الأذى وصوره في واقعنا

د. منصور الصقعوب

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الوعيد الشديد على أذية المسلمين 2/أعظم الأذية أذية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم 3/من صور أذية الناس 4/من أشنع الأذية أية المؤمنين في دينهم

اقتباس

وتشريع ما يناقض الدين, وما يتعارض مع تعاليم سيد المرسلين, وجرُّ المجتمع لبعض السوءات؛ كالاختلاط في الأسواق والتعليم والأعمال, أذىً بليغ يئن منه كل مؤمن, ويبوء بإثمه من سنّه, وكل وزرٍ وقع فله منه نصيب, والوقوف في وجه...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أيها المسلمون: هناك فعلٌ لا أحد يحب أن يوصف به, ولا أحد يحب أن يقع عليه من غيره, هو أمرٌ ذم الله الواقع فيه في القرآن, وتوعده بوعيد توجل منه نفوس أهل الإيمان؛ إنه الأذى, ومن منا يحب أن يؤذى؟! ومن منا من يرضى أن يكون مؤذياً؟! وفي القرآن عبرة لأولي العرفان, (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 57-58].

 

وفي سنة المصطفى وعيدٌ شديد؛ ففي حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم, ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته, ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة".

 

معشر الكرام: المرء يعمل في الدنيا الصالحات, وينتظر الثواب من رب البريات, ولكنّ من الناس من يفرق حسناته بين أعاديه, وذاك ثمرةُ أذيته لهم, وفي الصحيح: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ, فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ, وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا, وَقَذَفَ هَذَا, وَأَكَلَ مَالَ هَذَا, وَسَفَكَ دَمَ هَذَا, وَضَرَبَ هَذَا, فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ, أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ, ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ", صورٌ من الأذى ذهبت بأعماله.

 

وكم ينبغي على المسلم أن ينأى بنفسه عن الأذية بكل صورها؛ ليسلم دينه, وتبقى أعماله, ولا يسخط عليه ربه, فالله قد يسخط على العبد حين يُغضِبُ ويؤذي عباده المؤمنين, قال قتادة: "إياكم وأذى المؤمن؛ فإن الله يحوطه ويغضب له".

 

وأنت راءٍ في المجتمع صوراً عديدة من الأذى, تحصل ربما ولم يبالِ بها من آذى, وما درى أن من الأذى ما يمحق الحسنات, ويكفي فيه وصف رب البريات (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58].

 

عباد الله: وحين يُذكر الأذى فأشنع الأذى ما يقع في حق المولى؛ فسبُّ الله والاعتراض على قدره, والتنقص لدينه, والاستهزاء بأوامره أذى له, وقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)[الأحزاب: 57], وقال في الحديث القدسي: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ, بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ".

 

وأذى الرسول -عليه الصلاة والسلام- مِن أسوأ الأذى؛ فشتمُه -عليه الصلاة والسلام-, والقدحُ في عدالة أصحابه الكرام, والتطاول على أهل بيته, واتهام زوجته, كل ذلك نوعٌ من الأذى يبوء المرء بجرمه دنيا وآخره, وما أعظم ذنب امريء آذى رسول الله, ولينتظر العذاب إن لم يتداركه بالتوب رب الأرباب.

 

عباد الله: وبعد ذلك أذى العباد, وذاك يكون بالقول والفعال, ويكون أذىً حسياً وربما معنوياً, وتتفاوت شناعته بحسب المؤذى وقوة الأذى.

 

فأعظم الأذى للمؤمن: قتله وسفك دمه, ودونه التعدي على بدنه بجرح ونحوه, و"لن يزال المؤمن في فسحة من دينه؛ ما لم يصب دماً حراماً" قاله رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

 

ولعن المسلم وتفسيقه وتكفيره, نوع من الأذى بليغ, وأسلوب من التعدي شنيع, "ولعن المؤمن كقتله"، "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه", "ومن قال لأخيه "يا كافر, فقد باء بها أحدهما", نصوص من كلمات سيد البشرية -عليه الصلاة والسلام-, فهل يعي هذا من على لسانه لعنُ المسلمين وشتمُهم, وربما كانوا من أهله وأقاربه؟, وهل يعي هذا من يهجر إخوانه وربما أرحامه, ويتذكر أن ذلك كقتلهم, وهو نوعٌ من الأذى؟, وهل يعي هذا من كفّر مسلماً لم يخرج من دائرة الإسلام؟, ولعمري فذاك أذىً من أشنع الأذى.

 

عباد الله: وأخذ مال المسلم بغير طيب نفسٍ منه نوع من الأذى و"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة".

 

وأذية المؤمنين بالغيبة والنميمة, صورة من الأذى يبوء بمعرتها من آذى, وكل ظالم فسترد عليه ظلامته, وفي الصحيح: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء", ومن روائع المقال قَولة يحيى بن معاذ الرّازيّ: "ليكن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه، وإن لم تُفرِحه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه".

 

يا كرام: والأذى الذي يحصل من بعض قادة السيارات؛ إما بتعريضهم غيرهم إلى الخطر بسرعتهم وتهورهم, أو بإغلاقهم بعض الطرقات من غير مراعاة للناس, أو برفعهم أصوات المعازف ليسمعها غيرهم, كلها صنوف من الأذى التي نراها في طرقاتنا.

 

وتخطي المصلين في المسجد, وإزعاجُهم بالصوت الرفيع بالحديث العارض أو الاتصال, صورٌ من الأذى تشكو منها مساجدنا, وقد قال -عليه الصلاة والسلام- لمن رآه يتخطى الرقاب وهو يخطب: "اجلس فقد آذيت", والأمر يزداد شناعة حين يؤذى المصلون في بيوت الله بأصوات المعازف وهم في بيت الله, وذاك أذية لعباد الله ولملائكته.

 

وحين تنبعث من المرء الرائحة الكريهة, فيعمد لبيت الله للصلاة؛ فقد عرّض المسلمين والملائكة لأذاه, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ"(رواه مسلم).

 

وإلقاء الأذى في طرقات المسلمين, أو في أماكن جلوسهم وتنزههم, أو التخلي في مواردهم, صورٌ من الأذى, وقد جاء رجل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: "يا رسول الله! علمني شيئاً ينفعني الله به، فقال: انظر ما يؤذي الناس؛ فاعزله عن طريقهم", وقد غفر الله لرجل وجد غصناً على طريق, ففي الحديث: "بينَما رجُلٌ يمشي بطريقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ على الطريق، فأخَذَهُ -وفي روايةٍ: فأخَّرَهُ-، فشكَرَ الله له؛ فغَفَرَ لهُ" (متفق عليه).

 

عباد الله: وأذى المسلم لعماله وأجرائه؛ بهضم حقوقهم وتأخير أجورهم, وتكليفهم ما يغلبهم, صورة من صور الأذى نراها في مجتمعنا, وما أعظم الأذى يكون على الضعفة ممن لا يجدون ناصراً, وكم رأينا من يشكو من هؤلاء ظلم الكفلاء, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ".

 

أيها الفضلاء: ومسبة الأموات, والتعرض لهم ولمزهم, أذية للأحياء من أهلهم, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء"(رواه الترمذي).

 

ولربما رأيت من يتصدق ثم يعود فيؤذي من تصدق عليه بمنّه عليه وتنقصه, وبيان فضله عليه, وذاك مما يحبط أجر الصدقة, وقد قال الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)[البقرة: 264].

 

وحديث المرء ومناجاته لمن معه دون الثالث نوع من الأذية له, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يتناجى اثنان دون واحد؛ فإنّ ذلك يؤذي المؤمن، واللّه ﻷ يكره أذى المؤمن".

 

وأذية الرجل في ابنته من صور الأذى المذموم, وكم من امرئ تزوج امرأة فظل يؤذيها ويؤذي أهلها بالجور في حقها وظلمها, والبنت بَضعةٌ من والديها يسوؤهما ما يسوؤها, وليس بكريم من تُفتح له الأبواب فيُزوّج, فيؤذي المرأة بأقواله المُهينة, وأفعاله المشينة, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنّما ابنتي بضعة  منّي, يريبني ما رابها, ويؤذيني ما آذاها".

 

والطعن في الأنساب وتنقص المرء في حرفته أو في شكله أو قلّة ماله وغير ذلك, نوع من الأذى الذي لا يرضاه المسلم, ولا يحبه الله, وكل شيء يثقل عليه ويحزنه إذا سمعه؛ فإنه نوع من الأذى, فاحرص أن تسلّم نفسك منه .

 

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.

 

عباد الله: ومن أبلغ الأذى: أن يتعرض المرء لجيرانه بما يكرهون؛ من قولٍ مؤذي أو فعل غير مرضي, أو تعدٍ على حقوقهم, أو تطاول على حرمتهم, وذاك أمرٌ لا يفعله كامل الإيمان, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره", و"لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من لَا يَأْمَن جَاره بوائقه".

 

أيها المسلمون: ومن أشنع الأذى: أن يؤذى المؤمنون في دينهم, وكم لهذا الأمر من صورٍ في مجتمعنا؛ فلمز الصالحين, وسبُ العلماء, واتهام نيات الدعاة, والتطاول على المصلحين, صنوف من الأذى المشينة, فلتكن لها نابذاً, وعنها مباعداً.

 

وتشريع ما يناقض الدين, وما يتعارض مع تعاليم سيد المرسلين, وجرُّ المجتمع لبعض السوءات؛ كالاختلاط في الأسواق والتعليم والأعمال, أذىً بليغ يئن منه كل مؤمن, ويبوء بإثمه من سنّه, وكل وزرٍ وقع فله منه نصيب.

 

والوقوف في وجه الآمرين بالمعروف الذين يُصلحون إذا فسد الناس, وتتبع عثراتهم, والافتراء عليهم, والتطاول عليهم بالقول, وأشنع منه التعدي بالفعل, نوع من الأذى في الدين لا يرضاه كل مؤمن, ويخشى معه من عقوبةٍ تحل بالمؤذي وبمن قدر على نصرته فتوانى.

 

وجماع الأمر أن الأذى مذموم, والمؤذي متعرض للوعيد, والقصاص -إن فات في الدنيا- فهو في الآخرة بالحسنات, وإذا كان الأذى مذموم في حق الحيوانات, فكيف حين يؤذى أكرم المخلوقات, وهو الإنسان المؤمن؟! وقد قال الفضيل بن عياض: "لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف بمن هو أكرم مخلوق؟!".

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏-صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

المرفقات

الأذى وصوره في واقعنا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
أم باسل حجاج
24-02-2019

بارك الله فيكم وجزيتم الجنه ونفعنا واياكم بالعلم والعمل الصالح