الإنسان ومراجعة النفس

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ للإنسان العاقل قدرة اختيار وقدرة محاسبة النفس 2/ وجوب الإيمان بالقضاء والقدر 3/ عظيم قدرة الله في منحه الإنسان محاسبة نفسه 4/ لابد لمحاسبة النفس من جدية وعلم وحيادية 5/ ضرورة الصدق مع النفس حين مراجعتها

اقتباس

الصدق مع النفس حين مراجعتها ضرورة، وبدونه لا قيمة للمراجعة، وأي مثال للصدق مع النفس أرقى وأسمى من صدق الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، أولئك الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لنفاق في قلوبهم ولا لخوف أقعدهم عن الجهاد، فهم من أهل بدر، بل لمجرد ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

كل إنسان يعلم أنه كيان مركب مؤلَّف من روح ونفس وجسد، أما الجسد فهو معروف ظاهر للعيان؛ فهو الآلة التي تحدث المحسوسات، وأما الروح فهي مصدر الحياة العضوية للجسد، فإذا نُزعت من الجسد توقف الجسد وتهاوى ومات الإنسان. والله -تعالى- وحده العليم بالروح وبكينونتها وكنهها، قال -سبحانه-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:85].

 

وأما النفس فهي ما يدفع الإنسان بجسده إلى الصلاح أو الفساد قال -تعالى- (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس:8].

 

فإما أن تكون النفس صالحة تقية تدفع بالجسد والجوارح لعمل الخير، وإما أن تكون خلاف ذلك، ولذلك يطلق لفظ النفس أحيانًا ويراد بها العقل باعتبار تعلقها بالجسد.

 

والإنسان مُنِح القدرة على مراجعة نفسه بنفسه، قال ابن العربي في تفسيره للآية: "إن الله -تعالى- قد أعطى الإنسان القدرة على المحاسبة والمراجعة والنظر".

 

إذاً فالإنسان ليس دابة بهيمية تمشي على الأرض، بل زوده ربه الكريم -إضافة إلى أدوات تقدير المصلحة والمفسدة- بقابلية تحمل المسئولية، فقد اختاره الخالق البارئ من قبل لحمل الأمانة ولتحمل المسئولية العظمى على الأرض، هي مسئولية على الأرض لكنها تصله بعالم ما وراء الأرض، وإنها -والله- لكرامة تستحق الحمد والشكر بكل ما يمكن من أداء (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].

 

ولا غرابة في كائن بهذه المواصفات والقدرات أن يُحاسَب على عمله، بل هو من العدل؛ فالله -تعالى- هو أحكم الحاكمين، وهو حرم الظلم على نفسه؛ فلا يظلم مثقال ذرة، وحرمه على العباد "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".

 

والخالق -بحكم خلقه لكل شيء وملكه لكل شيء- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولو شاء -سبحانه جل في علاه- لأهلك الناس جميعًا فهو رب العباد الذين مَنَّ عليهم بالخلق والإيجاد، لا معقب لأمره ولا رادّ لقضائه، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.

 

في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله الدَّيْلَمِي قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يُفسد عليّ ديني وأمري، فأتيت أُبَيَّ بن كعب فقلت: أبا المنذر إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري، فحدِّث من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني به. فقال: "لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم، ولو أنفقت جبل أحد ذهباً في سبيل الله -عز وجل- ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدَر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لدخلت النار"قال: فأتيت عبد الله فسألته فذكر مثل ما قال أُبَيّ، وقال لي: "ولا عليك أن تأتي حذيفة"، فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قالا، وقال ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أن الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أُحد ذهبًا أو مثل جبل أحد ذهبًا تنفقه في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار".

 

هكذا يؤمن الإنسان بالقدر، وهذا هو المنهج المنقذ بإذن الله -تعالى-.

 

الحاصل أن الله -تعالى- لما أعد للعباد هذا الحساب لم يخفه عنهم، بل أخبر به، لا بل وصفه وصفًا دقيقًا، وحذّر منه، وجعل للإنسان الفسحة الواسعة للمراجعة ومطلق الحرية للاختيار.

 

وجريان المراجعة -أيها الإخوة- يتخذ عدة كيفيات وأشكالا، ومن أشهرها ما يجري في العادة بين الإنسان ونفسه أي: أن الإنسان هو بنفسه يراجع نفسه، وقد يكون هذا الأمر عاديا مألوفا لكثرة ما سمعنا به ومارسناه أن نراجع أنفسنا، ولكنه في الحقيقة أمر معجز بالغ الإعجاز أن يكون للإنسان إمكانية الحوار الداخلي مع نفسه، إنها قدرة الخالق -سبحانه- في صنع الكيان البشري ودواخله النفسية الدقيقة العجيبة المذهلة الباهرة الصنع (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4].

 

وإنها -كذلك- رحمته -سبحانه- في منح الفرص العديدة والكيفيات المتنوعة للإنسان؛ كي يصحح طريقه، ويراجع منهجه في الحياة، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا..) [سبأ: 46].

 

قال السعدي في تفسيره: "(أَن تَقُومُوا لِلَّهِ) أي: تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين، وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك".

 

وجاء في التحرير: "أرشدوا إلى كيفية النظر إلى شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها" (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ: 46].

 

معاشر الإخوة: المراجعة أخلص وأصدق ما تكون عندما يتوفر فيها ثلاثة أمور:

 

أولا: أن يكون المراجع جادّا حازما.

 

ثانيا: أن يكون عالما عارفا بما يراجع به نفسه.

 

وثالثا: أن يكون حياديا غير مراوغا يبتغي الحق لا شيء إلا الحق.. بدون هذه الأمور لن يكون للمراجعة أثر قوي وصحيح.

 

أما الجدية فمع أن أكثر الناس في الدنيا يُغَلِّبون الهزل واللعب واللهو إلا أن الأصل في الحياة الجدية لا الهزل، فالأصل هو الجد، والهزل هو الاستثناء، وليس العكس، الهزل هو الطارئ على الجد في حياة الإنسان.

 

ولذلك ورد في القرآن ذم اللهو واللعب بالإطلاق قال -تعالى-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأنعام:32]، وقال -سبحانه-: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) [محمد:36]. وقال -جل وعلا-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء:1-3]، ولقد قال -سبحانه-: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق:13- 14].

 

فالمراجع إن كان جادا فسوف يكون يقظا واعيا شديد المراقبة، يتلمس أخطاءه بكل حزم، وإذا فقد الجدية ارتخى وترك الأمور تفرط من يده؛ فلا مراجعة ناجعة إلا بجد وحزم.

 

وأما العلم والمعرفة فكيف تستقيم المراجعة إن لم تكن على أساس علمي، فما بُني على جهل لا ينتج إلا الجهل، فمراجعة النفس إن بُنيت على هوى وجهل وتخبط فسوف تؤدي بصاحبها للانحراف.

 

ولذلك أكد القرآن على السلطان والكتاب أي: الدليل والبرهان؛ لأن العلم والمعرفة لا يستنبطان إلا من الدليل، قال -سبحانه-: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [القصص:49]، وقال -سبحانه-: (إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يونس:68]، وقال -جل وعلا-: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [النمل:64].

 

فخلاف العلم الجهل، وليس بعد الجهل إلا الضلال والضياع، قال -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18].

 

إذا أردت المراجعة فراجع بعلم، والعلم يعني القدرة على التفريق بين الحلال والحرام على ضوء الشريعة، ليس في كل شيء فليس كل إنسانا فقيها، فيما أنت قائم عليه بنفسك في حياتك؛ من أحوال وعلاقات، ونوايا وأفعال، راجع واسأل، وراجع هل هي في قائمة المباح؟ هل تميل بك إلى كسب الوقت أكثر؟ أم إلى ضياعه أكثر؟

 

إنها حياتك.. هل تقربك من الجنة أم تبعدك عنها وتقربك من النار؟ هل تسكب على قلبك الطمأنينة أم تجعلك في قلق وتربص؟

 

ثق أخي أن كل حلال فيه راحة وطمأنينة، وأن كل حرام له في قلب المؤمن وخز مستمر يزداد تارة وينخفض تارة أخرى بحسب زيادة الإيمان ونقصانه، وهذا الوخز باقٍ ما دام في القلب حياة، فإذا انطفأ نور الحياة أطبقت عليه غفلة ظلماء فطمس على قلبه وفقد الإحساس بالكلية، بل وزين له سوء عمله فأصبح في نظره جميلاً حسنًا (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر:8].

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

 

وبعد: فالمراجعة أخلص وأفضل ما تكون يتوفر فيها ما تقدم الجد والحزم، العلم والمعرفة، وأخيرًا عندما يتوفر فيها الحياد.

 

والحياد يعني الإنصاف، البحث عن الحق دون الهوى؛ فإذا لم تكن صادقا مع نفسك التي هي أعز شيء تملكه فمع من تكون صادقا إذاً؟! وإذا ملت إلى هوى النفس فإنك لن تراجع بل سترضى وتؤيد، وفرْقٌ بين المراجعة والتأييد.

 

استحضار الصدق مع النفس حين المراجعة يستدعي فطنة بحقيقة الربح والخسارة ومفهومها الصحيح؛ فالرابح إنما هو الصادق، أما الذي يساير نفسه بالرغبات والحيل فقد أوقع نفسه في الخسران بنفسه، هو أوقعها بنفسه (يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ) [التوبة:42]، وقال -تعالى-: (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:10]، وقال -سبحانه-: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:36].

 

ولذلك يحضر الشيطان في مقام المراجعة؛ ليزين للإنسان الخطأ والمعصية، أو على أقل حال ليهوّن الخطأ ويصغره في عينه، ولقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من محقرات الذنوب؛ ففي مسند أحمد من حديث سهل بن سعد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم ومحقرات الذنوب".

 

ولقد كان السلف يحذرون من هذا المنحدر؛ ففي صحيح البخاري عن غيلان عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إنكم لتعملون أعمال هي أدق في أعينكم من الشعر؛ إن كنا لنعدها على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات".

 

وقد يحضر الشيطان حين مراجعة النفس؛ لينفخ فيها ويعظمها، ويفخم العقل، فيدخل الكبر في القلب، فلا تقبل النفس الحق، وتفقد المراجعة روحها.

 

الحاصل أن الصدق مع النفس حين مراجعتها ضرورة، وبدونه لا قيمة للمراجعة، وأي مثال للصدق مع النفس أرقى وأسمى من صدق الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، أولئك الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا لنفاق في قلوبهم ولا لخوف أقعدهم عن الجهاد، فهم من أهل بدر، بل لمجرد التسويف.

 

قال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "جاءه المخلفون -أي جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبِل منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "تعال". فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: "ما خلَّفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟!" فقلت: بلى، إني والله- يا رسول الله- لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني -والله- لقد علمت لئن حدَّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك"فنزلت توبتهم من فوق سبع سماوات، ودُوِّنت في القرآن في آيات تقرأ إلى يوم القيامة وسُميت السورة التي نزلت فيها سورة التوبة.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ...

 

 

 

 

 

المرفقات

ومراجعة النفس

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات