عناصر الخطبة
1/ معاني اسم الله الوكيل 2/ حقيقة التوكل على الله 3/ بركات الإيمان باسم الله الوكيل 4/ أمور تنافي التوكل على الله.اقتباس
وأي قوة تلك التي تخيف أو تزلزل من آمن باسم الله الوكيل بعد أن استقر في قلبه أن الوكيل -عز وجل- كافٍ من توكل عليه، قال -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق: 3]، وقد عرض القرآن صورة لجيل فريد توكل على ربه الوكيل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: ما من العباد عبد إلا وهو يبحث لنفسه عن ركن شديد يستند إليه ويعتمد عليه، ويفزع إليه في حاجاته عند خوفه ورجائه، وما من ركن هو أشد وأقدر وأغنى وأكرم من الله -عز وجل- فهو على كل شيء قدير، وهو الكريم الذي لا يبخل، وهو القادر القدير المقتدر الذي لا يعجزه شيء، ومن أجلنا سمى نفسه الوكيل لنتوكل عليه -عز وجل-.
أيها المسلمون: إن من أسماء الله -عز وجل- "الوكيل"، والوكيل هو الحفيظ الحافظ لأفعال العباد المحصي لها، ومنه قوله -تعالى- على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) [يونس: 108]؛ يعني: وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم، ولا أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين بالله، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى" (ابن كثير).
والوكيل كذلك: هو المتكفل بأرزاق العباد، المتولي لتدبير شئونهم، والقائم على قضاء مصالحهم، الذي يتولى أمور أوليائه ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم، ويردهم عما فيه بوارهم،
والوكيل هو -أيضًا- الكافي الذين يلجأ إليه العباد ويعتمدون عليه، فيكفيهم ويغنيهم، فهو الموكَّل والمفوّض إليه، من العباد العاجزين القاصرين الضعفاء، فالوكيل -سبحانه- هو الذي يتصرف لغيره لعجز موكله. (التعريفات للجرجاني).
أيها المؤمنون: إن المؤمن الحق هو من توكل على ربه حق توكله، وحقيقة التوكل هي: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، وقطع الطمع من المخلوقين، وهو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، مع اتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- في السعي فيما لا بد منه من أسباب المطعم والمشرب والتحرز الأعداء... بشرط عدم الاعتماد على السبب، وقصد مسبب الأسباب وحده -سبحانه وتعالى-.
عباد الله: ليس من سمع كمن عاش وذاق وتنعم، فإن من عاين وتذوق يخبرك أن للتوكل على الله الوكيل -سبحانه- حلاوة وله بركات جليلة، منها ما يلي:
قوة الجنان وثبات الأركان: وأي قوة تلك التي تخيف أو تزلزل من آمن باسم الله الوكيل بعد أن استقر في قلبه أن الوكيل -عز وجل- كافٍ من توكل عليه، قال -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق: 3]، وقد عرض القرآن صورة لجيل فريد توكل على ربه الوكيل حق التوكل؛ فما كان منهم عند الزلزلة والتخويف إلا أن ثبتوا وانتهض الإيمان في قلوبهم يكافح ويبيد ويبدد كل مخاوف نسجها المخدوعون الواهمون: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 172-173].
ومنها: التخلق بأخلاق المؤمنين والانضمام إلى زمرتهم: فقد وصف القرآن المؤمنين في غير ما آية بأنهم على ربهم يتوكلون، فقال: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51]، وفي أوصاف المؤمنين -كذلك- قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
ومنها: الاستجابة لدعوة الوكيل -سبحانه- بالتوكل عليه: فكم دعانا الله -سبحانه وتعالى- ألا نتوكل إلا عليه، وجعل ذلك علامة على الإيمان: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]، وفي آية أخرى يأمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- ومن خلفه من المؤمنين قائلًا: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 3]، وثالثة: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل: 9].
ومنها: النجاة من كيد الشيطان: فإن من عاش مع اسم الله الوكيل وتوكل عليه حق توكله عصمه الوكيل -عز وجل- من نزغات الشياطين، هكذا وعد الله -تعالى- حين قال: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 98-99]، وقد خاطب الجليل -سبحانه- إبليس قائلًا: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) [الإسراء: 65]؛ وليس هذا مختصًا بالنجاة من كيد شياطين الجن وحدهم؛ بل إن من توكل على الوكيل -سبحانه- عصمه ونجاه من كيد شياطين الإنس كذلك، قال -تعالى- واصفًا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- حال أعدائه من شياطين البشر وسبيل النجاة من كيدهم: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء: 81]، ويعيد -تعالى- نفس المعنى مرة أخرى قائلًا -عز من قائل-: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 48].
بل كذلك النجاة من أهوال الآخرة، ومن كل هَمّ، فعن أبي سعيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ"، فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا" (الترمذي).
ومنها: الفوز بحب الله -تعالى-: الذي أعلنها واضحة في قوله -عز من قائل-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
ومنها: إصابة الوكيل الحق: فما من الناس واحد إلا وهو يتوكل على أحد، فمنهم من يتوكل على عقله وعبقريته، ومنهم من يتوكل على ماله وكثرة، ومنهم من يتوكل على أهله وولده وقبيلته، ومنهم من يتوكل على منصبه ووجاهته، ومنهم من يتوكل على قريب أو حبيب أو جار أو صاحب، بل إن منهم من يتوكل على إله غير الله -تعالى-، لكن واحدًا فقط هو المصيب؛ ذاك من يتوكل على الوكيل -سبحانه وتعالى- وحده لا شريك له، هكذا قالت الرسل لمن كذبوهم: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 12]، وهكذا قال يعقوب -عليه السلام- لأولاده: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [يوسف: 67].
ومنها: الثمرة العظمى وهي الجنة؛ فبعد أن قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [العنكبوت: 58]، عرَّف الله -عز وجل- أصحاب الجنة هؤلاء بأنهم: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت: 59]، بل ولهم الأجر في الدنيا قبل الآخرة، فقد قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 41-42].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المتوكلون على الله: لا بد أن نحذِّر الآن، بعد أن علمنا حقيقة التوكل وثمراته وعشنا في أجواء اسم الله الوكيل، من قوادح تقدح في توكل العبد على ربه، ومنها:
الاعتماد على السبب، بحيث يغفل عمن سبَّبه -سبحانه وتعالى-، فهذا من خوارق التوكل بل من خوارق التوحيد -نعوذ بالله-، كما أن ترك الأخذ بالأسباب نقصان في العق، والحق أجراه الله على لسان مسلم بن يسار حين قال: "اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب الله له" (الزهد لأحمد بن حنبل)، فنأخذ بالسبب مع اعتقادنا أنه لا ينفع ولا يضر وإنما النافع الله -تعالى- وحده.
ومن القوادح كذلك ترك العمل بالأسباب، وهذا مخالف لمراد الله الوكيل الذي أمر ببذل الأسباب والسعي في تحقيق المطالب؛ قال -تعالى-: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]؛ فهذا عمل... ولما سأل رجل عن ناقته فقال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ كانت الإجابة النبوية: "اعقلها وتوكل" (الترمذي).
وقد حذَّر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من ترك الأخذ بالأسباب؛ فقال: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول: "اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة"، وكان زيد بن مسلمة يغرس في أرضه فقال له عمر -رضي الله عنه-: "أصبت استغن عن الناس يكن أصون لدينك وأكرم لك عليهم" (إحياء علوم الدين).
ومنها: عدم التسليم لقضاء الله عند النوائب؛ ولو توكل العبد على الله حق التوكل لسلَّم لله أمره كله، ولصبر على بلائه وعَلِم عِلْم اليقين أن: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار" (ابن ماجه).
ومما ينافي التوكل على الله -تعالى- التطير والتشاؤم، فإن المتوكل الحق يوقن ألا شيء يضره سوى الله، وأنه إن توكل -بحق- على ربه لا يضره ما يتشاءم منه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطيرة شرك" (ابن ماجه).
فاللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، نؤمن بك، ولا نتوكل إلا عليك، فكن يا رب حسبنا ووكيلنا.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم