عناصر الخطبة
1/ وجوب العدل ومكانته 2/ مجالات العدل 3/ من علامات الساعة كثرة الظلماقتباس
فالظلم ليس خاصًّا بصورة من الصور، بل هو في معاملة الله بأن تفرده وحده بالعبادة، ألا يتوجه قلبك إلى سواه، فهو المنعم؛ فإذا ذكرت غيره فقد ظلمت، وإذا عصيت أمره فقد ظلمت، وإذا تورطت فيما نهاك عنه فقد ظلمت، وخرجت عن سنن العدل، وإذا اعتديت على ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده هو الحليم الحميد المجيد، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فتقوى الله تجلب كل خير، وتدفع كل سوء وشر (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، فبالتقوى تُستجلب الخيرات وتُستدفع البليات، يدرك الناس بالتقوى خيري الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وأوليائك المفلحين وحزبك المتقين يا رب العالمين.
أيها المؤمنون عباد الله: الله -جل في علاه- خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، وهذا غاية الخلق ومقصود الوجود (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وإنه لا يتحقق ذلك إلا بما أمر الله -تعالى- به عباده الأولين والآخرين (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فأمر الله -تعالى- بالعدل والإحسان الذي بهما تتحقق العبودية؛ فإن العدل به قامت السماوات والأرض، العدل أنزل الله -تعالى- الكتب وأرسل الرسل لإقامته، قال -جل وعلا-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]، أي: ليقوم الناس بالعدل؛ العدل في حق الله -عز وجل-، والعدل في حق الخلق؛ فلا يمكن أن يهنأ الناس، ولا أن يطيب لهم معاش، ولا أن يقوم لهم عمران، ولا أن تصلح لهم البلدان إلا بتحقيق العدل في كل شأن، وفي كل دقيق وجليل.. العدل في خاصة أنفسهم، والعدل في كل شيء من أمر دينهم ودنياهم.. في صلتهم بربهم وفي صلتهم بالخلق.
لذلك أكد الله -تعالى- العدل أمرًا وحثًّا وبيانًا لأهميته، ونهيًا عن ضده في كتابه في مواضع عديدة، فقال في أول ما أمر عباده: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) [النحل:90]، وقال -جل وعلا- لرسوله: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ) [الشورى:15]، فأمر الله -تعالى- بالعدل توجه لكل أحد، الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن سواه من الخلق.
أيها المؤمنون: إن الله -تعالى- أمرنا بالقيام بالقسط؛ والأمر بالقسط والعدل كثير في كتاب الله -عز وجل-، وليس ذلك اختياريًّا في حق أحد دون أحد، بل العدل المأمور به في كتاب الله يشمل كل شيء يتناوله الإنسان ويتعامل معه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].
فكل خروج عن العدل فهو اتباع للهوى تحت كل مسوغ، وفي أي حال؛ فإن الخروج عن العدل ظلم وجور، والله -تعالى- لا يصلح عمل الظالمين ولا يحب الظالمين -جل في علاه-.
أيها المؤمنون: إن العدل منزلة عليا، بها تطيب الحياة، ويصلح مسير الإنسان لله -عز وجل-؛ فالعدل في حق الله ألا تعبد سواه، فكل مَن عدل مع الله غيره وتوجه إلى سواه فإنه ظالم، وكل من عصى الله فإنه ظالم، وكل من خالف ما أمر الله به فإنه ظالم، وكل من اعتدى على حقوق الخلق فإنه ظالم، وكل من جار في الحكم فإنه ظالم.
فالظلم ليس خاصًّا بصورة من الصور، بل هو في معاملة الله بأن تفرده وحده بالعبادة، ألا يتوجه قلبك إلى سواه، فهو المنعم؛ فإذا ذكرت غيره فقد ظلمت، وإذا عصيت أمره فقد ظلمت، وإذا تورطت فيما نهاك عنه فقد ظلمت، وخرجت عن سنن العدل، وإذا اعتديت على الخلق فقد ظلمت.
فإذا حققت العدل في معاملة الله بتوحيده، والعدل في معاملة الخلق بإعطاء كل ذي حق حقه فأبشر؛ فإن الله -تعالى- قد رتب على العدل أجراً عظيمًا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في صحيحه: "إن المقسطين عند الله" أي: أهل العدل منزلتهم ومرتبهم وأجرهم عند الله "على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل -وكلتا يديه يمين- الذين يَعدِلُون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُـوا" أي: وما تولوا من أمور خاصة أو عامة.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، وأعنا على الصدق والعدل في القول والعمل يا رب العالمين، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- اتقوا الله -تعالى-، واعدلوا كما أمركم الله -تعالى- في كل شأن من شؤونكم؛ فالله قد أمركم بالعدل، وجعل ذلك طريقًا لتحصيل الفضل، فلا سعادة في الدنيا ولا فوز في الآخرة إلا بأن تكون من عباد الله المتقين العادلين في كل شأن دقيق أو جليل، في خاصة نفسك أو في عامة معاملتك.
واعلم أن العدل لا يختص فقط بالحكم بين الناس، بل يكون في كل شأن من شؤونك الخاصة والعامة، فأنت محتاج إلى العدل؛ في الحكم بين الناس، سواء كان ذلك على وجه الولاية، أو كان ذلك على وجه التحاكم، أو كان ذلك على وجه تقويم الآراء والأقوال؛ فاتق الله فقد قال الله -جل وعلا- (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 58]، سواء كان حكمًا ولائيًّا؛ كالقضاة وغيرهم، أو كان حكمًا بتراضي الخصوم كالمحكّمين، أو كان حكمًا على الآراء والأشخاص والشعوب والمعاملات، ولم يكن في ولاية وحكم يتعلق به إنقاذ فصل خصومة (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ)، في كل شأن (أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:58].
أيها المؤمنون: إننا مأمورون بالعدل مع أنفسنا بأن نقيمها على الحق، ولذلك جاءت الأوامر في كتاب الله -عز وجل- أن يعدل الإنسان مع نفسه؛ فلا يحملها ما لا تطيق من العمل، و"إن لزوجك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ فأعطِ كل ذي حقّ حقه".
هذا هو مقتضى العدل أن تكون على إنصاف في كل ما تأتي وفي كل ما تذر، لذلك لا يختص العدل بشيء من أحوال الناس بل يعم كل شأنهم؛ في معاملتك مع ولدك أنت مأمور بالعدل، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، سواء كان ذلك في إعطاء الحقوق التي تدعو إليها الحاجات أو في إعطاء العطايا التي بلا حاجة بل هي منحة وعطية، أنت مأمور بالعدل في هذا كله، فاتق الله واعدل بين ولدك.
كما أنك مأمور بالعدل بين زوجاتك إذا كنت معددًا؛ بأن تعطي كل ذي حق حقه؛ فلا تبخس زوجة على أخرى، ولا تمل إلى واحدة دون أخرى، بل الواجب العدل فيما يتعلق بما يجري فيه العدل من القَسْم دون حَيْف ولا ظلم، أما محبة القلب فذاك أمره إلى الله ليس للإنسان عليه سبيل "هذا قَسْمي فيما أملك؛ فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك".
أيها المؤمنون: إن العدل يكون في كل شأن؛ فمن العدل في الولايات أن تنجز معاملات الناس، وألا تحابي أحدًا على حساب أحد، بل تعطي كل ذي حق حقه، فذاك الذي يحبس المعاملات، ويقدم من يشتهي ويؤخر من يشتهي، وينتظر عطاء على كذا، أو هدية لأجل أن ينهي عمل أو معاملة؛ فإنه ظالم لم يؤدِّ الأمانة ولم يؤدِّ العدل الذي أمر الله به في قوله (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ).
أيها المؤمنون: إن من علامات الساعة أن يكثر الظلم في الناس، والظلم قرين الجهل فعندما يكثر الجهل، ويكثر في الناس الشر والفساد يكثر الظلم بينهم ويتلاشى العدل.
ولذلك جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- من علامات الساعة أن يكثر الظلم، وأن تملأ الأرض جورًا، وإن يفشو الظلم في حياة الناس في خاصتهم وعامتهم، وهذه المدنية التي يعيشونها سواء أن كان ذلك فيما ما يرونه من حضارة وبنيات شاهقة وثورة معلوماتية وتقنية لم تخلص الإنسان من ذاك الوصف الذي ذكره الرحمن في قوله: (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72]، حمل الأمانة وتخلف عن أدائها لوصفين:
الوصف الأول: أنه ظلوم، والوصف الثاني: أنه جهول.
فبقدر ما معك من السلامة من هذين الوصفين بقدر ما تحقق في سلوكك وأخلاقك وعملك العدل والعلم تنال السعادة وتنجو من الظلم، وتستعين بذلك على تحقيق ما أمرك الله -تعالى- به من حمل الأمانة (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.. اللهم ارزقنا تحري العدل في القول والعمل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم