأل الله العافية!- من حين ما يرى فلانا يقول: سبحان الله! هذا الرجل معقد، هذا الرجل يحمل من الشر ما يحمل، قبل أن يجالسه وقبل أن يحادثه، فإذا حادثه وجالسه، وكلنا ربما جرى له مثل هذا، فإذا حادثه وجالسه قال: سبحان الله! ما أروع هذا الرجل! كنت مخطئا، سبحان الله! ربما لو أن هذا الرجل لم تصاحبه ولم تخالطه ستبقى هذه الصورة البشعة السوداء في قلبك تجاهه، فلربما تحملها إلى آخرين، ولذا يكون المسلم منصفاً فلا يقتصر على نشر السيئات، بل لا تنشر السيئات، أنت في سلامة وفي عافية من أمرك.

 

خامسا: من الأشياء التي تعين المرء على الإنصاف أن يبتعد عن الجدل، الجدل في محل النزاع إذا كَثُر لا خير فيه، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال، كما في الصحيحين: "إن أبغض الناس عند الله الألدّ الخَصِم"، وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في المسند وغيره: "ما ضل قوم بعد هدْيٍ كانوا عليه إلا أوتوا الجدل. (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)".

 

ولذا يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا تمارِ أخاك [يعني: لا تجادله] فإن المِراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته"، الإمام مالك -رحمه الله- يقول: "المراء يقسّي القلوب، ويورث الضغائن"، وهذا شيء مشاهد.

 

ولذا؛ لو نظرنا إلى المواقف العجيبة في موقف الغضب أو موقف انتهاز الفرص من أجل أن يحط قدر الند... زينب، ماذا قالت عائشة -رضي الله عنها-؟ ذكرت أنها في حادثة الإفك، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما كان أحد يساميني من زوجات النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا زينب"، تقول: ما كان أحد ينافسني إلا زينب، ومع ذلك لما سئلت؛ قالت: "أحمي سمعي وبصري، ما علمت على عائشة إلا خيرا"، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "فعصمها الله بالورع".

 

انظروا إلى العظمة، زينب -رضي الله عنها- قالت هذه المقولة إنصافا، وعائشة -رضي الله عنها- كانت تساميها، فقالت هذه المقولة ونشرتها إنصافا لها.

 

ولذا يقول عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه كما في صحيح البخاري-: "ثلاث من جمعهن جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار"، يعني من الفقر.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: يقول الشافعي -رحمه الله-: "خرجت من بغداد فما تركت أحدا أورع ولا أتقى ولا أعلم ولا أزهد من أحمد بن حنبل"، عبارات تجري هكذا؟ لا، الإمام أحمد -رحمه الله- طالب من طلاب الإمام الشافعي، فإذا كان الإمام الشافعي وهو يسطر لنا قاعدة نسير عليها ونقتدي به فيها، وهي أن شيخا يقول عن تلميذه هذا الكلام، يقول: "خرجت من بغداد فما تركت أحدا أورع ولا أتقى ولا أعلم ولا أزهد من أحمد بن حنبل".

 

يقول ابن سيرين -رحمه الله كما في البداية-، يقول: "ظُلْمك لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت، وتكتم خيره".

 

وقال سفيان الثوري -رحمه الله كما ذكر ذلك ابن عبد البر في كتابه "العلم وفضله- يقول: "إذا ذُكِر الصالحون تنزلت الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبار الصالحين إلا ما بدر منهم" -يعني إلا ما ساء منهم، وما حصل من خطأ منهم- "ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر منهم حرم التوفيق، ووقع في الغيبة، وحاد عن الطريق".

 

ويقول الذهبي -رحمه الله-: "إن العالم الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه واتسع علمه وظهر ذكاؤه وأخطأ في مسألة ما فلا نضلله ولا نطرحه، بل ننشئ ونظهر محاسنه، ولا نتبع خطأه، ونرجو له التوبة من ذلك".

 

وقال القرطبي -رحمه الله-: "لا ينبغي لنا في حق ذي الفضل أن ننسى محاسنه ونغطي حسناته؛ بل نستغفر له زلته".

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله ولقد بدأت بكلام شيخ الإسلام وأختم بكلام شيخ الإسلام رحمه الله-، يقول: "إن الله -عز وجل- يقول: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ)"، أي: لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا، فيقول -رحمه الله-: "إذا كان المسلم نهي أن يحمل على المخالف له في الدين نتيجة ما يكون في قلبه من شحناء وبغضاء، إذا كان نهي عن ذلك، فكيف إذا كان هذا البعض من المسلمين، كأن يكون فاسقا أو متأولا؟".

 

نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من عباده المتقين المؤمنين الذين يرون الحق ويستمعون إليه فيتبعونه، ويرون السوء فيجتنبونه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات