عناصر الخطبة
1/حب المال طبيعة بشرية 2/نظرة الشريعة إلى المال 3/من مظاهر الخلل في تدبير المال عند الأسرة 4/توجيهات لتدبير أمثل للمالاقتباس
تتجاسَرُ على طَلَبِ ما لا تقدِرُ عليه من الكماليات، وتَحُثُّ السيرَ على خُطا المترفينَ وتَتَطَلَّعَ إلى ِمحاكاةِ حالِ الأغنياءِ والموسِرِين، تَطْمَحُ إلى امتلاكِ أرقى المساكِنِ، وأرفِه المراكِبِ، وأَحْدَثِ السيارَات, يَقْتَنِيْ أفرادُها مِنَ الأَجْهِزَةِ أَغَلاها، وَمِنَ المُقتنياتِ أرقاها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أيها المسلمون: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آل عمران: 14], مَالٌ تَـمِيْلُ إِليهِ النَّفْسُ لا تَمَلُّ طِلابَهُ هَو زِينَةٌ، هو مُتعَةٌ، هو مَصْدَرٌ للعيشِ في كَنَفِ النعيم, مالٌ تميل إليه النفسُ لا تُلامُ على حُبٍّ لِما فُطِرَت عليهِ, طَلَبُ المالِ مِنْ حِلِّهِ عَمَلٌ صالحٌ يُؤجَرُ عليه العبدُ ويَغْنَم, والقعودُ عَن طلَبِ الرزقِ عجزٌ وخَوَرٌ ومَذمَّة ونُقْصان.
وعلى سُفوحِ المالِ تُرفَعُ أَنْفُسٌ *** وعليه تُخْفَض أنفسٌ وتذوبُ
وقد كَتَبَ اللهُ أرزاقَ الخلائِقِ، وقسَمَ بينَهم معايِشَهُم؛ فمنهم غنيٌ, ومنهم فقير، ومنهم ثَرِيٌّ, ومنهم حسير.
وما الثرواتُ تَعْنِيْ قُربَ عَبْدٍ *** ولا الإعْسَارُ يَعْنِي السُّوءَ فيه
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)[سبأ: 37], ولأَن شَرِيْعَةَ اللهِ هيَ قِوامٌ لدِينِ الناسِ, وهي صلاحٌ لِدُنياهم؛ فإنها قَدْ هذَّبَت الأَنفُسَ في شأنِ المالِ وقَوَّمَتها, فَدَعَت إلى سلوكِ أَكرَمِ وُجُوْهِ الكَسْبِ، ونَهَتْ عَنْ الكسب من وجوهٍ حرام, وأبانت مكانةَ المالِ وحُرمَتَه، وضَرُورَةَ حِفظِهِ وحُسنِ التدبيرِ فيه, وما مِن كيانٍ إلا والمالُ لَه أقوى سَند.
والأُسرةُ المسلمةُ كِيانٌ متكامِلٌ له أركان, والمالُ رُكْنٌ تَقومُ عليه الأُسرةُ وتَبْنِيْ عِمادَها, ومِنْ أَسْبابِ السَّكِيْنَةِ للأُسْرَةِ أَنْ يَكُوْنَ لها من المالِ ما تَحْفَظُ بِه كرامتها، وتجلِبُ به حاجَتَها، وتَكُفُّ بِه عن الناسِ مسألَتها.
وكُلُّ أُسرَةٍ لها وَلِيٌّ رَشِيْدٌ, يَعرِفُ للمالِ قَدراً، فيأَخُذُهُ مِن حلِّهَ، ويصرِفُهُ في حَقِّه، مِنْ غَيرِ إسرافٍ ولا تَبْذِيْرٍ، وَمِنْ غَيْرِ بُخْلٍ ولا تَقْتِير, فإنه أَهلٌ لأَن يقودَ الأُسرةَ إلى أكرَمِ المقاماتِ، وأرقى النهايات.
إِنَّ النَّفَقَةَ على الأهلِ والزوجةِ والعِيالِ, والسَّعْيَ في طلبِ الرِّزْقِ لَهُم, أَمرٌ قَدْ فُطِرَ عليه الوليُ فَلَنْ يتخلى عَنْه، وهو من الواجبات التي أَوجبه الله عليه، وهو من أفضلِ القُرُبات التي يُنالُ بها كريم الدرجات, فعن أَبي هريرة -رضي الله عنهما-: أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ"(رواه مسلم).
ولكنَّ مِنْ أَسْوَأ الخِصالِ التي تُهَدِّدُ اقتصادَ الأُسرةِ، وتُزَعْزِعُ أَمنها المالي، وتُعَرِّضُها للفقرِ والحاجَةِ، ورُبَّما تُلْجئُ عائلَها إلى طولِ العناءِ، والانغماسِ في كُرُباتِ الديون؛ أَن تَخْتَلِطَ عليها السُبُلْ، وتضطرِبُ لديها الموازِينُ، فلا تَفْقَهُ الأُسرَةُ تَرْشِيداً للإنفاقِ، ولا تُحسنُ تَرْتِيباً للأَولوياتِ، فتراها تُؤَخِرُ ما حَقًّهُ التقديم، وتُقدِمُ ما حقَّه التأخير، تتجاسَرُ على طَلَبِ ما لا تقدِرُ عليه من الكماليات، وتَحُثُّ السيرَ على خُطا المترفينَ وتَتَطَلَّعَ إلى ِمحاكاةِ حالِ الأغنياءِ والموسِرِين، تَطْمَحُ إلى امتلاكِ أرقى المساكِنِ، وأرفِه المراكِبِ، وأَحْدَثِ السيارَات, يَقْتَنِيْ أفرادُها مِنَ الأَجْهِزَةِ أَغَلاها، وَمِنَ المُقتنياتِ أرقاها، ومن الألبسةِ أَفخَرَها, تُقِيْمُ مُناسباتها بأَبهظ الأثمان, ليسَ ذلك عَن وفرةٍ في المالِ وسعَةٍ وغِنى؛ وإنما تحامُلاً على النفسِ وإرهاقاً للوليِّ؛ لِيُدْرِكوا في الناسِ مدحاً أو إعجاباً أو إطراءً.
أُسْرٌ تأَسِرُها صوَرُ المباهاة المُتَصَنَّعةِ التي يتظاهَرُ بها أكثرُ الناسِ زوراً, فلا تزالُ تجري في طَلَبِ مجاراتِها, ومتى ما حُرِمَتِ الأُسرةُ القناعةُ بما قَسَمَهُ اللهُ لها، والرضا بالعيشِ بما يُسِّرَ لها؛ فإنها لَن تُدرِكَ لذةَ مَتَعِ الحياةِ وإِنْ تطاوَلَت فأَدرَكَت شيئاً مما تَطْمَحُ إليه منها.
أفلحَ من بهدي رسولِ اللهِ اهتدى، قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاه"(رواه مسلم), وقالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من هو أَسْفَلَ مِنْكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إِلى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهْوَ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نَعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ"(متفق عليه).
عباد الله: ولا أَضَرَّ على الأُسَرِةِ في هذا الزمنِ, مِنْ تَتَبُّعِ أفرادِها ليومياتِ المشاهِيرِ، والانسياقِ خَلْفَ دعاياتٍهم وإعلاناتِهم المُزَخرَفَة, تَسْويْقٌ لمتاجِرَ, وترويجٌ لمأكولاتٍ ومُقْتَنَيَاتٍ وَكَمَالِيات, مَصْحوبٌ بالزَّجِّ والتحريضِ والإغراءِ على الشراءِ, تَسْتَنِزِفُ به الأُسْرَةُ أموالَها، ويُحَقِقُ به المشهورُ لنَفْسِهِ فاحِشَ الثراءَ؛ (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)[الإسراء: 29], إِن بَسْطَ الكَفِّ بتصريفِ الأموالِ بلا تَعَقُّلٍ ولا تَفَطُنٍ ولا حِساب, سَيُقْعِدُ المرءَ يوماً ملوماً محسوراً.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِـمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إليهِ؛ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا لله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين ونسلم تسليماً.
أما بعدَ : فاتقوا الله -عباد الله-؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2، 3].
أيها المسلمون: إِنَّ مِقْوَدَ الأُسْرَةِ يجبُ أَنْ يُقبضَ بِكَفٍّ مِنَ الحكمةِ والحزمِ والتوازُنِ؛ لتبقى الأُسرةُ في رغدٍ من العيشِ لا يخلخِلُه خلافٌ، ولا يدَنِسُهُ بُخْلٌ، ولا يقُعُدُ بِهِ تبذيرٌ، ولا يُفْسِدُهُ إسراف.
ووليُ الأُسْرَةِ وعائِلُها هو القَوَّامُ عليها في تدبيرِ شؤونها، وهو المخَوَّلُ في تصريفِ المالِ فيها بما يُصلِحُها؛ (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النساء: 34], وكُلُّ وليٍ, يُنفِقُ من المالِ بقَدرِ ما وَسَّعَ اللهُ بِه عليه؛ (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7].
وكما أَن الوَلِيَّ لا يَكُوْنُ بَخِيْلاً ولا مُمْسِكاً ولا مُقتراً, فإن عليه أَن يُنْفِقَ بالمعروف، وأَن لا يَكُوْنَ مُبذراً ولا مُسْرِفاً ولا مُضَيِّعاً.
كَمْ مِنْ أُسْرةٍ اضْطَرَبَت وَضَاقَتْ بالحياةِ ذَرْعاً وافْتَقَرَت, كان لها مورِدٌ من المالِ يَسُدُّ حاجَتَها وعن الناسِ يُغْنِيْها، ويُقِيمُ عُودَها ويَسْتُرُها ويكفيها؛ لمَّا لَمْ تُحسِن للمالِ إدارةً ولا لشؤونهِ تدبيرِاً؛ رَكِبَت مراكب السفهاءِ فأَسرَفَت في الإِنفاقِ، واسْتَطالَت في الترفِ، وبالغت في التزودِ من الكمالياتِ, فما أفاقَت إلا حينَ رَسا مركَبُها على شاطئِ الشّدَّةِ والحاجةِ والضيق!.
عباد الله: واللقاءاتُ الأُسَرِيَّةِ, جِسرٌ للتواصُلِ ممدودٌ، وهي صِلَةٌ للرحمِ وعمَلٌ محمود, فإِنْ هِيَ قَامَتْ على الإِسْرافِ والتفاخُرِ والتكاثُرِ؛ عُدِمَتْ ثَمَرَتُها، واسْتَحالَت حلاوَتُها, وتضاعَفَ إرهاقُها, وإِنْ هِيَ قَامَتْ على الاقتصادِ والتخفيفِ والتيسيرِ؛ طال بقاؤها، وطاب عطاؤها, وامتدَ نَفْعُها وعَظُمَ أَثَرُها, وكذا كُلُّ لقاءٍ مُشتَرَكٍ بين قرابَةٍ وصُحبةٍ وجيران, يَنْحَنِيَ الغَنِيُّ رِفقاً بالضعيفِ، وإلى هذا المعنى الشريفِ أَرشَدَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حينَ أقامَ عُثمانَ بنَ أَبِي العَاصِ -رضي الله عنه- إماماً لقومه وقال له: "واقتَدِ بأضعفِهِم".
عباد الله: وعلى المسلمِ العاقِلِ أَن يعلمَ أَن الأخذَ بالأسبابِ مسلكٌ شَرْعيٌ يُؤجَرُ عليه, وعليه قبل ذلك وبعدَه أن يعلمَ, أَنًّ اللهَ هو الذي قَسَمَ بينَ العبادِ معايِشَهُم, فلا غَنِيَّ يُحسَدُ لِغِناه، ولا فَقِيرَ يُزْدَرى لِفَقْرِه؛ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[العنكبوت: 17].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم