الأمانة

الشيخ د صالح بن مقبل العصيمي

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ فضائل الأمانة 2/ الدين كله أمانة 3/ صور من الأمانات التي يجب حفظها 4/ وجوب أداء الأمانات في كل الأحوال 5/ أهمية حفظ أمانات الدولة .

اقتباس

فَالشَّرْعُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَكُلَّ مَا يَخْفَى وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ مِمَّا يَعْمَلُهُ العَبْدُ الْمُكَلَّفُ. فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُطْلِقْهَا فِيمَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُسْمِعْهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَاللِّسَانُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَتَلَفَّظْ بِمَا لَا يُرْضِي اللهَ، وَالْبَطْنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُدْخِلْ فِيهِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَمَسْ بِهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ فَاحْفَظْهُ، فَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ اللهُ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَسِرْ بِهَا إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، وَالْعَقْلُ أَمَانَةٌ..

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ.. فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .

 

عِبَادَ اللهِ: حَدِيثُنَا اليَوْمَ عَنِ الْأَمَانَةِ، وَهِيَ خُلُقٌ عَظِيمٌ، وَمَنْهَجٌ قَوِيمٌ، عَرَضَهَا اللهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ سَمَاوَاتٍ وَأَرْضٍ وَجِبَالٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا؛ خَوْفًا مِنَ تَبِعَاتِهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ الظَّلُومُ الْجَهُولُ.

 

إِنَّ أَعْظَمَ أَمَانَةٍ حَمَلَهَا الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ، وَيَخْضَعَ لَهُ، وَيَرْجُوَهُ وَيَخَافَهُ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ وَيَنْتَهِي عَنْ زَوَاجِرِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَكْثَرُهُمْ خَانَهَا. فَالْأَمَانَةُ اِعْتِقَادٌ وَعبَادَةٌ وَمُعَامَلَةٌ فِيهَا جِمَاعُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَأَثْنَى اللهُ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون) [المؤمنون: 8]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ).

 

وَمِنَ الْأَمَانَةِ الَّتِي حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ: التَّوْحِيدُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ، وَالحَجُّ وَالْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ وَالْحُدُودُ، وَكُلُّ الْعِبَادَاتِ، وَوَدَائِعُ النَّاسِ أَمَانَةٌ، قَالَ اللهُ –تَعَالَى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58].

 

فَالشَّرْعُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَكُلَّ مَا يَخْفَى وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ مِمَّا يَعْمَلُهُ العَبْدُ الْمُكَلَّفُ. فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُطْلِقْهَا فِيمَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُسْمِعْهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَاللِّسَانُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَتَلَفَّظْ بِمَا لَا يُرْضِي اللهَ، وَالْبَطْنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُدْخِلْ فِيهِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَمَسْ بِهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ فَاحْفَظْهُ، فَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ اللهُ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَسِرْ بِهَا إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، وَالْعَقْلُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُخَطِّطْ أَوْ تُدَبِّرْ بِهِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَوَالِدَاكَ أَمَانَةٌ فَبِرْ بِهِمَا، وَأَبْنَاؤُكَ وَزَوْجَتُكَ أَمَانَةٌ، فَارْعِهِمْ وَمُرْهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَبِحِفْظِهِمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، فَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ أَمَامَ اللهِ.

 

وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فَيَعْدِلُ بَينَ زَوْجَتَيْهِ إِذَا كَانَ مُعَدِّدًا، وَأَن تَكُون المَرْأَة أمينة فتربي أولادها بِمَا يرضي الله، وَأَن تُحَافِظَ عَلَى حِجَابِهَا.

 

وَمَنِ الْأَمَانَةِ حِفْظُ الْأَسْرَارِ، وَعَدَمُ إِفْشَائِهَا، فَحِفْظُ أَسْرَارِ الْمَجَالِسِ أَمَانَةٌ كُبْرَى تَجِبُ رِعَايَتُهَا، وَعَدَمُ إِفْشَاءِ مَا يَدُورُ فِيهَا إِلَّا مَا فِيهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ وَالْوَطَنِ، أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَيَنْبَغِي الْمُحَافَظَة عَلَى الْمَجَالِسِ وَعَلَى أَسْرَارِ الْأَصْحَابِ، فَيَجِبُ أَنْ تُحْفَظَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَفْشِيَ مِنْ أَسْرَارِ إِخْوَانِهِ مَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يُشَاعَ عَنْهُمْ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ اِلْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ).

 

فَلْيَكُنْ صَاحِبُ الْمَجْلِسِ أَمْينًا لِمَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ، وَيَنْبَغِي الحَذَرُ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي حِفْظِ الْأَسْرَارِ؛ بَلْ هِيَ مِنْ أَوْكَدِ الْوَدَائِعِ، وَهِيَ الَّتِي تُعْلِي مِنْ شِيَمِ أَصْحَابِهَا وَشَمَائِلِ صِفَاتِهِمْ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَمِينٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَمِينٌ فِي الْأَرْضِ، وَأَصْحَابُهُ وَنِسَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي حِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَهَذَا حُذَيفَةُ كَانَ أَمِينًا عَلَى سِرِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي المُنَافِقِينَ، فَكَانَ صَاحِبَ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَحَفِظَ سِرَّ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

وَكَانَ أَنَسٌ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ يَقُولُ كَمَا رَوَى البُخَارِيُّ: "أَسَرَّ إليَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرًّا فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا غَيْرَهِ"، فَقُلُوبُ الْعُقَلَاءِ حُصُونُ الْأَسْرَارِ.

وَأَمِينٍ حَفَظْتُهُ سِرَّ نَفْسِي ***  فَوَعَاهُ حِفْظَ الْأَمِينِ الْأَمِينَا

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ المُؤْمِنَ الحَقَّ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ فِي صَغَائِرِ الأُمُورِ وَكِبَارِهَا. إِنَّ مِنْ صُوَرِ الْأَمَانَةِ أَنْ تَبْتَعِدَ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَأْكِلِ وِالْمَشْرَبِ، فَلَا تُسْرِفْ فِي مَأْكَلِكَ وَمَشْرَبِكَ، فَتَكُونُ قَدْ ضَيِّعْتَ الْأَمَانَةَ، وَلَا تُفْسِدْ مَا لَيْسَ لَك؛ فَإِنْ نَامَتْ أَعْيُنُ النَّاسِ، فَإِنَّ عَيْنَ اللهِ لَا تَنَامُ.

 

فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ لَا يَحْفَظُ مُمْتَلَكَاتِ غَيْرِهِ! فَعِنْدَمَا يَسْتَأْجِرُ سَيَّارَةً أَو يَسْتَعِيرُهَا لَا يُبَالِي بِهَا، وَلَا يُحَافِظُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكُهُ، وَعِنْدَمَا يَسْكُنُ شُقَقًا مَفْرُوشَةً، أَوْ فَنَادِقَ تَجِدْهُ يَخْرُجُ وَقَدْ أَشْعَلَ الْمُكَيِّفَاتِ وَأَضَاءَ الْأَنْوَارَ، قِمَّةٌ فِي الْإِسْرَافِ وَسُوءِ الطَّوِيَّةِ، وَعِنْدَمَا يَكُونُ مُوَظَّفًا أَوْ مُعَلِّمًا فَتَجِدْهُ يَخْرُجُ وَلَا يُطْفِئُ الْأَنْوَارَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ -بِفِهْمِهِ السَّقِيمِ- مِنْ مُمْتَلَكَاتِهِ.

 

وَعَلَى التَّاجِرِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِي تِجَارَتِهِ، فَلَا يَغُشُّ فِي بِضَاعَتِهِ وَلَا يَنْسِبُهَا لِشَرِكَاتٍ لَيْسَتْ لَهَا وَلَا إِلَى بُلْدَانٍ لَيْسَتْ مُنْتِجَتَهَا، وَأَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِينَ قُوَّةَ البِضَاعَةِ، وَرَدَاءَتِهَا، وَمَزَايَاهَا، وَعُيُوبِهَا، وَلَا يُغَيِّرُ فِي تَوَارِيخِ الإِنْتَاجِ، وَأَنْ يُعَامِلَ النَّاسَ مُعَامَلَةً حَسَنَةً، فَمَسْؤُولِيَّتُهُ أَمَامَ اللهِ عَظِيمَةٌ، وَيُبْشِرُ مَتَى كَانَ أَمِينًا بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ، مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَقَالَ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ: حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ).

 

وَلَا يَقْتَصِرُ التَّاجِرُ عَلَى بَائِعِ الْبَضَائِعِ؛ بَلْ يَشْمَلُ تُجَّارَ الْعَقَارِ عِنْدَ بَيْعِهِمْ لِلْعَقَارَاتِ، أَوْ تَأْجِيرِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْدُقُوا وَيُبَيِّنُوا، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَعَلَى السَّائِقِ الخَاصِّ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى سَيَّارَةِ مَنْ يَعْمَلُ عِنْدَهُ، فَقدْ تَجِدُ بَعْضَهُمْ حِينَمَا يَقُودُ السَّيَّارَةَ بِمُفْرَدِهِ لَا يُحَافِظُ عَلَيْهَا؛ بَل يَدْخُلُ بِهَا فِي الأَمَاكِنِ الْوَعِرَةِ، وَيَتَعَمَّدُ الْإِسْرَاعَ عِنْدَ الْمَطَبَّاتِ، لِيُعَجِّلَ بِتَلَفِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكَهُ، أَوْ يَقْضِي بِهَ أَشْغَالًا لَيْسَتْ خَاصَّةً بِأَصْحَابِهَا. وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الْعَامِلِينَ فِي الْمَطَاعِمِ، تَجِدُ بَعْضَهَمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى نَظَافَةِ الطَّعَامِ إِلَّا فِي حَالِ وُجُودِ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِذَا غَابَ أَهْمَلُوا النَّظَافَةَ، وَمِثْلُهُمْ الْعَامِلَاتُ فِي البُيُوتِ، قَدْ تَجِدُ بَعْضَهُنَّ تُسِيءُ مُعَامَلَةَ الْأَطْفَالِ فِي حَالِ غِيَابِ الْوَالِدَيْنِ، فَقَدْ تَضْرِبُهُ أَوْ تُعَنِّفُهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَسْؤُولُونَ أَمَامَ اللهِ عَمَّا اِسْتَرَعَاهُمْ مِنْ أَمَانَاتٍ فَرَّطُوا فِيهَا.

 

عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ حَذَّرَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ضَيَاعِ الْأَمَانَةِ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ" (رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ).

 

قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا اؤْتُمِنَ" (أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ).

 

وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا وَدَّعَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ قَالَ: "أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).

 

عِبَادَ اللهِ، اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَسْمَعُكُمْ وَيَرَاكُمْ؛ فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَدُّوا الْأَمَانَةَ، فَاللهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. فَالإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمِينًا؛ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ بِخُشُوعٍ مِنْ حَيْثُ أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَيُمَكِّنُ الْمَأَمُومِينَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَالْمُؤَذِّنُ أَمِينٌ عَلَى الوَقْتِ؛ لِذَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةِ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

أمَّا بَعْدُ؛ فَاِتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى                                            .

 

عِبَادَ اللهِ: وَمَنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَاتِ أَنْ يَحْفَظَ الْمَسْؤُولُ أَسْرَارَ الدَّوْلَةِ، وَلَا يُفْشِيهَا لِقَرِيبٍ وَلَا لِبَعِيدٍ، وَلَا لِمُحِبٍّ وَلَا لِعَدُوٍّ، وَكَمْ خَانَ خَائِنٌ وَكَشَفَ لِلْخُصُومِ وَالأَعْدَاءِ الْأَسْرَارِ فَكَانَتْ سَبَبًا لِلذُّلِّ وَالْهَوَانِ لَهُ وَلِبَلَدِهِ! وَالْمُلُوكُ إِذَا وَلَّوُا أَحَدًا حَثُّوهُ عَلَى حِفْظِ الأَسْرَارِ، وَحَذَّرُوهُ مِنْ إِفْشَائِهَا، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْقَسَمَ، فَمَنْ يُوَلِّيهُمْ الْوُلَاةُ الْمَسْؤُولِيةَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِحِفْظِ الْأَمَانَةِ.

 

وَعَلَى الْمَسْؤُولِ الَّذِي وَلَّاهُ وَلِيُ الْأَمْرِ الْأَمَانَةَ أَنْ يَخْتَارَ الْأَكْفَاءَ الْأَقْوِيَاءَ الْأُمَنَاءَ؛ لِأَنَّ وَاجِبَاتِ ذَوِي الْوِلَايَاتِ ثَقِيلَةٌ، مُؤْتَمَنُونَ عَلَى مصَالِحِ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسِ، وَقَائِمُونَ بِوَاجِبَاتٍ عَظِيمَةٍ تَجِبُ رِعَايَتُهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَشْعِرُوا الإِخْلَاصَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].

 

يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَة -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ هَذَانِ جِمَاعُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ" اِنْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.

 

لِذَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الوِلَايَاتِ أَخْذُ الهَدَايَا وَنَحْوَهَا؛ لأَنَّهَا تُعَارِضُ الْأَمَانَةَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ، كُلٌّ بِحَسَبِ مَا كُلِّفَ بِهِ. ويُبْشِرُ الرَّجُلُ الأَمِينُ بِمَا قَالَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ يَضْمَنُ لَهُ الجنَّةَ، حَيْثُ قَالَ: "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ).

 

الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلاً، الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.

 

الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

 

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ،  وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.

المرفقات

الأمانة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات