اسم الله الكبير وأثره في الاستخلاف

عمر القزابري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ المستكبرون عن السجود أهل مهانة وذل 2/ تعريف \"الكبير\" لغة واصطلاحًا 3/ تفضل الله للإنسان بالعقل 4/ على الإنسان أن يستمد صفاته من صفات خالقه 5/ لمن تتحقق خلافة الله في الأرض؟! 6/ العالم الحق 7/ مظاهر استخلاف الإنسان في الأرض

اقتباس

فخلافة الله لك لا تكون لأي إنسان فقط لمجرد أنه إنسان، ولكن خلافته تكون لمن يستحق الخلافة بجدارة، وذلك باتصافه بصفات الله وطاعته له –عز وجل- في كل أمور الحياة، فكيف يكون مؤهلاً ومستحقًا للاستخلاف امتدادًا من اسم الله الكبير من يصغر أمام الشهوات وينبطح أمام الإغراءات، كيف يكون مؤهلاً للاستخلاف من عنده استعداد أن يتنازل عن كرامته وعزته مقابل إغراء أو إغواء أو تخويف أو تسويف!!

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا؛ وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

 

معاشر الصالحين: التيقظ بالمعارف إيقاظ للقلوب من الغفلات، والتعارف بالتذاكر احتفاظًا للضمائر من الهفوات، وأشرف صور التواصل مع العبادات ما كان مذكرًا بربهم الكبير المتعال.

 

نلقي بهذه الخواطر التي هي زواجر منبهات، وعظات نافعات، قصدًا منا انتفاع العباد؛ ليكون ذلك كله جلاءً لبصائرنا وشحذًا لما كبا منا، وتمشيطًا لما فرّ عنا، ونظمًا لما تناثر دوننا.

 

تكلمنا في خطبتنا السالفة عن بعض مظاهر العظمة والكبرياء لربنا له الجلال والحمد والثناء، وما تحدثنا عنه ما هو إلا شيء يسير مما بلغنا خبره، وإلا فربنا أعظم وأكبر.

 

قدرة لا تحاط، وحكمة لا ينال منتهاها، ومشيئة لا يدرك مداها، وعجز منا عن الإدراك مسلّم في أولاها وأخراها، ولولا شدة النفس الكذوب وجماح الطمع الوثوب لكان اليقين منا تلو الإيمان، والتسليم قبل البرهان، والثقة في الخبر قبل الشهادة بالعيان؛ لأن ربنا المنعم بدأنا بالنعمة قبل الاستحقاق، وأسلف العتق قبل الاسترقاق، فهذه الروائق ففيم البوائق؟!

 

أيها العبد: إذا صفت لك سجدة واحدة بعد إدراكك لشيء من عظمة ربك فما أعظم حظك!! فالسجود لذة الصادقين، وسلوة العارفين، ووسام الواصلين، وما كان كذلك إلا لما فيه من معرفة المراتب؛ ففي السجود تتحقق صفتك على وجه الحقيقة، فأنت الأدنى وهو الأعلى -سبحانه وتعالى-.

 

فوالله إنه لشرف ما بعده شرف، وعز ما بعده عز أن يأذن الله لك أن تسجد له، فإذا عرفت هذا فتحت لك أبواب لذة السجود للملك المعبود.

 

تأمل -يا أيها العبد- في قول سيدك وموجدك: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحج:18].

 

الذين استكبروا عن السجود هم أهل المهانة والذلة، والذين شرفوا بالسجود هم أهل العزة والكرامة.

 

نتحدث اليوم -بإذن الله- في نفس السياق عن اسم الله "الكبير" وأثره في استخلاف الإنسان في الأرض؛ لأن أسماء الله الحسنى ليست مجرد أسماء تحفظ ثم تسرد ثم يتغنى بها في المجالس، ولكنها أسماء كشفها الله لنا لنعمل بمقتضاها باعتبار كل واحد منا الإنسان المستخلف الإمام.

 

فالكبير تعريفًا كما يقول صاحب الفروق اللغوية: "هو اسم من أسماء الله -سبحانه وتعالى-، وهو يدل على صفة من صفاته الحسان؛ فهو الكبير فوق كل كبير، وهو الأكبر الذي لا يساويه أكبر". اهـ.

 

ومن مظاهر كبره وكبريائه سبحانه أنه خلق الإنسان على هذه الأرض وميّزه عن كل هذه المخلوقات بأن أحسن خلقه، وفي هذا الأمر كبر، أي علو ومجد، قال -جل شأنه-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4].

 

وهذا الإنسان فضّله المولى -عز وجل- بأن زوده بالعقل ليدرك به الصواب والخطأ، ويكون بذلك أعظم المخلوقات على الإطلاق، فهو أفضل من الملائكة إذا تغلب بعقله على شهوته، وترك المعاصي والتزم الطاعات إجلالاً لربه الأكبر فينال بذلك الدرجة التي يقول فيها رب العزة في الحديث القدسي العظيم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى قال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ -تأملوا في هذه المنازل- وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ". رواه البخاري.

 

فيا أيها الإنسان، يا من خلقك الله تعالى واستخلفك في الأرض وسخر لك المخلوقات لخدمتك: عليك أن تكون كما أراد خالقك بأن تستمد صفاتك من صفاته، فتكبر عن الرذيلة وتكبر عما يصغرك في القول والفعل حتى توصف بالكبر الذي يؤهلك لأن تكون مستخلفًا في الأرض، كما يراد لك أن تكون مميزًا بما ميزك الله به عن بقية المخلوقات، وأن تعظم بعظمته، وتكبر بكبره، وتستحق بذلك خلافة الله العظيم.

 

فخلافة الله لك لا تكون لأي إنسان فقط لمجرد أنه إنسان، ولكن خلافته تكون لمن يستحق الخلافة بجدارة، وذلك باتصافه بصفات الله وطاعته له –عز وجل- في كل أمور الحياة، فكيف يكون مؤهلاً ومستحقًا للاستخلاف امتدادًا من اسم الله الكبير من يصغر أمام الشهوات وينبطح أمام الإغراءات، كيف يكون مؤهلاً للاستخلاف من عنده استعداد أن يتنازل عن كرامته وعزته مقابل إغراء أو إغواء أو تخويف أو تسويف!!

 

كيف يكون مؤهلاً للاستخلاف من يغير مواقفه كل لحظة تبعًا لفتات يرمى له أو عطايا أو منح؟! فهؤلاء وأمثالهم عطلوا أدوات الاستخلاف، فعرضوا أنفسهم للاستخفاف ليلتحقوا التحاق هبوط لا التحاق مماثلة أو صعود، ليلتحقوا بعالم الأنعام التي وجهها إلى الأرض.

 

قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ)، أدوات الاستخلاف: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].

 

ومن العجب أن تأتي بعد هذه الآية مباشرة في سورة الأعراف: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، في إشارة جلية إلى أن انتسابك لهذه الأسماء وتمثلك بها في حياتك وجعلها عنوان استخلافك هو الذي يرقيك في مراقي الصعود، ويخرجك من عالم الانحسار والقعود، لتلبس حُلّة العبودية اختيارًا، وشتان ما بين عبودية الاختيار وعبودية الاضطرار.

 

يقول ربنا -جل شأنه-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد:9]، يستشف من هذه الآية أن الله -سبحانه وتعالى- كبير في علمه؛ لأن الآية بدأت بـ(عَالِمُ الْغَيْبِ)، (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)، كبير في علمه وقدرته، وهذا يفهم من اقتران اسم الكبير مع المتعال في هذه الآية؛ فهو -سبحانه وتعالى- الكبير عن كل مقارن، الذي لا يتوارى عن علمه شيء، وهو أيضًا المتعالي والمستعلي عن كل شيء بقدرته عليه وبعلمه به.

 

وعلى من استخلفه الله في أرضه أن يتصف بصفات الخالق -عز وجل-، ومن هذه الصفات "العلم"؛ امتثالاً لأول أمر من رب السماء نزل به الروح الأمين على قلب الأمين -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق:1]، فالقراءة هي أول مستخلف في العلم وفي الأرض على وجه الحقيقة، هو الذي يقرأ باسم من استخلفه في الأرض التي يراد له أن يكون فيها قارئًا مصلحًا وغير سافك للدماء.

 

فـ(اقْرَأْ) جاءت على صيغة الأمر، وأمر العلي لابد أن ينفذ، فكان الأمر كذلك مع سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قرأ بالأمر الذي يتضمن تحقيق الفعل بالأمر، ثم أقسم الله في الآية الثانية التي نزلت بعد (اقْرَأْ) أقسم الله بعد ذلك بأداة التعلم وهي القلم: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1].

 

وفي هذا تعظيم لأدوات العلم، وبالتالي تعظيم للعلم ضمنًا، فالقسم دائمًا لا يكون إلا لمعظم، ولكن هذه القراءة حتى تكون مثمرة وهذا العلم حتى يكون نافعًا لابد أن يكون باسم من استخلفك لا باسم غيره.

 

وكما نرى ونسمع اليوم مع الأسف ممن يدعون المعرفة والثقافة كذبًا يسخّرون معرفتهم وأقلامهم للسخرية من الدين وتعاليمه، ويقدَّمون -في الإعلام وغيره- يقدَّمون في المجتمع على أنهم مفكرون ومبدعون، فكيف يسمى المبعد مبدعًا!! فالأليق به أن يسمى مبتدعًا.

 

فشتان بين العلم البديع وبين النجيع والرجيع، فاقرأ باسم ربك يقتضي أن تكون قراءتك وتحصيلك ودعوتك وكتاباتك تتناغم مع مراد الله -سبحانه وتعالى-.

 

أما إذا أخرج العلم عن هذا المقصد فهو علم بالاسم خالٍ من سر التزكية، لا يحقق إصلاحًا ولا ينشد فلاحًا، وأصحابه متوعدون بالإبعاد في الدنيا والذل يوم يقوم الأشهاد، فأعظم ثمرة للعلم هي الخشية، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء).

 

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًا وجهرًا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي يتصاغر أمام عظمته العظماء، وينهار أمام كبريائه الكبراء، الملك الجبار القوي القهار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، والصلاة والسلام على أعرف الخلق بالله وأوصلهم به وأحظاهم لديه، سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتبعه-، ما نجم لاح وما فلق إصباح.

 

معاشر الصالحين: قال ربنا: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:28]، قال الإمام القرطبي -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية قال: "يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته -سبحانه وتعالى-".

 

فمن علم أنه -عز وجل- قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)، قال: "الذين علموا أن الله على كل شيء قدير".

 

وقال الربيع بن أنس: "من لم يخش الله تعالى فليس بعالم"، وقال مجاهد: "إنما العالم من خشي الله -عز وجل-، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كفى بخشية الله تعالى علمًا وبالاغترار جهلاً".

 

وقيل لسعيد بن إبراهيم: "من أفقه أهل المدينة؟!"، قال: "أتقاه لله -عز وجل-"، وقال الإمام علي: "إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ لأنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها". رضي الله عن هؤلاء الكبار وتعاريفهم التي كانت تصدر من قلوب متصلة بالله.

 

إذًا فمن مظاهر استخلافك في هذه الأرض انطلاقًا من اسم الله الكبير أن تكون في بحث دائم متواصل وسعي حثيث نحو المعرفة نحو العلم الذي يعرفك بهذا الكبير -جل في علاه-، فتكبر ساعتها وتكبر نفسك وتعلو على السفاسف والنواقص والخوارم.

 

أما إذا وصل بك علمك وشهاداتك وأسانيدك -إلى غير ذلك- إلى الاستكبار على خلق الله، ومدح نفسك، وتنقيص غيرك، فاعلم أنك بهذا العلم ما قصدت به وجه الله ولا قصدت رضوان الله، وإنما أردت أن يشار إليك بالبنان، وتنعت بأنك إمام العلم والبيان، وهذا خطر عظيم آخره النار، عياذًا بالله العزيز الغفار.

 

إذاً فمن أعمل عقله وتعلُّمه في طرق العلم والهداية يكن خير الخلق وهو الخليفة، أما الجاهل الذي لا يُعمل عقله في الآيات التي سخرها الله من حوله لهدايته فيكون كما وصف الله شر الخلق والخليقة: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22].

 

وقد ورد كذلك اسم الكبير في القرآن مقترنًا باسم العلي في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج:62]، وقد جاء قبل هذه الآية قوله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [لقمان:29].

 

في هاتين الآيتين دليل على أن الله -عز وجل- عظيم وكبير في قدرته، فهو الذي بقدرته يولج الليل في النهار، وما ينقص من ساعات النهار في الليل، وهو الذي يدخل ما ينقص من ساعات الليل في النهار، وما ينقص من ساعات النهار في الليل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ).

 

وهذا لا يقدر عليه إلا كبير القدرة وهو الله، وهو بذلك مستحق للعبادة ومتفرد بالألوهية؛ حيث لا تصلح الألوهية إلا لمن كملت قدرته، والخليفة الذي استخلفه الله لابد أن يكون أيضًا قادرًا بالقوة التي خلق عليها بأحسن تقويم، فيستمد قدرته من قدرة الخالق -عز وجل-، فيبدأ بنفسه، أي أن يكون قادرًا على ترويض نفسه أولاً وكبح جماحه، فيروض نفسه على الطاعات والعبادات التي أوجبها الله تعالى، ويكبح جماح نفسه عن فعل المعاصي التي ينهى عنها المولى -عز وجل- وتسبب في إغضابه وتعرض مرتكبه إلى عقابه وعذابه.

 

ثم بعد ذلك وانطلاقًا من هذه القدرة يمضي في قضاء حوائج الناس والتفريج عنهم بحسب طاقته ووسعه، لا يكون همه نفسه فقط وأولاده، ولكن إلى جانب ذلك يهتم بقضاء حوائج إخوانه، ويدفع عنهم الأذى، مستصحبًا مع ذلك التذلل والافتقار إلى الله -عز وجل-.

 

قال تعالى عن كليمه موسى -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا...)، استخدام القوة في محلها، (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص:23، 24].

 

فالقدرة والقوة من الآدمي إذا لم تغلّف بغلاف التذلل والافتقار قادت صاحبها إلى الطغيان والعلو والتجبر على خلق الله، ساعتها يعرض نفسه لانتقام القدير المقتدر -سبحانه وتعالى-.

 

ثم إنه يجب على هذا الإنسان المستخلف بمقتضى ما أعطاه الله من قدرة وقوة واستمدادًا من اسم الله الكبير أن يكون قادرًا على إفادة المسلمين، وكذلك على إعلاء كلمة الله والدفاع عن الإسلام وعن نبي الإسلام سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

أن يكون مهيَّأً ومستعدًا لكل هجمة حاقدة تسعى إلى النيل من الإسلام، وهذه القدرة حتى تكون على هذا المستوى لابد لها من ثلاثة أمور، قدرة عقائدية وقدرة علمية عقلية وقدرة بدنية.

 

القدرة العقائدية: بأن تكون عقيدتنا في ربنا وديننا ونبينا قوية راسخة لا تتزعزع، وأن نسهم -وهذا أمر غاية في الأهمية أيها الأماجد- أن نسهم في تقوية هذه المعتقدات في نفوس أبنائنا وشبابنا بكل قوة وإصرار، وذلك بإطلاعهم على هذه الحقائق وبكل شفافية، حتى يدخل الإيمان في قلوبهم بأن الله واحد أحد، وأن العدل بين الناس حق، فيعملوا به وعليه، وأن العذاب حق فيجتنبوا كل قول أو فعل يؤدي إليه، وأن النار حق يزهق بها الباطل، وأن الجنة حق ينصر بها الحق، وأن البعث حق من بعده الحياة السرمدية، وأن الدنيا فانية فلا يجعلوها في قلوبهم، ولا ينسوا نصيبهم منها، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق فيتبعوا رسالته الخاتمة ويصلوا عليه كما يصلي الله وملائكته عليه.

 

وهذا يقتضي منا ألا نتركهم هملاً، وألا نسلمهم للضياع؛ لأننا إذا أسلمناهم للضياع كنا مسؤولين عنهم يوم القيامة، وإذا لم نعلمهم نحن هذه المعاني، إذا لم يتلقوها منك -أيها الأب- فاعلم أنهم لن يتلقوها من أحد، خصوصًا في زمننا هذا، زمن الفتن والشهوات والشبهات والمباريات والمقاهي والملاهي وقلة المعين من تعليم وإعلام وغير ذلك.

 

المسألة الثانية: القدرة العلمية، وهي أن يكون الخليفة ذا قدرة علمية وعقلية تمكّنه من الرد على الافتراءات والأكاذيب الباطلة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين بالحجج والبراهين والأدلة العقلية والعلمية التي تكون في الوقت ردًا على الأكاذيب وأدلة إقناع للمترددين، مع الحكمة والرفق في محلهما، والشدة في محلها.

 

وبذلك يعطي المسلم صورة حسنة للمسلم الرباني الحق، الخليفة المستمد استخلافه من اسم الله الكبير، وهذا الأمر يحتاج إلى عالم ومتعلم، عالم رباني ومتعلم متأنٍّ، عالم لا يستهويه بريق المال، ومتعلم لا يريد أن يصل في الحال.

 

أما القدرة البدنية: فليحرص كل من يريد أن يكون خليفة لله في أرضه على أن يكون قادرًا بقوته الجسدية أن يتحمل مسؤوليته المنوطة به من أجل إعلاء كلمة الله، قال ربنا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ).

 

وقال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير". رواه مسلم.

 

وعلى هذا فالذي يهلك نفسه ويدمّر قوته بتعاطي الخمور، والذين يشربون الدخان ويتعاطون المخدرات والمهلكات؛ كل هؤلاء غير مؤهلين للاستخلاف، أما الذين يبيعون لهم هذه المهلكات فهم غير مؤهلين للاستخلاف من عدة وجوه وطرق؛ منها: أنهم يحاربون الله الكبير المتعالي العلي بنشر ما يهلك عباده ويصرفهم عنه، فهم متوعدون -بلا شك- بالذلة والقلة والعذاب إن لم يتوبوا ويؤوبوا إلى ربهم الكبير. ولنا وقفات إن شاء الله مع بعض المعاني.

 

اللهم أهّلنا لنكون مستحقين لخلافتك...

 

 

 

المرفقات

الله الكبير وأثره في الاستخلاف

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات